محمد بن شاكر الشريف
عقيب الانهيار المدوي للاتحاد السوفييتي وسقوط دولته، كان هذا إعلاناً بغياب القوة الرئيسة المنافسة لليبرالية الغربية، وكان في الوقت نفسه إعلاناً بانتصار الليبرالية الغربية وتربعها على القمة العالمية، ومن تلك اللحظات بدأت الدعوة إلى الديمقراطية على أنها السند الشرعي لأي نظام تقوى وتنتشر، على أساس أن مرحلة الديمقراطية تمثل أفضل نظام سياسي يمكن أن تتوصل إليه البشرية، وأن التاريخ قد توقف عند هذا الحد فيما يعرف بـ «نهاية التاريخ» (كما يذكر فوكوياما) .
من هنا بدأت أغلبية الدول تسارع إلى هذا الخيار لعدم قدرتها على مناوأة الدولة العظمى المتسيدة للنظام العالمي الجديد والداعية إلى تغليب نظرتها الديمقراطية؛ وذلك في الوقت الذي فقدت فيه تلك الدول الحماية التي كانت تتمتع بها من الاتحاد السوفييتي الزائل. ويظن كثير من الناس أن دعوة أمريكا إلى تبني النموذج الديمقراطي وفرضه على العرب والمسلمين كان نتيجة مباشرة لما اشتُهر بأحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ فقد أظهرت أمريكا بعد هذا الحدث رغبة عارمة في نشر الديمقراطية في بلاد العرب والمسلمين على أنها العلاج الأكيد والناجع ـ من جهة مصلحتها ـ لهمجية العرب والمسلمين ـ بزعمها.
فوجئت أمريكا في تلك الأحداث بهجمات عنيفة دامية؛ حيث هوجمت قلاعها الاقتصادية والعسكرية (?) ، مما دعاها لإعلان حربها العالمية على الإرهاب، والتي كان منها الدعوة لنشر الديمقراطية حسب ما جاء في مشروع الشرق الأوسط الكبير وتبنيها لدعاوى الإصلاح، وقد فرح بذلك الكثير من الإسلاميين، ورأوا فيها الفرصة الكاملة للوصول إلى الحكم لتنفيذ مشروعهم السياسي، على أساس أن نشر الديمقراطية صار مطلباً أمريكيا يخدم مصلحة أمنها القومي؛ ولذلك فهي تدعم ذلك التوجه وتعززه، وبذلك زاد زخم الحديث عن الديمقراطية، وعن توافقها مع الإسلام، وأن الإسلام قد سبق الديمقراطية وقرر أهم خصائصها، وإذا كان هذا الحديث ليس بالجديد كلية إلا أن زخمه قد زاد بعد الحملة الأمريكية ووجد له أنصاراً كثيرين.
- موقف بعض الإسلاميين من الديمقراطية:
الطور الأول من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) يزعم أن جوهر الديمقراطية موجود في الإسلام، وأن الإسلام قد سبق ما أتت به الديمقراطية، أو أنه يمكن أن تتوافق الديمقراطية مع الإسلام، وأن ما يُرى بينهما من اختلاف من الممكن إزالته. يقول خالد محمد خالد بعدما ادعى أنه يوجد لحكام وقادة غير مسلمين ـ لكنهم ديمقراطيون ـ شواهد قريبة من سلوك عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «من أجل هذا قلنا وسنظل نقول إن الديمقراطية إسلام» ويقول: «كان عرضنا هذه المشاهد ـ وهي قليل من كثير ـ تبياناً لديمقراطية الحكم في الإسلام، واكتشافاً للتخوم الواسعة المشتركة بين الإسلام كدين وبين الديمقراطية كمنهج ونظام» (?) . ويقول الشيخ يوسف القرضاوي: «الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام» (?) ، وكلام كثير جداً من مثل هذا.
وأما في وقتنا الحاضر، بعد ظهور اعتراضات كثيرة من الناحية العقدية على الديمقراطية وهي واضحة وقوية، فقد نحا الطور الثاني من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) إلى الفصل بين الفكر التنظيري الديمقراطي، وبين آليات الديمقراطية، فابتعد عن القبول بالأسس النظرية التي تقوم عليها الديمقراطية، لما تشتمل عليه من مصادمة صريحة للمقررات العقدية الإسلامية، بينما قَبِلَ الآليات الديمقراطية، على أساس أن الآليات هي مجرد وسائل عملية لا تنطوي على فكر أو عقيدة، بل هي آليات محايدة يستخدمها المسلم كما يستخدمها الكافر، كالسيارة التي يستخدمها المسلم في الذهاب إلى المسجد ويستخدمها النصراني في الذهاب إلى الكنيسة، وهكذا. من أجل هذا رغبتُ في كتابة هذا المقال لبيان حقيقة الديمقراطية وهل حقاً أتى بها الإسلام، أو أنه من الممكن إزالة ما بينهما من تعارض مع احتفاظ كل منهما بخصائصه المميزة، أو أنه يمكن التخلص من الأساس النظري لها وعدم التقيد به والاستفادة مما فيها من آليات مجردة عن أصولها المذهبية؟
- ماذا تعني كلمة الديمقراطية؟
الديمقراطية كلمة لاتينية وهي مكونة من شقين: الشق الأول demos وتعني الشعب، والشق الثاني cratie وتعني حكم أو سلطة. فاللفظ على ذلك يعني حكم الشعب، أو الحكم للشعب، «وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة ... إلا أن لها مدلولاً سياسياً شاع استعماله في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة، وأنها مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في الدولة» (?) . فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه؛ فهي «تعني أن يضع الشعب قوانينه بنفسه، وأن يحكم نفسه بنفسه، ولنفسه» (?) . وقد تبلورت هذه الفكرة فيما بعد تحت مصطلح السيادة، وقد عُرِّفت السيادة بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها ولا ند، متفردة بالتشريع الملزم، فيما يتعلق بتنظيم شؤون الدولة أو المجتمع؛ فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام بذلك، لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها، ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى (?) ، والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي للشعب.
وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاثة جوانب رئيسة:
1 ـ إصدار التشريعات العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها، وهذه تمارسها السلطة التشريعية.
2 ـ المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات، وهذه تمارسها السلطة التنفيذية.
3 ـ حل المنازعات سلمياً بين المواطنين انطلاقاً من هذه التشريعات، وهذه تمارسها السلطة القضائية (?) ، ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم السلطات الثلاث.
- تطور الديمقراطية باختلاف الأزمان والبيئات:
وليس من شك في أن الديمقراطية تطورت مع الزمن تطوراً كبيراً، ولم تبق على شكلها الأول الذي ظهرت به أول مرة في أثينا (?) ؛ فقد كان الشعب الذين يحق لهم الحكم في بداية الفكرة قليلاً بالنسبة للعدد الفعلي؛ فقد أُخرج منه الأرقَّاء كما أُخرج منه النساء، كما اشتُرط لذلك بعض الشروط كامتلاك نصاب مالي معين، والتمتع بكفاءة أو وجاهة في المجتمع، وبمرور الزمن تغير كثير من ذلك، إلى أن وصل إلى حق الاقتراع العام.
كما اختلفت الصورة التي تمارَس بها الديمقراطية؛ فبعد أن كانت الديمقراطية تباشَر من قِبَل الشعب بلا واسطة فيما عرف بالديمقراطية المباشرة، احتاجوا مع تطور الأوضاع، والانتقال من دولة المدينة ـ صغيرة المساحة قليلة العدد ـ إلى الدولة القومية ـ ممتدة المساحة كبيرة العدد ـ وقيام عوائق في سبيل العمل بالديمقراطية المباشرة، إلى تغيير الصورة من الديمقراطية المباشرة إلى الديمقراطية غير المباشرة (النيابية) ، التي ينوب فيها عن الشعب أفراد يختارهم الشعب ليحكموا بدلاً عنه، كما ظهر التزاوج لاحقاً بين الصورتين فيما سُمي بـ (الديمقراطية شبه المباشرة) وذلك للتغلب على بعض السلبيات من إلغاء الديمقراطية المباشرة كلياً؛ حيث تكون هناك موضوعات يحكم فيها الشعب حكماً مباشراً، وموضوعات أخرى يحكم فيها الشعب حكماً نيابياً.
كما تعددت أشكال الحكومات فهناك النظام الرئاسي (حيث تتركز السلطة في يد رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويكون هناك فصل شبه حاد بين السلطة التنفيذية «رئيس الجمورية» وبين السلطة التشريعية «البرلمان» ) ، وهناك النظام البرلماني (حيث تتركز السلطة في يد مجلس «برلمان» منتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزراة، ويوجد هنا تداخل بين أعمال السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية) ، وهناك نظام حكومة الجمعية (حيث تتركز السلطة في يد جمعية منتخبة من الشعب، وهي تجمع في يدها سلطات واختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية) (*) ، ومع كل هذه التطورات والتغيرات في الأشكال والصور، ظلت الديمقراطية تحافظ على أمر جوهري لم تحد عنه أبداً، وهو الأمر الذي تكوَّن اسمها منه وهو أن الحكم للشعب (?) ؛ فلا شيء يعلو عليه، وكل سلطة في المجتمع فإنما تستمد منه.
- تأثير الفكر الديمقراطي على الدساتير العربية:
وقد ظهر هذا واضحاً في دساتير البلاد العربية التي كُتِبَتْ في بدايات القرن العشرين وما تلا ذلك.
ففي الدستور المصري المادة رقم 3 تقول: «السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها» ، وفي المادة 86: «يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع» .
وفي الدستور السوري المادة رقم 2 في الفقرة الثانية تقرر أن: «السيادة للشعب، ويمارسها على الوجه المبين في الدستور» وفي المادة رقم 50: «يتولى مجلس الشعب السلطة التشريعية على الوجه المبين في الدستور» .
وفي دستور السودان الانتقالي لسنة 2005 في الباب الأول الفقرة الثانية: «السيادة للشعب وتمارسها الدولة، طبقاً لنصوص هذا الدستور والقانون» .
وفي الدستور الأردني مادة 24: «الأمة مصدر السلطات» ومادة 25: «تناط السلطة التشريعية بمجلس الأمة والملك» .
وفي الدستور التونسي مادة رقم 3: «الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور» وفي المادة 18: «يمارس الشعب السلطة التشريعية بواسطة مجلس نيابي» .
وفي الدستور الجزائري مادة رقم 6: «الشعب مصدر كل سلطة، السيادة الوطنية ملك للشعب وحده» وفي المادة رقم 7: «السلطة التأسيسية ملك الشعب، يمارس الشعب سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها» وفي المادة 98: «يمارس السلطة التشريعية برلمان يتكون من غرفتين وهما: المجلس الشعبي الوطني، ومجلس الأمة، وله السيادة في إعداد القانون والتصويت عليه» .
وفي الدستور المغربي مادة رقم 2: «السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة المؤسسات الدستورية» .
وفي الدستور القطري مادة 59: «الشعب مصدر السلطات ويمارسها وفقاً لأحكام هذا الدستور» وفي المادة 61: «السلطة التشريعية يتولاها مجلس الشورى على الوجه المبين في هذا الدستور» .
وفي الدستور الكويتي مادة 51: «السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقاً للدستور» .
وبقية الدساتير لا تخرج عن ذلك من حيث المضمون وإن اختلفت الصيغ، كما أن هذه الدساتير تنص على أن نظام الحكم نظام ديمقراطي، وهي الصيغة السياسية لمصطلح السيادة الشعبية (?) .
وهذه الخصيصة التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب الدهور تعد أكبر اختلاف حقيقي بين الإسلام وبينها؛ فإن قاعدة الإسلام هي توحيد الله تعالى، والتي تعني أن يكون المسلم عابداً لله وحده؛ وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله ـ تعالى ـ في أموره كلها من اعتقادات وعبادات ومعاملات وعادات وتصورات.
فقد ورد في مواضع عديدة من كتاب الله قصر الحكم عليه ـ سبحانه ـ فقال: {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام: 62] ، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف: 40، 67] ، وقال ـ تعالى ـ: {َفالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12] والآيات في هذا المعنى كثيرة. وقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] فلم يُحكِّم الله ـ تعالى ـ في موارد النزاع أحداً غير الكتاب والسنة. وقال ـ تعالى ـ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما} [النساء: 65] فأوجب تحكيم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل ما يشجر بين المسلمين، وأمر رسوله أن يحكم بين الناس بما أنزله عليه فقال ـ تعالى ـ: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] . وقال ـ تعالى ـ في الآية التي تليها: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] .
فالحق عند المسلم هو ما أمر به الله ـ تعالى ـ ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أو دعا إليه، والباطل هو ما نهى الله عنه ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فالله ـ تعالى ـ هو الذي يشرِّع، وهو الذي يأمر وينهى، وهو الذي يُلزِم، وهو الذي يعاقب على المخالفة ويثيب على الطاعة؛ فالسيادة الكاملة إنما هي لله ـ تعالى ـ وحده، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «السيدُ الله» (?) .
بينما الحق في الديمقراطية هو ما أمر به الشعب، والباطل هو ما نهى عنه الشعب، وإرادة الشعب هي معيار الخطأ والصواب؛ فما أقرته وقبلته فهو الصواب، وما تركته ولم تقبله فهو الخطأ؛ فالإرادة الشعبية معصومة، ومن هنا فإن الديمقراطية قد رفعت الشعب إلى المنزلة التي لا تليق إلا بالله تعالى، وهذا الفرق لا يستطيع أن ينكره أحد، إلا عن طريق الكذب والتضليل لخداع الناس وإيهامهم، وتعريفات الديمقراطية في بلد المنشأ تدل على ذلك، بل ابتعاد الديمقراطية عن الدين هو أحد مسوِّغات الدعوة إليها.
والديمقراطيون الحقيقيون لا يعدون هذا عيباً أو نقصاً يحاولون التبرؤ منه، بل هو عندهم من مميزات الديمقراطية؛ فكما يبين أحدهم أنه يستحيل تعريف الديمقراطية «دون تحرير الذهن من الأحكام المسبقة مهما كانت، أي إعطاء مسؤولية القرار للشعب دون تقيد مسبق بأي قيد نصي أو تشريعي أو فقهي؛ فالناس وفق هذا المنطق هم الذين يملكون حق السيادة والمرجعية في شؤونهم التعاقدية الوضعية» (?) ، وبهذا يتم فك أي ارتباط إيجابي بين الديمقراطية وبين الدين؛ فالديمقراطية تبعد الدين عن التدخل في الحياة العامة للمجتمع (?) ، وهي بذلك تكون الوجه السياسي للعلمانية.
وهذا بلا شك اختلاف جذري بين الإسلام والديمقراطية ولا يمكن تقريب الديمقراطية من الإسلام إلا بالتخلي عن هذا الوصف الجوهري في الديمقراطية، لكن إذا أمكن التخلي عن هذا الوصف في محاولة التقريب، فهل يظل ما بقي منها باسم الديمقراطية؟ في حين لا يمثل الشعب أية مرجعية في الحكم، هذا ما تأباه قواعد اللغة ويأباه العقل والمنطق، ولا يمثل الإبقاء على الاسم في هذه الحالة إلا القبول بالتبعية الفكرية، واختزال الفكر الإنساني كله في الفكر الغربي.
- لكن هل استطاعت الديمقراطية أن تحقق هذا الذي زعمته وادَّعته؟
يقسِّم الفكر الديمقراطي الشعب إلى فئتين: إحداهما يمكن تسميتها بالشعب السياسي، وهو الذي تكون له السيادة، والفئة الثانية هي المتبقية من مجموع الشعب، وهي التي لا دخل لها بهذه السيادة، وهذه الفئة تغيرت بتغيير الأزمان؛ فقد كانت في أول الأمر تشمل الأرقاء وتشمل النساء والأطفال غير البالغين، والرجال غير المتعلمين، والفقراء، وغير النبلاء في المجتمع، وهم يمثلون الأغلبية العددية في المجتمع، وقد كان النظام الذي يمنع كل هذه الفئات من السيادة يُنظَر إليه على أنه نظام ديمقراطي، مما يبين أن السيادة الشعبية كانت مجرد شعار لا رصيد لها يسندها من الواقع، ثم بمرور الزمن تغيرت هذه الفئة، لكنها ما زالت حتى الآن تشمل الصبيان الذين لم يبلغوا سناً معينة (18عاماً) إضافة إلى المحكوم عليهم في بعض القضايا التي تحددها القوانين.
وإذا تجاوزنا هذه النقطة وانتقلنا إلى الدستور الذي يعد أعلى وثيقة قانونية في النظام الديمقراطي يلتزم بها الجميع ويحنون هاماتهم لها، واتخذناه مثالاً للحديث، نجد أن الشعب لم يكن هو الذي وضع هذه الوثيقة، وإنما وضعها مجموعة من الناس ممن تخصصوا في الأمور القانونية والمسائل السياسية، وهي بلا شك مجموعة صغيرة جداً جداً بالمقارنة بعدد الشعب (السياسي) مما يعني أن السيادة الشعبية لم تكن هي التي صاغت أعلى وثيقة قانونية يُتحاكم إليها في البلاد، ولو قيل: لكن هذا الدستور لا يُقَر إلا بعد الموافقة عليه من الشعب عن طريق التصويت وأخذ الآراء؛ فإن ذلك أيضاً لا قيمة له لعدة أمور:
أولاً: تشتمل هذه الوثائق على مسائل فنية تخصصية لا يدركها إلا المتخصصون وهم قلة قليلة في أي مجتمع؛ فموافقة غيرهم عليها ليس له قيمة حقيقية، وكذلك اعتراضهم لا قيمة حقيقية له؛ فإن الموافقة أو الاعتراض الناشئين عن مجرد الرغبة أو الاستجابة للدعاية ووسائل الإعلام، من غير علم حقيقي بالمسألة والقدرة على تبيان ما فيها من إيجابيات أو سلبيات لا يساوي شيئاً في ميزان تقويم الآراء.
ثانياً: لو تجاوزنا هذه النقطة فإنه دائماً لا يحصل إجماع على تلك الوثائق، بل يقبلها طائفة ويرفضها آخرون؛ ذلك أنه في ظل عدم وجود مرجعية متفق عليها بين الناس ويخضعون لها ـ خارجة عن الإنسان نفسه ـ فإنه يستحيل أن يتفق الناس كلهم أو أغلبهم على رأي واحد في عشرات بل مئات المسائل المهمة، وإذا أُقرت هذه الوثائق لكون الموافق عليها أكثر من المعترض، فمعنى ذلك أن هناك مجموعة كبيرة من الشعب (السياسي) وهي قد تصل إلى الثلث أو قريب من النصف (على حسب الأغلبية المعتدّ بها في هذه المسائل) لم يكن لنصيبها من السيادة الشعبية أثر في إقرار هذه الوثيقة، على أن موافقة الموافق لا تعني بالضرورة موافقة حقيقية؛ إذ ربما تكون الموافقة نتيجة ضغوط من أطراف خارجية، أو تدخل الإعلام الموجه الذي يقوم بدور كبير في صناعة وتشكيل آراء الناس وتصوراتهم، أو نتيجة الاتفاق على تقسيم المغانم بين الفئات المؤثرة في التصويت، وأقرب مثال على ذلك ما حدث في إقرار الدستور العراقي الذي وُضِعَ بعد الاحتلال.
بل إن الأساس الذي يُعتمَد عليه في بيان الأغلبية المعتد بها، هل هو الأغلبية المطلقة (أي ما زاد على 50% ولو كان بصوت واحد) أو أغلبية الثلثين أو غير ذلك، هو نفسه يحتاج إلى إجماع الشعب (السياسي) حتى يمكن أن يؤسس عليه ما يأتي بعده، وإلا فليس هناك أي معنى للحديث عن السيادة الشعبية المتخذة عن هذا الطريق، وهذا الإجماع نادر الحدوث، وعادة لا يحدث أبداً.
ثم إن الذين يحق لهم الدخول تحت مسمى الشعب السياسي، كثير منهم لا يشارك في عمليات الانتخاب والتصويت، مما يجعل الأغلبية عند حدوثها هي أغلبية من شارك في التصويت لا أغلبية الشعب السياسي، ولو أننا أخذنا مثالاً قريباً من انتخابات قد جرت في مصر فقد فاز الرئيس المصري بالانتخابات بنسبة تجاوزت الـ (88%) ، لكن لو نظرنا إلى عدد من اشترك في الإدلاء بصوته ممن يحق لهم المشاركة، لم نجده يتجاوز نسبة الـ (24%) ، حيث كان عدد الناخبين قرابة الـ (32) مليوناً، في حين كان عدد المشاركين في الانتخابات قرابة الـ (?) ملايين، وذلك حسب الإحصاءات الرسمية، وما يجري في كثير من الدول لا يختلف عن هذا.
ثالثاً: ولو تجاوزنا هذه النقطة ونظرنا إلى الدستور الذي تم إقراره؛ فإنه بعد جيل أو جيلين يكون الذين أقروا هذا الدستور رميماً تحت التراب، وهذا يعني إثبات السيادة والإرادة لأناس أموات، وهو ما يعني في الوقت نفسه، أن الأحياء محكومون بإرادة الموتى، وليس بإرادتهم، فأين السيادة الشعبية في هذا؟
رابعاً: ولو تجاوزنا مرة أخرى هذه النقطة، فإن الأطفال الذين كانوا أطفالاً وقت كتابة الدستور وإقراره، قد صاروا بعد زمن رجالاً لهم جزء من السيادة؛ فأين تأثير هذه السيادة على الدستور والقوانين المنبثقة عنهم في إدارة البلاد؟
وفي تحديد الشعب نفسه: ما الذي يجعل العربي والكردي في العراق يمثلان شعباً واحداً، وكذلك الكردي والتركي في تركيا يمثلان شعباً واحداً، والعربي والبربري في الجزائر يمثلان شعباً واحداً، كل فرد منهم له جزء من السيادة، بينما العربي الأردني أو المصري أو السوري المقيم في بلد عربي آخر لا يعد من شعب ذلك البلد، ومن ثم لا يمثلون شعباً واحداً؟ ولا شك أن هذا المقيم في بلد ما تجري عليه أحكام هذا البلد، وهو في الوقت نفسه لا يعد من الشعب؛ فليس له أية حقوق في ممارسة الحكم فيه (وهذا أمر يقره الفكر الديمقراطي) وهذا يعني أنه ليس له نصيب في السيادة الشعبية، وهنا تخفق الديمقراطية في تقديم التفسير المقنع لإذعان هذا المقيم أو إجباره على الالتزام بأحكام البلد الذي يقيم فيه، من غير أن يكون له نصيب من السيادة أو ممارسة الحكم فيه.
وبالانتقال من كل ذلك نجد أن المؤهلين لممارسة الحكم باقتدار حقاً، ليسوا هم الشعب كله، بل هم مجموعة أناس معينين محدودين، مما يجعل الحكم محصوراً فيهم إلى حد كبير، وبذلك يتحول دور الشعب من كونه الممارس للحكم، إلى الاقتصار على اختيار القادة الأكفياء ليقوموا بممارسة الحكم، وهو لا يمارس هذا الحق إلا مرة كل عدة سنوات عندما تحين مواعيد الانتخابات، وفي كل هذا قضاء على قضية السيادة الشعبية، وهو ما يؤول في النهاية أن تكون الديمقراطية بحق هي حكم الأقلية وليس حكم الأكثرية؛ فالديمقراطية وإن كانت قد انطلقت من نقطة أن الحكم للشعب لكنها انتهت واقعاً وفعلاً لحكم الأقلية، الأقلية الغنية النافذة المنظمة التي استطاعت أن تحوِّل القضية لصالحها فيما يطلق عليه حكم النخبة «ففي الأنظمة الغربية لا يحكم الشعب كما تفترض النظرية، ولكن الذي يحكم هي تلك الأقلية التي تسمى النخبة، ومن ثم ففي الغرب نخبة ديمقراطية تحكم بسبب ما يتوفر لها من قدرة على التحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة، وبحكم بعض المزايا الموروثة وغيرها من العوامل» (?) .
ويحق لنا بعد ذلك كله أن نقول: إن اعتبار الشعب هو الذي يحكم في النظام الديمقراطي، يعد من الخدع الكبرى في تاريخ الأنظمة السياسية.
هذا العيب الجوهري في الديمقراطية الذي يجعل السيادة للشعب ـ وهو الأمر الذي تشبثت به ولم تستطع تحقيقه في واقعها، وذلك لعدم واقعيته ـ هو نقطة الضعف القاتلة لها في شريعة الإسلام، وهو ما دعا الكثيرين ممن يريدون جعل الديمقراطية من مكونات النظام السياسي الإسلامي أو إدخالها فيه ـ وذلك بغرض الخروج من حالة الاستبداد التي تعيشها كثير من شعوب الأمة الإسلامية ـ إلى تجاوز هذه النقطة تحت الدعوة إلى الاستفادة من آليات الديمقراطية، دون التمسك بالأساس النظري لها أو الاعتماد عليه، على أساس أن هذه النظرة المذهبية أو الفلسفية للديمقراطية كانت مرتبطة بزمن النشأة وظروفها، وقد تجاوزتها الديمقراطية في تطبيقاتها المعاصرة، ولم تعد تعوِّل على هذا الأساس، أو ترتبط به.
فهم يرون أن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها إنسانية الإنسان كحرية التنقل، والاستقلال في الرأي والتفكير، والمشاركة في القرار السياسي وفي اختيار الحكومة، وفي القدرة على الإنكار على الحكومات، وتغييرهم عند الخروج عن الجادة، وفي حق التملك وحق الأمن وغير ذلك، كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون، ويرون أن هذه الأمور لا ترتبط بالأساس النظري للديمقراطية الذي قامت عليه الديمقراطية، بل هي آليات تنظيمية، وطرائق عملية للحفاظ على حقوق الناس وحرياتهم، وتأمين تداول السلطة بينهم بطريقة سلمية، كما أنها من الأمور المشروعة في الإسلام.
لكن هنا نقطة مهمة غابت عن أصحاب هذا الرأي، الذين يحاولون سلخ الديمقراطية من أصلها؛ وذلك أن هذا رأيهم ولا يعبر عن الشعب السياسي كله؛ فالشعب السياسي حسب الفكر الديمقراطي يدخل فيه المواطن المسلم كما يدخل فيه المواطن الكافر، والمسلمون منهم المسلم حقيقة ومنهم غير ذلك كالعلمانيين والحداثيين والقوميين وغيرهم، وهؤلاء يصرون على ارتباط الديمقراطية بأصلها الذي خرجت منه، ولا سبيل ـ ديمقراطياً ـ بإلزامهم بغير ذلك.
ولا شك أن العمل الديمقراطي القائم على الأساس الفلسفي للديمقراطية يتناقض مع المقررات الإسلامية كما ظهر؛ فإن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى؛ وهذا لا يقول به مسلم أو يقبله، ولعل في ظهور هذا العيب الواضح في الديمقراطية ما يدعونا إلى عدم الوقوف أمامه، ويكفي فيه ما تقدم، ويبقى الحديث عن التصور الذي يتناول الديمقراطية بوصفها آليات، أو منهج عمل، من غير استناد إلى فكرة أو تصور مذهبي أو فلسفي، وهذا هو موضوع المقال القادم إن شاء الله.