د. أحمد بن عبد الله العماري
لقد أمرنا الله ـ تعالى ـ بتلاوة كتابه، وتدبره، وفهمه، والتفكر فيه؛ لما لذلك من الآثار في النفس البشرية، من الاستقامة على الصراط المستقيم، والابتعاد عن السوء، أو الأمر به، ولئلا تبقى مترددة فيما تقدم عليه من فعل الخيرات، والبعد عن المنكرات، حتى تكون في حالة اطمئنان، ويقين، وخضوع، وخشوع لمن خلق فسوى، وقدر فهدى.
وإن ّقصة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ مع طاغية زمانه فرعون، قد عُرضت في القرآن الكريم في مواضع متعددة، بأساليب متنوعة، فيها من الدروس، والعبر، والعظات الشيء الكثير.
كما أن عرض هذه السيرة ـ سيرة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ مع فرعون طاغية عصره ـ فيها دعوة لأولئك القوم الذين تكبروا في الأرض بغير حق، وطغوا، وتجبروا، واستكبروا، وسعوا في الأرض بالفساد؛ لكي يتفكروا في مصيرهم وعاقبته، فإن أخاهم فرعون ادعى الربوبية والألوهيّة: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] . وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] .
وتَهدَّدَ قومه أن يتخذوا إلها سواه، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فما استطاع أن يكف عن فمه شربة من الماء، وفي ذلك بيان لضعفه، واحتقاره، وهوانه على الله ـ تعالى ـ.
فعلى الطغاة الظالمين في كل عصر ومصر، أن يراجعوا حساباتهم، ويُعملوا عقولهم، التي وهبهم الله ـ تعالى ـ، ويُنقذوا أنفسهم من النار، قبل أن يحق عليهم القول فلا يستطيعون لأنفسهم حولاً ولا قوةً، والعاقل من اعتبر واتعظ، ونهى النفس عن الهوى.
وصدق الله القائل: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] .
والقائل: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [يوسف: 111] .
ولما قرأت سورة القصص ذات يوم، تداعت لدي خواطر وتأملات، فأحببت أن أسطر بقلمي ما فتح الله عليّ به من سيرة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ مع ذلك العدو المتكبر «فرعون» عليه من الله ـ تعالى ـ ما يستحق؛ تذكرة وعبرة، والله من وراء القصد، وهو يهدي إلى سواء السبيل.
1 ـ واقع الناس قبل ميلاد موسى ـ عليه السلام ـ:
كان في مصر فريقان من الناس: فريق يٌسمّون «بنو إسرائيل» ومنهم موسى ـ عليه السلام ـ، وفريق آخر يٌسمّون «القبط» ومنهم فرعون الطاغية.
وكان بنو إسرائيل مستضعفين من قبل القبط، حيث كانوا يستخدمونهم في أمور الحياة كلها، استخداماً فيه امتهان واستذلال، وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك، فقد قال بنو إسرائيل لموسى ـ عليه السلام ـ: {قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] .
فقولهم (أوذينا من قبل أن تأتينا) دال على عظم ما كانوا يلاقون من الفريق الآخر، وهم القبط، لكن موسى ـ عليه السلام ـ بشرهم بهلاك عدوهم، وأن العاقبة لهم.
يقول ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «وعند أهل الكتاب أن بني إسرائيل كانوا يُسخّرون في ضرب اللَّبن، وكانوا مما حملوا من التكاليف الفرعونيّة أنهم لا يُساعدون على شيء مما يحتاجون إليه فيه، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه، ويُطلبُ منهم كل يوم قسطٌ معين، إن لم يفعلوه وإلاّ ضربوا وأهينوا غاية الإهانة، وأوذوا غاية الأذية» (?) .
وفي هذا الجو المحموم ولد موسى ـ عليه السلام ـ.
2 ـ ميلاد موسى ـ عليه السلام ـ:
ولد موسى ـ عليه السلام ـ في جو مملوء بالرعب، والخوف، والقتل، والتشريد.
ولد في العام الذي يقتل فيه كل مولود ذكر من قبل فرعون الطاغية وقومه الأقباط.
ولد موسى ـ عليه السلام ـ في طائفة مستضعفة كل الاستضعاف، متفرقة مشتة، يسومهم فرعون وقومه سوء العذاب، يُذَبِّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم.
إنّ البلاء يقع على الفرد والجماعة، ويتفاوتون في درجاته؛ لكن الذي وقع على بني إسرائيل كان من أعظم البلاء، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} . [البقرة: 49]
لكن الله هيأ له من يرعاه، ويدافع عنه، ويتولى شؤونه على مرأى ومسمع من فرعون وجنوده وهم لا يشعرون، وتتجلى بعض مظاهر تلك الرعاية لموسى ـ عليه السلام ـ في عدة أمور:
أولاً: إلهام أمه إذا خافت عليه من العدو أن تلقيه في اليم؛ حتى لا يقع في يد الظلمة ـ فرعون وجنوده ـ
قال ـ تعالى ـ: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] .
ثانياً: هيأ الله له آل فرعون يلتقطونه من اليم، وينقذونه من الغرق، وهم أعداؤه المتربصون به، الخائفون منه، العازمون على قتله والتخلص منه.
قال ـ تعالى ـ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8] .
ثالثاً: قذف الله ـ سبحانه ـ في قلب زوجة فرعون الطاغية حبّ ذلك الطفل الرضيع، فوقفت سداً منيعاً بحبها الحاني على ذلك الرضيع الغريب الضعيف، ضد القوة والقسوة والغلظة من فرعون وجنده تجاه موسى ـ عليه السلام ـ، فاستوهبته من فرعون؛ ليكون قرة عين لها وله، فوهبها إياه مع عدم رضاه بذلك.
قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] .
فرفض «فرعون» هذا العرض من امرأته، زاعماً أنه ليس بحاجة إليه، ولله ـ تعالى ـ الحكمة البالغة.
وقد جاء في حديث «الفتون» : «أن امرأة فرعون أرسلت إلى من حولها من النساء؛ من أجل أن تقوم بإرضاعه، فلم تجد، حتى جاءت أخته بعد أن أرسلتها أمها؛ لكي تتحسس أخبار موسى، فلما رأته دلتهم على من يرضعه» (?) .
قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 11 - 12] .
رابعاً: حرّم الله ـ تعالى ـ على موسى ـ عليه السلام ـ جميع المراضع سوى أمه.
3 ـ موقف أم موسى من الحدث والقلق على ابنها:
يعجز اللسان عن التعبير، والقلم عن الكتابة، في وصف حال تلك الأم الحنون.
3 يقول سيد قطب: (وهاهي ذي أمه حائرة به، خائفة عليه، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين، وترجف أن تتناول عنقه السكين، ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة، عاجزة عن حمايته، عاجزة عن إخفائه، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه، عاجزة عن تلقينه حيلة أووسيلة، هاهي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة) .
(يالله! يا للقدرة! ياأم موسى أرضعيه، فإذا خفت عليه وهو في حضنك، وهو في رعايتك، إذاخفت عليه وفي فمه ثديك، وهو تحت عينيك، إذا خفت عليه {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} !!.
{وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} إنه هنا في اليم؛ في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها، اليد التي لاخوف معها، اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها، اليد التي تجعل النار برداً وسلاماً وتجعل البحر ملجأ ومناماً، اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولاجبابرة الأرض جميعاً أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب.
{إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ} فلا خوف على حياته، ولا حزن على بعده، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وتلك بشارة الغد، ووعدالله أصدق القائلين.
هذا هو المشهد الأول في القصة؛ مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح، وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحروق برداً وسلاماً، ولا يذكر السياق كيف تلقته أم موسى؟ ولا كيف نفذته؟ إنما يسدل الستار عليها ليرفعه) (?) .
(لقد سمعت الإيحاء، وألقت بطفلها إلى الماء، ولكن أين هو ياترى؟ وماذا فعلت به الأمواج؟ ولعلها سألت نفسها: كيف؟ كيف أمنت على فلذة كبدها أن تقذف به في اليم؟ كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أمّ؟ كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة؟ وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب؟
والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية (فارغاً) لاعقل فيه ولا وعي، ولا قدرة على نظر أو تصريف! {إن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص: 10] ، وتذيع أمرها في الناس، وتهتف كالمجنونة: أنا ضيعته، أنا أضعت طفلي، أنا ألقيت به في اليم اتباعا لهاتف غريب!.
{لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10] ، وشددنا عليه، وثبتناها، وأمسكنا بها من الهيام والشرود؛ {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10] المؤمنين بوعد الله، الصابرين على ابتلائه، السائرين على هداه) (?) .
4 ـ موقف أخت موسى من الحدث والدور الذي قامت به:
إنّ النص القرآني يجمل موقف أخت موسى ـ عليه السلام ـ في أمرين:
الأول: كونها رأته من بعد، وتيقنت ذلك الأمر.
والثاني: مشورتها لآل فرعون بطريق الاستفهام، أنها تعرف من يكفله لهم، ويقوم بإرضاعه بنصح وأمانة، لكونه ـ عليه السلام ـ لم يتلق رضاعاً من أحد، ولم يلثم ثدياً بتدبير الله ـ تعالى ـ في ذلك.
قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 11 - 12] .
وهذه طريقة القرآن في عرض المشاهد يجمل ولايفصل، ولكن هذا الإجمال يرى فيه الناظر كأنما شاهد القصة أوالحدث كاملة أومتكاملة، وهذا من بلاغة القرآن الكريم وإعجازه.
لقد سبق الحديث عن حال أم موسى، وما كابدته، وما تعانيه من خوف وقلق على ابنها الرضيع الذي ليس له حول ولا قوة ولا حيلة.
أمّا أخته فإنها تشارك أمها في المعاناة، وفي القلق والخوف على أخيها، ولكنها هي نفسها ضعيفة مسكينة مستضعفة في قوم فرعون وجنوده، شأنها شأن بنات ونساء بني إسرائيل المستضعفات في ذلك العصر من المفسدين الظالمين، ومع ذلك كله قامت بالدور المطلوب، فلله درها من امرأة حرة كريمة، تغلّبت على المخاوف الداخلية في نفسها، والعلنية في واقعها، وتحايلت على قوم جبارين؛ حتى أنقذت أخاها من بين أيديهم بعد توفيق الله ـ تعالى ـ وتأييده.
ولقد قامت بهذا الدور في خفية، وحذر من فرعون وجنوده: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: 11] . ولو شعروا أن هذه أخته، وأنها تبحث عنه ـ والله أعلم ـ لما سلمت هي منهم، ولربما نفذوا فيها وفي أخيها حكم الإعدام، ولكن الله سلّم، وله في ذلك حِكَمٌ جليلة عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ: «وذهبت أخته تقص أثره في حذر وخفية، وتتلمس خبره في الطرق والأسواق، فإذا بها تعرف أين ساقته القدرة التي ترعاه، وتبصر به عن بعد في أيدي خدم فرعون يبحثون له عن ثدي للرضاع» (?) .
ولما نظرت أخته إلى حال أخيها وحالهم، وهم في حيرة من أمره ودهشة، حيث لم يقبل الرضاع قالت لهم في استحياء، وخوف، ووجل؛ من أن ينكشف حالها وحال أمها بطريق الاستفهام: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} ؟ فنكَّرت البيت الذي سيقوم بإرضاعه، ولم تكشف لهم عن حاله شيئاً، مع أنها زكت أهل ذلك البيت لمعرفتها بذلك، وهذا من الفطنة بمكان بعد توفيق الله ـ تعالى ـ. فما صدقوا بذلك حتى استجابوا لها، ولبّوا طلبها، وذهبت به إلى أمها في سرور داخلي غير مكشوف، وفي فرحة تغمرها برجوع أخيها معها إلى أمها. وقيل: إنهم أرسلوا إليها، فقدمت إليهم على استحياء.
وورد في حديث الفتون: «أن أخته قالت لهم من الفرح حين أعيا الظئورات (?) : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم، وهم له ناصحون؟ فقالوا: وما يدريك ما نصحهم؟ هل يعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك! فقالت: نصحهم له، وشفقتهم عليه، ورغبتهم في صهر الملك، ورجاء منفعة الملك، فأرسلوها، فانطلقت إلى أمها، فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريّاً، وانطلق البشير إلى امرأة فرعون» (?) .
وأيّاً كان الأمر أذهبت به إلى أمها، أو أن أمها أتت إليه، وأخذته، وأرضعته؟ فالعبرة باللقاء الذي تم بين الأم والأخت والابن الرضيع، بعد تلك المعاناة الشديدة من الذهول، والخوف، والقلق من الأم والأخت على ذلك الطفل الرضيع.
وـ لله درك ـ يا أخت موسى على ذلك الدور الذي قمت به في ذلك الجو المخيف، والمجتمع الموبوء المحيط بك وبأمك وبأخيك، ذلك الدور الذي قلما يقوم به عظماء الرجال، فكيف بالنساء! وكم نحن بحاجة إلى تملي الدروس، والعظات، والعبر، واستنباطها من خلال النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة، والسيرة النبوية، وكم نحن بحاحة إلى اللجوء إلى الله الذي بيده مقاليد الأمور كلها، والأخذ بالأسباب، والتوكل عليه، والصبر في الطريق بدون تردد ولا انهزام.
وبعد تلك المعاناة عاد الرضيع الغائب إلى أمه سليماً معافىً محفوظاً بحفظ الله له، بعد تسخير أعدائه برعايته وكلاءته، فتحققت البشارة برجوع موسى ـ عليه السلام ـ إلى أمه الحائرة الخائفة الفارغة الذاهلة المتلمسة لأخباره صباح مساء.
ما أعظم فرحتك يا أم موسى بموسى! هل الأمر حقيقة أم خيال؟ عيون تدمع من الفرح، وصدر يضمه من الفرح، وثغر يقبله من الفرح، وثدي يرضعه من الفرح، وقلب ينبض من الفرح، ونفس مطمئنة من الفرح، وأيدٍ ترعش من الفرح، وأرجل تميس من الفرح.
ما أرحمك يارب بعبادك! وما أحلمك يارب بعبادك! وما أكرمك يارب بعبادك! من دعاك أجبته، ومن استغفرك غفرت له، ومن سألك أعطيته، ومن استعاذك أعذته، ومن توكل عليك كفيته، ومن خاف منك أمَّنته، ومن استنصرك نصرته، ومن استجارك أجرته، ومن تقرب إليك شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليك ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاك يمشي أتيته هرولة.
لقد لجأت أم موسى إلى الله ـ تعالى ـ فربط الله على قلبها، وهدّأ من روعها، وكادت تبدي بخبر موسى لولا وعدالله لها ـ سبحانه ـ بأنه: سيعيده إليها، وسيكون ـ زيادة على ذلك ـ من المرسلين. قال ـ تعالى ـ: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] .
وقالى ـ تعالى ـ: {فَرَدَدْنَاهُ إلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص: 13] .
5 ـ رحلة في النهر لرضيع في المهد:
يبرز للعيان عدة أسئلة لانجد لها جواباً، بل الجواب لها عناية الله، ورعايته، وتدبيره لحياة ذلك الطفل الرضيع؛ ومن تلك الأسئلة:
3 هل يعقل أن طفلاً رضيعاً يقتحم النهر ويعبره؟ مع أن النهر فيه من المخاوف ما الله به عليم.
لكن رعاية الله ـ سبحانه ـ تحيط به، وتحفظه من بين يديه، ومن خلفه، ومن فوقه، ومن تحته، ومن أمامه، ومن ورائه، فلا يصل إليه مكروه، فأوحى الله إلى أمه ـ وحي إلهام ـ أن ترضعه، وألاَّ تخاف ولا تحزن، فإذا شعرت أن زبانية فرعون قادمون إليها فعليها أن ترسله؛ بل تقذفه في اليم بدون تردد، ولا خوف، ولا وجل، وبَشَّرها مع ذلك بعودته إليها، وأنه سيكون من المرسلين.
وعَبَرَ الرضيع النهر يتقاذفه الموج من هنا وهناك، ويسوقه وهو في بطن ذلك التابوت في هدوء، وسكون، وفي راحة، وطمأنينة قدرية، ليس له حيلة ولا بصيرة مما هو فيه، لاعقل يفكر به، ولا بصر ينظر به، ولا سمع يميّز به ما يسمع، ولا لسان يعبر به ويبين به عما في جوفه، ولا يد يبطش بها، ولا رجل يمشي عليها، كل هذه الجوارح مسلوب العمل بها؛ لكونه لا زال في المهد رضيعاً، لكن عناية الله، ورعايته، ورقابته، تحيط به وتحفظه من كلِِّ شيء، وصدق الله القائل: {لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67] ، ولكن الناس لا يعلمون.
وقد ساقته عناية الله بلطف وهدوء، وهو يسبح في تابوته على سطح اليم إلى شاطئ قريب من بيت فرعون وجنوده، فاستقبلته الجواري اللاتي يخدمن زوجة فرعون، وحملن التابوت بما فيه دون أن يكشفنه إلى سيدتهنّ، فلما كشفن عنه هيأ الله له في قلب امرأة فرعون المحبة والإجلال ـ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ـ، ولكن كيف تتعامل مع زوجها الظالم القاضي بذبح كل مولود ذكر في ذلك العام؟ هل تخفيه عن العيون وتتستر عليه؟ إنها لا تسطيع ذلك؛ لأن أمره قد ذاع وانتشر في أوساط الجند والحاشية.
إن بيوت الجبابرة قد يوجد فيها الاختراق، إمّا من داخلها أومن خارجها، وإذا قَوِيَ التوكل على الله لدى الإنسان قويت عزيمته، وإذا أخذ بالأسباب الشرعية في الوصول إلى الأهداف فإن الله ـ تعالى ـ يسهل له الطريق، ويلين له القلوب، ويجعل الله له مع العسر يسراً، انظر إلى ما هيأه الله لهذا الرضيع وهو في المهد، لا يعرف توكلاً، وليس له عزيمة ولا قدرة، ولا يعرف وسيلة، ولا هدفاً، ولا غايةً، وهو في قبضة من يريد ذبحه والتخلص منه، وليس لديه أيّ تردد في ذلك، وهو داخل داره، وبين جنوده وغلمانه، ومع ذلك هيأ الله له من يعطف عليه، ويدافع عنه، ويجادل فرعون في أمره وهو لا يشعر بذلك، فأصبح عدواً وحزناً لفرعون في داخل داره، ومع ذلك صرف الله عنه بطش فرعون، وظلمه، وطغيانه، ومع إصرار زوجة فرعون ودفاعها عن الاعتداء على ذلك الطفل؛ استجاب فرعون لها، مع تخوفه منه وكرهه لذلك، واستنفرت خدمها للعناية بموسى ـ عليه السلام ـ فكلّفتهم البحث عن المرضعات؛ لكي يقمن بإرضاعه وإطعامه، فحضرن وحاولن أن يرضعنه، لكنه امتنع عن ذلك، فلم يلقم ثديا ًعلى الإطلاق؛ لأن الله ـ تعالى ـ حرّم ذلك عليه لحكمة يريدها سبحانه. قال ـ تعالى ـ: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] . وقد بيّن لنا الله شيئاً من تلك الحكمة، قد سبق ذكر بعضها.
ورجع موسى إلى الحضن الذي فارقه، وإلى اليد التي تلقته وحملته، وإلى العين التي دمعت عليه وودعته، وإلى الثغر الذي قبّله ولثمه، ثم فارقه، ثم عاد إليه مرة ثانية، كيف فرحتك يا أم موسى برضيعك البحّار، وصغيرك الغائب؟.
6 ـ نشأة موسى في بيت عدوه «فرعون» :
أما غلامنا الهادئ، والذي لازال في المهد، فجَرَت قدرة الله ومشيئته أن يلتقطه آل فرعون من اليم الذي أرسل فيه؛ خوفاً عليه، وهرباً من فرعون وآله، والذي أصدر بياناً يقضي بقتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، وقدر الله ـ وماشاء فعل ـ أن يسوق موسى ـ عليه السلام ـ وهو لازال في مهده إلى بيت فرعون؛ ليكون عدواً لهم وحزناً؛ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وحاولت آسية ـ امرأة فرعون ـ أن ترغب أم موسى للبقاء معها في مقر فرعون، وتغدق عليها من النعم والخيرات، لكنها رفضت ذلك وامتنعت، وعاش في كنف أمه سليماً معافى، والكفالة والرعاية تصل إليه وإلى أمه من بيت آل فرعون.
فلما كبر وترعرع طلبته (آسية) أن يقدم إليها؛ لكي تراه وتشاهده، وأمرت حاشيتها باستقباله وتكريمه بالهدايا والجوائز، وتم ذلك.
وورد في حديث الفتون: (فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أريني ابني! فوعدتها يوماً تريها إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخزانها، وظئورها، وقهارمتها: لايبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة؛ لأرى ذلك فيه، وأنا باعثة أميناً يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم. فلم تزل الهدايا، والكرامة، والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته؛ فرحاً به، ونحلت أمه بحُسْنِ أثرها عليه) (?) .
وزهت زوجة فرعون بابنها المدعى، وفرحت به فرحاً شديداً، وأرادت تكريمه زيادة على ما فعلت، ففكرت في إدخاله على فرعون؛ ليكرمه ويرفع من شأنه؛ وليغدق عليه من الحلل والجوائز، وعزمت على ذلك، وقالت: (لآتين به فرعون؛ فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض.
فقال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم بنيه أنه: زعم أن يرثك، ويعلوك، ويصرعك؛ فأرسل إلى الذباحين؛ ليذبحوه) (?) .
سبحان الله! كيف وصل الحال بفرعون وبطانته السيئة إلى أن يفسروا تحركات ذلك الطفل الصغير أنها تهديدات وتوعدات بانقضاء ملك فرعون؛ على يد ذلك الطفل الرضيع؟
لقد استيقنت نفوسهم أنهم على غير الحق، لكن التكبر في الأرض بغير حق يؤدي بصاحبه إلى عدم الانصياع للبراهين والأدلة الصادقة، ولقد هرعت آسية ـ زوجة فرعون ـ حينما علمت بأمر زوجها الذباحين أن يذبحوا موسى؛ تناقشه في شأن ابنها الصغير موسى، وتريد أن تقنعه بأنه طفل صغير، لا يعقل من أمور الحياة شيئاً.
لكن فرعون أثار عليها أسئلة في شأن موسى، وزعم أنه يصرعه ويرثه، وأنه يعلو عليه؛ فلا بد من التخلص منه، لئلا يقع منه شيء من ذلك. وربط الظلمة الظالمون بين ما وعد الله ـ سبحانه ـ خليله إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن في ذريته الملك والنبوة، وبين هذا الطفل الرضيع، وظنوا أنه سيكون من أولئك الذرية، الذين سيهدم ويحطم على أيديهم ملك فرعون وجنوده مستقبلاً، وكان الأمر كذلك.
وورد في حديث الفتون (أن امرأة فرعون جاءت إليه تسعى، فقالت: ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال: ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني؟! فقالت: اجعل بيني وبينك أمراً تعرف فيه الحق أنت! ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين، واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين، ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين؛ وهو يعقل.
فقرب إليه، فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة: ألاترى؟! فصرفه الله عنه بعد ما كان همً به، وكان الله بالغاً فيه أمره) (?) .
وهكذا نشأ موسى ـ عليه السلام ـ وترعرع بين أحضان أمه، وتحت رقابة زوجة فرعون آسية التي هيأها الله ـ تعالى ـ؛ لحمايته، ورعايته، ورقابته، والدفاع عنه بالليل والنهار، فصرف الله بسببها عن موسى ظلم الظالمين، وكيد الخائنين، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لايعلمون.
7 ـ موقف فرعون من موسى ـ عليه السلام ـ إلى أن بلغ أشده:
لما شب موسى ـ عليه السلام ـ عن الطوق، وبلغ أشده، صار يُذكر في المجتمع على ألسنة الرجال، وكان عوناً ونصيراً ـ بأمر الله ـ لبني إسرائيل؛ حيث خفف عنهم كثيراً من الأحمال، والأثقال، والسخرية، والاستهزاء، والامتهان، والاحتقار في أوساط المجتمع القبطي.
فبينما موسى ـ عليه السلام ـ ذات يوم يمشي على حين غفلة في تلك المدينة؛ إذ رأى رجلين يقتتلان، أحدهما: إسرائيلي من شيعته، والآخر: قبطي من أعدائه، فاستغاثه واستنصره الإسرائيلي، فأجابه، فقضى على القبطي، كما أخبر الله بذلك في كتابه، فقال ـ تعالى ـ: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 15] . ولا يعلم بهذا الحادث إلا الله ـ تعالى ـ ثم موسى والذي من شيعته.
وانتشر خبر المقتول القبطي في المجتمع وصاروا يبحثون عمن قتله، وأين يكون؟ حتى يقاد، ويقتص منه على فعلته الشنيعة، ورُفع أمره إلى فرعون، واستعظم ذلك، واستنكره، وطلب منهم تقديم البينة، والبحث عن الجاني. وعلم موسى ـ عليه السلام ـ بذلك؛ فأصبح خائفاً في المدينة يترقب الأخبار، ويفكر كيف المخلص ممن يطلبه ويبحث عنه؟
وعاد موسى ـ عليه السلام ـ إلى نفسه وحاسبها، ولامها على ما أقدمت عليه، وعلم أن ما أقدم عليه؛ إنما هو ضرب من عمل الشيطان، فقال لما رأى المقتول أمام ناظريه: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 15] .
ثم لجأ ـ عليه السلام ـ إلى ربه، واعترف بأنه ظلم نفسه، وطلب منه العفو والمغفرة، فهو أهل العفو والمغفرة، كما عاهد ربه أنه لن يكون عوناً ولا ظهيراً للمجرمين. قال ـ تعالى ـ: {قَالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 16 - 17] .
وأصبح موقف موسى مهتزاً؛ لكونه اقترف تلك الخطيئة، فهو خائف من أن ينكشف أمره لأولئك القوم الذين تربصوا به وهو في المهد، فكم حاولوا قتله، والتخلص منه، فكيف وقد وقع منه ما يسئ إليهم؟ ولو انكشف، فأين يذهب؟، وكيف يبحث عن المخرج للهروب؛ حتى لا يقع في قبضة أولئك المجرمين؟.
وقضى الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن ينكشف أمر موسى لدى فرعون وجنوده بطريقة عجيبة؛ حيث لم يتعبوا في استقصاء الخبر، بل جاء الخبر إليهم دون عناء ولا مشقة.
فبينما كان موسى ـ عليه السلام ـ في مدينته خائفاً يترقب الأخبار، إذا هو بذلك الرجل الذي من شيعته الذي استنصره واستغاثه على المعاونة على قتل القبطي، ورآه موسى وهو يريد أن يبطش برجل فرعوني آخر، فطلب من موسى إعانته عليه كما أعانه من قبل على السابق، فاستنكر موسى ـ عليه السلام ـ فعل الرجل، ووصمه بالغواية، وبيّن الله ذلك في كتابه فقال: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مَوَسَى إنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 18] .
نعم إن الإقدام على قتل النفس البشرية بدون مسوغ شرعي عمل لا يجوز؛ بل هو ضلال مبين، واتفقت الشرائع السماوية على المحافظة على النفس البشرية، وعدم إزهاقها إلا بحقها.
فتوقف الإسرائيلي عن الإقدام عن فعلته لما رأى موسى مستنكراً عليه، بل إن الغضب اشتد به وتملّكه؛ حتى إنه خاف من بطش موسى به، فأفشى السر الذي مضى: من قتلهما للفرعوني السابق بقوله: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إن تُرِيدُ إلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19] . فانفك النزاع بين الإسرائيلي والفرعوني، وانطلق الفرعوني بعد ما سمع الحوار الذي دار بين موسى والإسرائيلي إلى قومه، وأخبرهم الخبر.
ولما بدأ الجند يبثون عيونهم من أجل التعرف على مكان موسى؛ لكي يصلوا إليه، أسرع إليه الجندي المؤمن المجهول بتدبير الله ـ تعالى ـ وقضائه له، فأخبره خبر القوم، وأنهم جادون في البحث عنه من أجل أن يقتلوه، واقترح عليه أن يخرج من تلك المدينة قبل أن يصلوا إليه.
وأخذ موسى ـ عليه السلام ـ بنصيحة ذلك الرجل وخرج من المدينة، والخوف يتملكه ليس له معين ولا نصير، ولا ركن شديد يأوي إليه على وجه الأرض.
قال ـ تعالى ـ: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 20 - 21] .
ولقد نجاه الله ـ تعالى ـ من قبضة أعدائه، وامتن ـ سبحانه ـ عليه بذلك، وهو صاحب الفضل والمنة.
8 ـ وما يعلم جنود ربك إلا هو:
لقد عاش نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ في المدينة خائفاً يترقب؛ بسبب ما أقدم عليه من البطش بذلك القبطي، وانتشر خبره لدى من يتربص به الدوائر. وفي غمرة الحدث وتوقع القبض عليه من الأعداء تضيع الأفكار؛ بل تهرب من صاحبها، ولا يدري ماذا يعمل؟ فيصاب بالحيرة في أمره؛ لأنه لايدري من أين يأتيه الحدث؛ لكونه لايعلم الغيب، فيدفع عن نفسه ما اطلع عليه، لكن العناية الربانية، والقدرة، والمشيئة المطلقة هي التي تسير الأمور.
إن العباد مهما أعطوا من القوة والجبروت في الواقع البشري فهم ضعاف مهازيل، وهم في قبضة الله لا يستطيعون جلب خير لأنفسهم، ولا دفع شر عنهم.
فلماذا التكبر، والتجبر، والإعراض، ولماذا المؤتمرات والمؤامرات الجوفاء على بعضهم البعض، والتصريحات الفجة؟.
لقد هيأ الله ـ تعالى ـ لعبده موسى ـ عليه السلام ـ من ينقل إليه خبر أعدائه، ويمحضه النصح، ويرشده إلى الطريق الأسلم. وما أجمل النصح والإرشاد في ساعة الكرب والاختناق.
إن موسى ـ عليه السلام ـ يعيش حالة كرب من تربص أعدائه به، ومتابعتهم له، وبحثهم عنه، وليس له من يعينه بالرأي والمشورة، وهو فرد أعزل من كل شيء. فيأتي ذلك الرجل من مكان بعيد (من أقصى المدينة) تهيأة من الله ومنة منه لعبده الخائف المترقب الوجل، بعد أن علم بخبر القوم، وأنهم يبحثون عن موسى ـ عليه السلام ـ من أجل القضاء عليه، فينطلق مسرعا تجاه موسى يخبره الخبر.
إنه رجل؛ لأنه اخترق الملأ (فرعون وملأه) ، وعرف خبرهم، وعرف خطتهم نحو موسى ـ عليه السلام ـ فأخبره خبرهم.
وإنه لرجل؛ لكونه لم يأبه بفرعون وجنوده، ذلك الرجل الذي ادعى الربوبية والألوهية، ويا ويل من يخالفه في الرأي، أو يخرج عن قانونه! فذهب إلى موسى؛ لكي يخبره، وينقذه من الوقوع في قبضتهم.
كم تحتاج الأمة إلى الرجال الصادقين الصالحين الذين يفكرون لها؛ ويتشاورون في قضايا أمتهم ودينهم، ويكشفون مخططات الأعداء، ويعدون العدة؛ لإنقاذ أمتهم من الوقوع في براثنهم، ويحفظون دينهم من التشويه، والنقص أو الزيادة، ويبلغونه كما جاء من عند الله.
لقد استجاب موسى ـ عليه السلام ـ لنصيحة ذلك الرجل؛ ولا شك أنها وقعت على قلبه برداً وسلاماً، ونفَّست عنه كرباً، وهماً، وحيرة من أمره.
فخرج من تلك المدينة، وربما يكون الهاجس الأمني يسيطر على موسى في طريقه، فربما يلحقون به في الطريق، فينتقمون منه.
خرج موسى ـ عليه السلام ـ وحيداً في طريقه من مدينته الظالم أهلها إلى مدينة مدين، ولسانه يلهج بالدعاء لربه أن يهديه السبيل الأقوم، وأن ينجيه من أولئك القوم الظالمين.
ليس معه من يؤنسه في طريقه، ولا ينفس همه وكربته، ولا يهدّئ من روعه وخوفه، ولا يتجاذب معه أطراف الحديث، ولا يدله على مسالك الطريق، وليس له خبرة من قبل ذلك، وما كان يتوقع أن يصل به الأمر إلى ذلك؛ حيث عاش منعماً مدللاً في بيت الملك والعظمة.
هذه حياة الأنبياء وسيرتهم، وهذه أقدار الله ـ تعالى ـ لهم، تولى الله ـ تعالى ـ تربيتهم، وابتلاهم قضاء وقدراً منه لهم؛ ليكونوا قدوة لمن بعدهم من أمتهم؛ وليعلم ورثة الأنبياء أن الطريق الصحيح هو طريق الأنبياء، فليصبروا، وليحتسبوا على ما يلاقون في طريقهم، وليدعوا ربهم أن يهديهم السبيل المستقيم، وأن ينجيهم من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين، ومكر الماكرين، أسوة بالأنبياء في ذلك، ولا يستعجلوا الطريق، فإن النصر بيد الله ـ تعالى ـ: {وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] .
9 ـ الرحلة البرية الأولى لموسى ـ عليه السلام ـ الخروج من الوطن:
ولقد خرج نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ من بلده الذي ولد ونشأ فيه «مصر» إلى بلد آخر لا يعرفه، ولا يعرف الطريق إليه، يسمى «مدين» خرج وحيداً لا أنيس معه في الطريق من قريب ولا من بعيد يتجاذب معه أطراف الحديث، ويؤنسه وحشة الطريق. ولم يخرج آمناً مطمئناً ينظر في صفحات الكون المشاهد، ويرى عظمة الله ـ تعالى ـ في مخلوقاته المتعددة والمتنوعة، بل خرج خائفاً وجلاً من قوم تمالؤوا عليه؛ ليقتلوه، ويُنزِلوا به أشد العقوبة، وكان يترقب الانقضاض عليه من كل جانب؛ لأنه لايعرف مسالك الطريق، وما تعود ذلك.
آه من وحشة الطريق! وانعدام النصير، وقلة السالك، وجور الباغي، ومطاردته!.
ومن كان هذه حاله ـ خوف يتملكه، وعدو يطارده، ويتهدده ـ يبقى في حالة قلق، وتربص مستمر، وتفكير مضطرب، لايدري متى يبطش به العدو، ويقع في قبضته؟ ولايدري متى يصل إلى قوم يأنس برؤيتهم، ويزيلون عنه شيئاً من العناء، والوحشة، والرجفة، والقلق؟ ولا يدري متى يعود إلى وطنه الذي أخرج منه وهو غير راض بذلك؟.
إنها معاناة في داخل النفس، ومعاناة في الطريق، ومعاناة من قلة الزاد وأنيس الطريق، ومعاناة ممن سيلقاهم أمامه، كيف يأوي إليهم، وكيف يقص خبره عليهم، وكيف يستقبلونه؟.
لكن الرجل المؤمن بالله، والواثق بنصره، والمتوكل عليه حق التوكل، يلجأ إليه، ويعتصم به، ويتضرع إليه، فهو الخالق الرازق، وهو المحيي والمميت، وهو النافع وبيده مقاليد الأمور، لا راد لما قضى، ولا مانع لما أعطى، ولا مذل لمن أعز، ولا معز لمن أذل.
لقد لجأ موسى ـ عليه السلام ـ بجلال الله وعظمته، ودعاه؛ فحماه، وهيأ له من الأسباب وطرق الخير الشيء الكثير.
لما خرج ـ عليه السلام ـ من مدينته وهو خائف يترقب، بعد أن علم علم اليقين: أن القوم يبحثون عنه، وقد عقدوا مؤتمرهم للقضاء عليه، وجاءه الناصح بذلك الخبر، شد عزمه، وخرج من مأزره، وطلب من ربه أمرين عظيمين:
الأول: طلبه النجاة من الظالمين. قال ـ تعالى ـ: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21] .
الثاني: طلبه أن يرشده، ويهديه إلى الطريق المستقيم. قال ـ تعالى ـ: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22] .
إن اللجوء إلى الله ـ تعالى ـ في حالة السراء والضراء هو المطلوب؛ لأن الله سبحانه هو مسبب الأسباب، ومقدر الأمور، وبيده مقاليد كل شيء.
إن البشر مهما أعطوا من القوة، ومهما أعدوا من العدة، فإنهم لايساوون شيئا أمام قدرة الله وعظمته، فالخلق خلق الله، والأمر أمره.
وإن نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ لجأ إلى قوة ما بعدها قوة، وإلى رعاية ما بعدها رعاية، وإلى رقابة ما بعدها رقابة، وإلى إرادة ما بعدها إرادة، لجأ إلى الله ـ تعالى ـ، ونعم بالله، ماخاب من دعاه، ولا خاف من توكل عليه، ولا ذل من لاذ بجانبه.
إن الظالمين نسوا قدرة الله، وظنوا أنهم خارجون من قبضة الله ـ سبحانه ـ، إنهم في غيهم يعمهون، وفي ظلالهم يسدرون، إنهم جاهلون بحقيقة أنفسهم، ومن كان حاله كذلك؛ فهو ظالم لنفسه ولغيره.
ولذا يجب الحذر منهم، وكشف حالهم، والبعد عن العيش في كنفهم، فإنهم لا يزيدون الناس إلا ضلالاً وتباراً.
وعلى المسلم أن يدعو ربه أن يوفقه في أقواله وأعماله، وأن يهديه إلى الطريق، والسبيل القويم؛ فإنه لا يهدي لذلك إلا هو ـ سبحانه ـ، ويجب أن يكون هذا ديدن المسلم، ويزداد ذلك في حالة الكرب والشدة؛ كما فعل نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ.
وبينما نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ ماشياً في طريقه إلى (مدين) ، وقبل أن يصل إلى تلك المدينة، وجد في طريقه ماءً يسمى (ماء مدين) يَرِدُ إليه الناس يسقون رعاءهم، ويروون غليلهم، وإن منظر الرعاة وهم يسقون رعيتهم ـ من الماشية ـ لَيُثيرُ الدهشة لمن ينظر في أمرهم، ويشاهد حالهم.
ولقد لفت انتباه نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ من تلك الأمة المجتمعة على السقي، وقد ابتعد عنهم؛ امرأتان تذودان غنمهما عن ذلك المجتمع، فلا تزاحمان القوم في السقي، وتنتظران صدورهم حتى تتمكنا من السقي بدون مزاحمة ولا مشادة؛ حياءً وخجلاً من مزاحمة القوم؛ أو ضعفاً وعدم قدرة على ذلك، وكلاهما من طبيعة المرأة. فالمرأة العاقلة تقدر وتحترم نفسها ومن وراءها، فكيف إذا كانت من بيت عز ومكانة؛ كهاتين المرأتين؟.
فإن مزاحمة المرأة للناس في منتدياتهم، وفي قضاء حوائجهم ليس من طبيعتها، بل إذا حصل منها شيء من ذلك فإنه سلوك مشين، وخارج عن طبيعتها التي خلقها الله عليها.
ولقد رحم نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ تلك المرأتين اللتين ابتعدتا عن مزاحمة الرعاة، ولما سألهما موسى ـ عليه السلام ـ عن سر بعدهما عن الرعاء؟ أجابتا بأمرين:
الأول: أنهما لا يسقيان أصلاً حتى يصدر الرعاء.
الثاني: أن أباهما شيخ كبير.
ويبدو ـ والله أعلم ـ أن أباهما رسم لهما الخطة في السقي، فلكونه لا يستطيع أن يرد معهما الماء لمساعدتهما في السقي، ولعدم وجود محرم لهما؛ أرشدهما إلى التريث، والبعد عن المزاحمة للرعاء حتى يصدروا، ثم تردان بعدهم الماء، فطبقتا ذلك، وربما يكون ذلك التصرف صادراً منهما؛ لرجاحة عقليهما، وتغلب الحياء والخجل عليهما، حتى لا تقعان في مزاحمة الرعاة، فلله درهما، وشكر الله سعيهما.
وهكذا شأن المسلمات المؤمنات القانتات السائحات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ويبتعدن عن مواطن الرجال في أي مكان كنَّ.
فتقدم موسى ـ عليه السلام ـ إلى الماء، وكشف الغطاء عنه، وأدلى دلوه، ونزع لهما من الماء، وسقى لهما، وعاد إلى الظل مناجياً ومنادياً ربه في خضوع وافتقار، وسكون وانكسار.
أخرج ابن أبي شيبة بسنده عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «أن موسى ـ عليه السلام ـ لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون. قال: فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ـ ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال ـ فإذا هو بامرأتين تذودان، قال: ماخطبكما؟ فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يستق إلا ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم» . قال ابن كثير: إسناده صحيح.
إن نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ حباه ربه قوة في جسمه، وفي عقله، وإيمانه، ومع ذلك يلجأ إلى من حباه تلك القوة، فيعترف بالتقصير والفقر، وألاَّ ملجأ من الله إلا إليه. قال ـ تعالى ـ: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] .
إن هذه المبادرة من نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ في إعانة الضعيف، ومساعدته في قضاء حاجته لهو خلق عظيم حثّ عليه الدين الحنيف.
إن موسى ـ عليه السلام ـ خرج من مدينته خائفاً يترقب، ومن كانت هذه حاله؛ فإنه يبحث عن مكان خفي لايراه الناس، ولا يحب أن يروه؛ حتى لاينكشف أمره؛ خشية أن يدلّوا عليه أعداءه، لكن موسى ـ عليه السلام ـ يبادر إلى فعل الخيرات، ويساعد المحتاج، ويعين الضعيف على قضاء حاجته، مفوضاً أمره إلى خالقه، ومتوكلاً عليه، ومعترفاً بضعفه وفقره أمام ربه وخالقه.
وهكذا يجب على الذين يقتدون برسل الله الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وينتهجون نهجهم، ويسيرون على طريقهم غير عابئين بالعوائق والعقبات التي يلاقونها في طريقهم إلى الله ـ تعالى ـ.
لقد رجعت المرأتان إلى مستقرهما، وإلى أبيهما، وهما تحملان شعوراً عجيباً عن ذلك الرجل الذي بادر إلى السقي لهما وإعانتهما بعدما استفسر عن حالهما، وأخبرتا أباهما بحاله، وربما أنهما سمعتا مناجاته لربه، ونقلتا تلك المناجاة إلى أبيهما.
10 ـ موسى ـ عليه السلام ـ والشيخ الكبير:
لما قام موسى ـ عليه السلام ـ بالسقي لتلك المرأتين الضعيفتين تولى إلى الظل وحيداً فريداً، أين يؤمم وجهه؟ وأين يتوجه؟ وأين يأوي، ويختفي من الأعداء الذين يتابعون أخباره، ويقتفون أثره كي؛ يبطشوا به؟ لجأ إلى ربه العظيم البصير، والسميع العليم، والعزيز الحكيم، واللطيف الخبير، فشكا إليه حاله ـ وهو سبحانه أعلم به ـ فإن الإنسان مهما أعطي من الخير؛ فإنه لازال ولايزال فقيراً إلى خالقه، ورازقه، ومحييه، ومميته، قال ـ تعالى ـ: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] .
ويذكر بعض السلف: أن المرأتين سمعتا هذا الدعاء من موسى ـ عليه السلام ـ، ولما قفلتا راجعتين إلى مقرهما ومسكنهما، واجهتا أباهما بما رأتا وشاهدتا من تصرف ذلك الفتى نحوهما، فأُعِجبتا بقوته، وبأدبه الجم، وبمبادرته لإعانتهما، وذكرتا لأبيهما ما سمعتا منه من ذلك الدعاء الذي يدل على قوة الصلة بالله ـ تعالى ـ، والاعتراف لله ـ تعالى ـ بحاجته إليه؛ مهما أعطي من الخير سواء كان كبيراً أو صغيراً.
إن ذلك يدل على وحشة يعيشها موسى في طريقه. فلما شرحتا لأبيهما حال ذلك الفتى، وصفته إحداهما بأمرين:
الأول: القوة.
والثاني: الأمانة.
وقلما تتوفر في شخص. ثم طلبتا من أبيهما أن يستأجره؛ فإنه قوي أمين. قال ـ تعالى ـ: {قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] .
ولقد لفت كلام تلك الفتاة ذهن أبيها ـ ذلك الشيخ الكبير ـ وأمرها بالذهاب إلى موسى؛ لدعوته، والإتيان به، ويبدو أن مكانه الذي آوى إليه ليس بعيداً عنهم.
وانطلقت تلك الفتاة نحو كليم الله موسى ـ عليه السلام ـ في خطى حثيثة، وأدب جم، وستر كامل، ولسان طلق، وعزيمة قوية؛ لتبلغه دعوة أبيها، ولعلها قد تفرست في موسى ـ عليه السلام ـ وهو يسقي لهما؛ الغربة، والمشقة، والعناء، زيادة على ما رأت منه، وشاهدت من القوة والأمانة، فأرادت الاستفادة منه والعطف عليه، وهذا من الأسباب التي هيأها الله ـ سبحانه ـ لموسى ـ عليه السلام ـ، ولما وصلت إليه أبلغته الدعوة في أدب رفيع، ومنطق سليم، وأخبرته أن والدها يريد: أن يجازيك، ويحسن إليك مقابل ما قدمت لنا من الخدمة في السقي. قال ـ تعالى ـ: {فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] .
فاستجاب موسى ـ عليه السلام ـ لتلك الدعوة وانطلق معها إلى أبيها، كيف لا؟ وهو يعيش وحشة الطريق وغربتها، لا يعرف من يأوي إليه، ويستأنس بالحديث معه! ولاشك أن ذلك من تنفيس الكربات عن النفس خاصة، وهي تعاني من أمور كثيرة، من أعظمها مطاردة الأعداء، وقلة الناصر.
فلما وصل إلى ذلك الشيخ الكبير عرَّفه بنفسه، وعرض عليه أمره، وقص عليه خبره، فكان من كرم الضيافة، ومواقف الرجال، وحسن الاستقبال، وحماية الضيف والجار، ونصرة الضعيف والمظلوم، والوقوف ضد الباطل وأهله، أن قال ذلك الشيخ الكبير مسرياً عن موسى، ومطمئناً وناصراً له، قال:
{فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] .
ما أجمل العبارات المضيئة! بل المشرقة، وهي تقرع الأسماع، وتسلي النفوس، وتثبت العقول، فتعيد للنفس هدوءها وسكونها وأمنها، بعد قلقها ورجفتها وخوفها.
وكأني بموسى ـ عليه السلام ـ يتهلل وجهه بالبشر والضياء، وينطلق لسانه أكثر بالشكر والثناء لله رب العالمين، ويزداد شموخاً وثباتاً في الطريق، وتنقلب الغربة والوحشة ألفةً، والخوف أمناً، والقلق والوجل هدوءاً وسكوناً، والضعف قوةً، والفقر غنى، والتنقل والترحال استقراراً، والحزن فرحة، وشظف العيش رخاء.
إنّ النفس الأبيّة لا ترضى أن تعيش على فتات العيش، وموائد الآخرين؛ بل لا بد أن تبحث عن وسيلة تكدح من خلالها، وتشعر بالعزة والاستعلاء بعيداً عن المسألة والاستجداء، وهذا ما وقع لموسى ـ عليه السلام ـ حيث عاش مع الشيخ الكبير عيشة عمل وكدح، يرعى له الغنم مقابل تزويجه إحدى ابنتيه، واتفقا على مدة العقد اللازم والكامل برضىً واختيار.
ومرت الأيام، وانتهت المدة الزمنية المتفق عليها بين الرجلين، فأدى موسى مهمته في قوة وأمانة، واختار أتم الأجلين وأكملهما، ووفى الشيخ الكبير بما اتفق مع موسى عليه من التزويج لإحدى ابنتيه.
إن موسى ـ عليه السلام ـ عاش فترة زمنية مع الشيخ الكبير، والله وحده هو الذي يعلم ماذا حصل له فيها من المواقف والمشاهد؟ والذي نعلمه نحن البشر من خلال النص القرآني الكريم، أنه قضى أتم الأجلين وأكملهما عشر سنوات، لأن الاتفاق بينهما كان على ثماني سنوات، فإن أكملها عشراً فذلك تفضل منه، وكرم، وليس بإلزام.
قال ـ تعالى ـ: {قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} . [القصص: 27 - 28]
ولما قضى أكمل الأجلين وأتمهما، ودَّع مضيفه هو وأهله؛ ليعود إلى أهله وبلاده التي غادرها منذ زمن؛ وليقضي الله أمراً كان مفعولاً؛ ولتبدأ حياة ومرحلة جديدة من حياة موسى ـ عليه السلام ـ أعظم مما مرَّ عليه من قبل.