د. أحمد العمراني
فالتفريط يعني: التقصير والتضييع. نقول: فرَّط في الأمر: قصَّر فيه وضيَّعه (?) .
فماذا ضيع الإنسان؟
لقد خلق الله الإنسان وخلق له الكون كله؛ حيث يقول ـ سبحانه ـ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 29 - 30] . ولم يخلقه عبثاً ـ بتقرير القرآن ـ حيث يقول ـ تعالى ـ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] . ويمكن أن نلخص رسالة الإنسان على هذه البسيطة في أمور ثلاثة: العبادة، والعمارة، والخلافة.
ـ فالإنسان مستخلَف ومسؤول بقوله ـ تعالى ـ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 29 - 30] .
وببيان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- القائل: «إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون» (?) . وفي رواية: «إن هذا المال حلوة خَضِرة؛ فمن أخذه بسخاوة بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه» (?) .
ـ وهو مكلف بعمارة الأرض بقوله ـ تعالى ـ: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] .
وببيانه -صلى الله عليه وسلم-: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسْها» (?) .
وهنا يسائل المرء نفسه: لمن سيغرسها إن كان قيام الساعة واضحاً بيِّناً؟ هذه هي الحكمة الربانية، المهم أن تغرس، أن تعمر الأرض وأن تنتج، لا أن تخرب أو تدمر أو تنام وتتقاعس.
ـ ومكلف بتحقيق العبودية لله بقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
فماذا فعلنا لعمارة الأرض؟ وماذا فعلنا لنكون خلفاء كما ينبغي؟ وماذا فعلنا لنعبد الله حق العبادة؟
- أسباب التفريط:
للتفريط في جنب الله أسباب كثيرة، قد نصل إلى إدراك بعضها، وقد تغيب عنا أسباب أخرى منها.
فمن الأسباب الواضحة المؤدية إلى التفريط ما يلي:
1 ـ الانشغال التام بالدنيا:
حيث إن كثيراً من الناس لا يجدون وقتاً لراحتهم وليس لتدينهم فحسب، نظراً لكثرة الانشغالات الدنيوية والارتباطات العملية التي تثمر كثرة الأعباء والتكاليف التي تجعل الإنسان ينغمس فيها طلباً للمال، مما يسبب الأكل الكثير، فالشرب الكثير، فالنوم الكثير، فالالتهاء الكثير، فالنسيان الكثير.
وهذا يضطرهم للتوسع الشديد في المباحات والاستكثار منها. وبالطبع كلما زادت رغبة الفرد في ملذات الدنيا أوقعته في حبائلها وأوصلته إلى الوقوع في مكروهاتها ومحرماتها.
فإذا حصل هذا تُنُوسيت الدار الآخرة، وتنوسيت أهوالها وما ينتظر الفرد منها من سؤال وجزاء ومحاسبة، وهذا بسبب الغفلة التي حصلت بالالتهاء بشهوات الدنيا وزخارفها، فيصعب على الإنسان أن يبتعد عن حياة النعيم التي حصَّلها، فإذا حصَل له بعض النقص، فقد يندفع إلى ارتكاب الموبقات للوصول إلى أغراضه، فيتجرأ على المعصية، وتتلوها معاصٍ، فيحاط قلبه بالران: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] ، ويتعثر في الرجوع إلى نفسه ونهيها عن غيها، ويصعب عليه الإقلاع والابتعاد عما أوقع نفسه فيه، فينتقل الأمر من الغفلة إلى التفريط التام.
فالتفريط في كل ما ذكر هو مشكلة الأمة اليوم، وهو باختصار: تفريط في جنب الله، وهو نسيان الدار الآخرة والجزاء والحساب والموقف.
فقد أصبح كثير من المسلمين لا يفكرون إلا في الدنيا وشهواتها: تزينت لهم وأغوتهم بغوايتها حتى نسوا الذكر ونسوا الهدف من وجودهم، مع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد حذر منها في قوله: «واللهِ ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم» (?) .
وروى في بيانها أبو أمامة الباهلي قال: لما بُعِثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أتت إبليسَ جنودُه فقالوا: قد بُعث نبي وأُخرجت أمة، قال: يحبون الدنيا؟ قالوا: نعم! قال: لئن كانوا يحبون الدنيا ما أبالي ألا يعبدوا الأوثان، وإنما أغدو عليهم وأروح بثلاث: أخذ المال من غير حقه، وإنفاقه في غير حقه، وإمساكه عن حقه، والشر كله من هذا نبع» (?) .
وروي عن عيسى ـ عليه السلام ـ أنه رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء، عليها من كل زينة، فقال لها: كم تزوجتِ؟ قالت: لا أحفظهم، قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقوك؟ قالت: بل كلهم قتلتُ، فقال عيسى ـ عليه السلام ـ: بؤساً لأزواجك الباقين! كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين؟ كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد ولا يكونون على حذر؟» (?) .
لهذا قيل في شأنها: «الدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وإذا جلت أوجلت، وإذا دنت أودنت» (?) وصدق الله العظيم حين قال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد: 20] .
وصدق رسوله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظرْ بِمَ يرجع؟» (?) .
وهذا لا يعني أن الإنسان يجب أن يزهد في الدنيا، ويتفرغ للرهبانية التي حذر منها الشرع الحنيف، بل عليه أن يعرف أن الدنيا خُلقت له وليس هو من خُلق لها، وبين الأمرين فرق كبير وبون شاسع.
فما الفرق بيننا وبين باقي الكائنات إن لم نعبد الله؟
نتشابه كلية مع باقي الكائنات فيما يفعلون؛ حيث نأكل ونشرب وننام وننكح، وكذلك يفعلون.
ولكننا نتميز عنهم بعبادة الله كما شرع، وسنحاسَب كما أخبر، مع العلم أن الكون والخلائق كلها تسبِّح الله وتطيعه كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] .
والفرق الذي بيننا وبينها أنها غير مكلفة بشريعة وغير محاسَبة عليها؛ إذ لم يُبْعَثْ لها أنبياء ورسل، بل هذا مما تميز به الإنسان؛ فكيف لا نتميز؟ بل كيف نرضى لأنفسنا أن نتشابه مع باقي مخلوقاته، والله أمرنا أن نتميز حتى لا نكون مثلهم: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ} [الأعراف: 179] ؟
فالتفريط في هذه المقاصد والغفلة عنها هو الذي أوقع الأمة في براثن وحبائل التفريط في جنب الله.
وكثرة غفلة الغافلين هي التي دفعت العديد من الأفراد إلى الإفراط في جنب الله، فوقع المسلمون بين غلو المتشددين، وتقصير الغافلين، وهذا حال الأمة؛ مع أن القرآن الكريم علمنا كيف نستجيب للدنيا وكيف نستجيب للآخرة ونعيمها، وكيف نستجيب لله، ولكل نداؤه الخاص؛ حيث وردت في عباراته ثلاثة نداءات متفاوتة فيما بينها وفي طريقة الاستجابة لها والتعامل معها وهي كلها تخدم فوز ونجاح الإنسان في الدنيا والآخرة.
ـ النداء الأول: من أجل الدنيا قال ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]
والمؤمن الكيِّس الفَطِن مطالَب بالانتباه إلى لغة القرآن؛ ففي طلب الدنيا لا يتجاوز المشي «فامشوا» أي بتؤدة وببطء وتمهل وتعقل، وهو أمر فُسِّر في القرآن تفسيراً وبُيِّن تبييناً؛ حيث يقول الله ـ تعالى ـ في كتابه الكريم في وصية لقمان لابنه: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 18 - 19] . ووصية الله للإنسان في قوله: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء: 37] . وحدد صفة مشي عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] .
فالناظر في آيات القرآن يتبين له كيف أعطى المولى ـ عز وجل ـ للمشي اعتباراً فريداً؛ لأنه ـ بكل اختصار ـ يعبر عن شخصية الإنسان؛ فالمسلم النبيه هو من يمشي ليِّناً هيِّناً بسكينة ووقار دون تجبر ولا استكبار ودون استعلاء على أحد أو انتفاخ، أي: يمشي مشية من يعلم أنه خُلق من الأرض وسيعود فيها {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] .
فمشية المسلم في الدنيا وفي طلبها هي مشيه في الحلال طلباً وأخذاً وعطاءً وسلوكاً، لا يظلم أحداً، ولا يتكبر على أحد، متواضعاً، كما قال الشاعر:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً فكم تحتها قوم همو منك أرفعُ
وإن كنت في عز وجاه ومنعة فكم مات من قوم همو منك أمنعُ (?)
ـ النداء الثاني: من أجل الجنة والمغفرة، وفي ذلك يقول ـ تعالى ـ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136] .
ويكفي تمجيد الله لهذا العمل قوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136] فالمسلم في طلبه للجنة عليه أن يسرع المشي والخطى ويتعجل السير ولا يترك الفرصة لتجاوزه، وهو ما أكده القرآن الكريم بقوله في آية أخرى: {سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21]
والسباق يعني المبادرة إلى ما يوجب المغفرة؛ وما يوجب المغفرة هو العمل بالطاعات، وهو ما يعنيه قوله ـ تعالى ـ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] .
وقد حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- على المبادرة والإسراع فيما ينفع المؤمن قبل الوقوع في أسر الفتن فقال: «بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي كافراً ويصبح مؤمناً، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا» (?) .
وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة» (?) .
وليس كما هو حاصل اليوم في زمننا، الكل يسرع ويلهث ويجري وراء الدنيا وزخارفها وليته يصل إلى مراده، بل الكل ينام وفي ذهنه أنه لَمَّا يتم عمله، وينام تعباً وهو يخطط لعمل الغد وكيفية إنهائه.
فمتى يميز المسلم بين ما يجب الإسراع فيه وما يجب فيه التأني؟
ـ النداء الثالث: نداء الفرار إلى الله؛ حيث يقول ـ سبحانه ـ: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 50] .
«ففروا» طلباً لله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فالفرار إلى الله فرار من معصيته، فرار من غضبه، فرار من الإشراك به. وهو هنا شجاعة؛ لأن الفار يفر من أعداء يبعدونه عن الله وعن رضوانه، ونجاة من الجحيم وطلباً للنعيم المقيم.
وقد بوَّب البخاري ـ رحمه الله ـ أحد أبواب صحيحه في كتاب الإيمان، فقال: «باب: من الدين الفرار من الفتن» (?) .
وما أكثر الفتن في زمننا؛ حيث المؤمن فيه يقبض على دينه ويصبر على فتنه «كالقابض على الجمر» (?) .
مفتون أينما حل وارتحل، ولعل من أخطر الفتن التي تُحدِق بالمسلم فتنة الأموال وفتنة الأولاد وهو ما أكده القرآن بقوله: {إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] .
بل إن الرسول الحبيب -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أن الأمة ستعيش فتناً يشيب لها الولدان؛ حيث قال: «ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرَّف لها تتشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليَعُذْ به» (?) .
ولكن الواقع يشهد أن الأمة أصبحت تعيش تناقضاً مع لغة القرآن ومع فهم مفرداته، فأصبح السير إلى الدنيا سريعاً، وإلى الآخرة وئيداً، والفرار من الله بدل الفرار إليه.
فهل إلى رجوع من سبيل! وهل إلى توبة لتصحيح المسار وتصحيح الخطوات إن شئنا النجاة وتحقيق الفوز والدرجات في الدنيا والدين!
2 ـ عدم الفقه السديد في الدين، وهو أصل كل بلية:
في اعتقاد بعض الناس أنهم إذا أدوا بعض أشكال التدين فقد نجوا وسَلِموا؛ وهذا فهم تجزيئي للإسلام؛ حيث يقتصر بعض الناس في تدينهم على بعض الأمور ويترك الأمور الأخرى، وهذا يؤدي أيضاً إلى التفريط والغفلة؛ فالدين شامل كامل لقول الله ـ تعالى ـ: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] .
فليس الدين في العبادات فقط، أو في المعاملات، أو في السلوك والأخلاق، أو في الأعمال الاجتماعية، أو السياسية أو الاقتصادية، بل يشمل كل هذا.
ومع الأسف أن هذا ما حصل للكثير من الناس، حيث جزَّؤوا الدين، وأخذ كل واحد منهم ما يعتقد أنه الصواب والصالح له؛ فمنهم من فهم حديثاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهماً سيئاً وبنى عليه حياته ومصيره، كفهمهم لحديث السائل عن الإسلام، والذي يقول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مجيباً لرجل من أهل نجد جاء ثائر الرأس يُسمَع دوي صوته ولا يُفقَه ما يقول: «خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: وهل عليَّ غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوَّع، قال رسول الله: وصيام رمضان، فقال: وهل عليَّ غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطَّوَّع، قال: وإخراج الزكاة، قال: وهل عليَّ غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: واللهِ لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أفلح إن صدق» (?) .
فأخذ كثير من الناس بعض ألفاظ الحديث، مثل: واللهِ لا أزيد ولا أنقص، ومثل: أفلح إن صدق، ونسوا مقاصد وروح ما ذكر في الحديث؛ فالصلاة تؤدى؟ نعم! ولكن إن لم تؤدَّ على حقيقتها لم تؤثر في الإنسان ولم يحصل له الفلاح، والزكاة تؤدى؟ نعم! ولكن من أي المال؟ والصوم يؤدى؟ نعم! ولكن كيف يؤدى؟
فكثير من الناس ليس لهم من صلاتهم إلا وقوفهم وجلوسهم، وليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر ... » (?) .
لهذا وجب عدم التغافل عن مقاصد العبادات وروحها حتى تؤدى كما يجب وتؤدي ثمارها كما ينبغي، كما لا يجب التغافل عن إتيانها والقيام بها بل والاجتهاد فيها؛ لأنها تدفع الغفلة والتغافل؛ حيث أخبر -صلى الله عليه وسلم-: بأن «من قام بعشر آيات لم يُكتَب من الغافلين» (?) .
بل إن التشبت بالفريضة والحرص عليها يطرد الغفلة ويشجع على الحرص على السنة كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن لكل عمل شِرَّة، ولكل شرة فترة، فإذا كانت الفترة إلى الغفلة فهي الهلكة، وإذا كانت الغفلة إلى الفريضة لا يضر صاحبها شيئاً» (?) . وقد سأل عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ ابنه الحسن يوماً عن الغفلة فقال له: «الغفلة تركك المسجد، وطاعتك المفسد» (?) .
ومن الناس من يقول لك: أنا لا أغتاب الناس ولا أكذب عليهم، ولا أغشهم ولا أفعل ولا أفعل، ويوجه سهمه للآخرين فيقول: انظروا إلى ذاك المصلي الكذاب الغشاش؛ فكيف أصلي؟
ويقول أيضاًً: أنا لا أصلي ولكن لا أقوم بمثل أعمال أولئك الحجاج والمصلين الذين ينافقون الناس بتقدمهم إلى الصفوف الأمامية، ويخادعون الناس في معاملاتهم، بل في سلوكهم.
وهذه دعوى باطلة ولو كان الناس يعتقدون في الإسلام وفي قواعده وضوابطه بما يشاهدونه من أفعال المسلمين لما أسلم إلا القلة، وخصوصاً إذا كان المنظور إليهم من أهل القدوة والصلاح؛ حيث يتخذونهم قدوة لهم في التراجع عن الخير فيقعون في سوء الفهم والتأويل والتغافل، ونسوا أو تغافلوا أن الله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . ويقول ـ سبحانه ـ: {وَكُلَّ إنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] .
ومن الناس من يأخذ من الدين العملَ الاجتماعي، فتجده يشارك في الأعمال الخيرية وكفالة اليتيم وإعانة الفقراء والمساكين، ولكن مقابل ذلك لا يصلي ولا يصوم ولا يراقب ربه في باقي أشكال التدين؛ حيث يغفل عن ذلك معتقداً أنه قد حصَّل المراد، وأنه بفعله ذاك قد نال المبتغى، وهذا تلبيس من إبليس الذي يزين للناس ما هم فيه، ويبعدهم عن حقيقة العمل المطلوب، ويبني على ذلك نمط إسلامه الذي يختزله في المعاملات مع الناس، وينسى باقي أركان الإسلام وضوابطه وقواعده، وأن ما هو فيه من الدين ولكن ليس كل الدين. ويكفي أن نقول إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أول ما يحاسَب به العبد المسلم يوم القيامة الصلاة؛ فإن أتمها؛ وإلا قيل: انظروا هل له من تطوُّع؟ فإن كان له تطوع أُكملت الفريضة من تطوعه، ثم يُفعَل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك» (?) .
ومن الناس من يلجأ إلى العمل السياسي، ويعطيه كل وقته وجهده وعاطفته وماله، معتقداً أنه يقدم للناس في ذلك خدمات جلى، وأنه يسير في المسار الصحيح لا ينقصه شيء، ولا يعوزه عمل آخر، وهذا من التفريط وسوء الفهم مع الأسف الشديد.
إن الواقع الأليم لينبئ عن كل هذه الأفهام والسلوكات، مما سهَّل على إبليس عملَه، وأسقط الناس تباعاً في حبائله وغواياته، ونسوا جميعاً أن الشرع الحنيف حذر من تجزيء الدين والتفريط في بعض أسسه، حيث قال ـ سبحانه ـ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] .
3 ـ عدم إدراك قيمة النعم وقدر المنعم:
وكل هذا سببه نسيان المنعم الحقيقي الذي يجب له حق الشكر والحمد على ما أعطى ووهب؛ فكل النعم من الله؛ فهو المعطي المانع، الواهب الصانع؛ فكيف يعطي ويُشكَر غيره، وكيف يهب ويُقصَد غيره؟
فالشكر يديم النعم ويزيدها ويقويها، وعدم الشكر يزيلها ويضيعها، وربنا يقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] .
ولقد آتى الله ـ عز وجل ـ نبيه سليمان ـ عليه السلام ـ ما لم يؤت أحداً من العالمين، حيث قال: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . [ص: 36 - 39]
فلم يعتبر سليمان ـ عليه السلام ـ ذلك نعمة يركن إليها، بل خاف أن يكون ما وهبه الله له من النعم استدراجاً من حيث لا يعلم، فقال ـ سبحانه ـ مخبراً عنه: {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40] .
إن إدراك حقيقة المنعم وقدره وعظمته مما يشجع الناس على الانتباه والتيقظ، ويدفعهم إلى استغلال أوقاتهم وأفعالهم فيما يرضي الذي {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] والذي وصف نفسه بـ: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] .
ولنعطِ بعض الأمثلة ليستيقن المسلم بقدر المنعم، ويسلم أمره كله إليه حتى يقلل من المجازفة بدينه وبنفسه فلا يفطن لموقعه إلا بعد فوات الأوان، ولات حين مندم.
فلو أن الإنسان المسلم اعتقد الاعتقاد التام في سمع الله وفي بصره وفي عطائه وعلمه أكان يعصيه؟
لنبين ذلك ثم نسائل أنفسنا أولاً عن ذلك.
فمما ورد في السنة وفي أقوال المفسرين أن خولة بنت ثعلبة لما اشتكت زوجها الذي ظاهر منها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كانت عائشة تسمع الشكوى في حُجرتها، ولم تسمع كل كلامها؛ فلما نزل قول الله ـ تعالى ـ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] ، قالت: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات» (?) . فلو آمن الإنسان بهذا أكان يعصيه طرفة عين؟ أكان يقع في التفريط؟ الله يسمع منك كل شيء، ولا يغيب عن سمعه أي شيء.
ثم لننظرْ إلى علم الله المطلق، والذي يغيب عنا، مع العلم أننا نعتقد في علم البشر ونعترف لهم بقوة علمهم وخبرتهم وبأستاذيتهم، ولكننا ننسى علم الله المطلق، وعلمه بالغيب والشهادة، بل إن علم البشرية كلها هو من علم الله.
فهذا موسى الكليم ـ عليه السلام ـ خطب يوماً في قومه، فسئل: هل يوجد من هو أعلم منه؟ فنفى وجود ذلك، فبعثه الله ليتعلم من عبده الخضر ـ عليه السلام ـ وليعلمه أن هناك من هو أعلم منه؛ والحديث كما في صحيح البخاري يحدثنا عن رحلة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ مع الخضر وماذا تعلم منه، ثم إنهما ركبا السفينة، فجاء عصفور ونقر من البحر نقرة، فقال الخضر: «يا موسى! ما علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر» (?) .
وهذا يعني أن علم موسى الرسالي لا يفقهه الخضر، وعلم الخضر الرباني لا يفقهه موسى، وعلمهما معاً أمام علم الله لا يساوي نقطة من بحر علم الله. فإذا علمنا هذا واعتقدناه فهل يقع منا التقصير والغفلة والتفريط؟
ثم لننظر إلى رزق الله الواسع، ألم يقل ربنا في كتابه: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] .
ألم يحدثنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي أن الله ـ تعالى ـ يقول: « ... يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني وأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر» (?) .
هل من آمن بهذه الركائز العقدية يغفل عن الله، أو يفرط في جنبه، أو يعصيه طرفة عين؟ بالتأكيد سيكون الجواب: لا، لن يقع في المحظور كما أنه لن يقع في الغفلة والتفريط.
وطبعاً لا يجب أن ننسى أن من سنن الله في خلقه وكونه أنه خلقنا بشراً نخطئ ونصيب، ننسى ونتذكر، نذنب ونتوب؛ فالله لم يخلقنا ملائكة، بل خلقنا بشراً ناكل الطعام ونمشي في الأسواق؛ وهذا يقتضي أن الإنسان قد يخطئ وقد ينسى، ولكنه في كلتا الحالتين يستعين بالدعاء: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] . ويرجع حين تذكُّره، ويصحح خطأه حين تنبُّهه: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» (?) . وقال أيضاً -صلى الله عليه وسلم-: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها» (?) . وقال: «ذاكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الفارِّين» (?) .
- سبب التسويف:
وهو مرض خطير، ومن تلبيسات إبليس بالناس أجمعين؛ حيث يسوِّف عليهم في كل شيء ويجعلهم يؤجلون كل أعمال الخير إلى أجل غير مسمى حتى يفاجَؤوا بنهاية الأجل ووقوع المحظور.
وقد حذر السلف الصالح من مغبة التسويف وحاربوه؛ حيث روي عن عمر قوله: «القوة في ألا تؤخر عمل اليوم إلى الغد» . وقال سهل بن عبد الله: «الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصرُّ هالك، والإصرار هو التسويف، والتسويف أن يقال: أتوب غداً، وهذا كيف يتوب غداً؛ وغداً لا يملكه» (?) .
وفي الحديث: «بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر» (?) .
هكذا حذرت النصوص من التسويف الذي يعد بحق من الأسلحة الفتاكة التي يستعملها إبليس لإغواء النفس البشرية؛ فما همَّ بعمل خير إلا وضع (سوف) أمامه ليؤجله أو ليلغيه، وفي كِلا الأمرين يتحقق مكسب للشيطان؛ إذ الموت مباغت، والأجل غير معلوم؛ فكلما سوَّف الإنسان أوقع نفسه في المجهول.
قال سيبويه: «سوف: كلمة تنفيس فيما لم يكن بعدُ، ألا ترى أنك تقول: سوَّفته، إذا قلت له: سوف أفعل، ويقال: فلان يقتات السوف، أي يعيش بالأماني» (?) .
ولسوف هاته أشكال وألوان؛ فمن الناس من يمنِّيه إبليس بالتوبة والرجوع حالما ينتهي من عمل ما، أو إتمام مشروع ما، ولكن مع الأسف الشديد عندما ينتهي منه يوجد له الشيطان مشروعاً آخر وهكذا حتى تأتي النهاية المحتومة، ويتحدث مع الطالب بلغة الحصول على الشهادة أو العمل، ومع الأعزب حتى يتزوج، ومع الغني حتى يكتمل مشروعه، ومع الفلاح حتى ينتهي موسم الحصاد، وهكذا يكسب من الناس تأخيراً في التوبة وتعثراً في الرجوع إلى الله، فيظل المسلم غافلاً مسوفاً حتى يلقى الله وتضيع فرص العودة والرجوع والأوْبة والإنابة.
ـ الحرمان من التوفيق الرباني: فمن عاش بين مجزِّئ للدين ومسوِّف وعاصٍ وناكر للنعم وجاحد لحق المنعم، فلن يبتعد حاله مطلقاً عن حال الضالين.
فالمفرط في التدين يقطع صلته بربه، فيحرم بسبب ذلك من عونه وتوفيقه، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 36 - 37] .
فإذا كثر الغافلون وكثر التقصير في الدين وإهماله، وربما تشويهه، انقلب هذا السلوك في نفوس بعض الأفراد إلى تفكير خاص، يعتقدون أنه الحل الوحيد لمعالجة هذه الأمراض المنتشرة بينهم، فيلجؤون إلى الإفراط في فهم الدين بدل التفريط فيه كما فعل الأكثرون.
يقول ـ تعالى ـ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}
[الزمر: 55 - 56]
آية من آيات الله تُحدّثُنا عن التفريط، وتحذر منه. ولحسن الفهم والاستيعاب للموضوع وجب تحديد مفهومه وبيان أسبابه.