أحمد تهامي عبد الحي
عادت قناة البحرين (الميت ـ الأحمر) لتحتل دائرة الضوء مجدداً، وجاءت هذه العودة في سياق تطورات البيئة الإقليمية في المنطقة بعد احتلال العراق وبداية عودة مشروعات السوق الشرق أوسطية. لقد ارتبط الحديث عن شق (قناة البحر الميت ـ البحر الأحمر) في عقد التسعينيات من القرن الماضي مع تطورات عملية التسوية منذ مؤتمر مدريد 1991م، وبِدْء الإعداد لمشروعات التعاون الإقليمي. وكان مشروع حفر القناة من أبرز المشروعات الإقليمية بين الأردن والدولة العبرية، الذي أثار لغطاً وجدلاً محتدماً لم ينته حتى الآن. ويثير المشروع الهواجس المصرية من النواحي الاستراتيجية، كما يثير قلق معظم القوى السياسية العربية التي تعترض على إدماج الدولة الصهيونية في نسيج المنطقة
العربية الإسلامية.
ولم يكن غريباً أن يحرص العدو الصهيوني والولايات المتحدة على إطلاق اسم قمة البحر الأحمر على قمتي العقبة وشرم الشيخ التي جمعت بين الولايات المتحدة والدولة الصهيونية ومصر والسعودية والأردن والسلطة الفلسطينية في عام 2002؛ فالدولة الصهيونية تحرص دوماً على تأكيد انتمائها وحقها في البحر الأحمر، والولايات المتحدة أصبحت الفاعل الدولي الرئيسي في شؤون المنطقة، ولديها مصالح وقوات عسكرية ضخمة في البحر الأحمر والمنطقة عموماً. وقد دخل الأردن والسلطة الفلسطينية أخيراً طرفين رئيسين في المشروع، وأعلن هاني الملقي وزير الخارجيه الأردنية في مارس 2005 أنه اتفق مع المسؤولين الصهاينة على المضي قُدُماً في تنفيذ مشروع القناة التي تربط البحر الميت بالبحر الأحمر، وقال إن هذا المشروع ياتي حفاظاً على بيئة البحر الميت بالتعاون مع الفلسطينيين والبنك الدولي واللجنه الثلاثية الأردنية الصهيونية الأمريكية.
- أولاً: التطور التاريخي لفكرة حفر القناة:
يعود التصور الاستراتيجي الصهيوني حول المشروع إلى أكثر من مائة عام، وهو تصور غني بالأفكار والخيارات والمعلومات؛ وقد صدر العديد من الدراسات حوله ومن أبرزها الدراسة الصادرة عن (مركز وايزمان للأبحاث الاستراتيجية) بعنوان «التسلسل التاريخي لقناة البحرين» . ففي ظل الرغبة الصهيونية في السيطرة والهيمنة اتجه التفكير الصهيوني نحو مشروع حفر قناة تربط بين البحر المتوسط وخليج العقبة على البحر الأحمر لمنافسة قناة السويس.
والواقع أن فكرة قناة البحرين قديمة، وقد تبناها (ويليام آلان) في عام 1855 في كتابه: (البحر الميت طريقاً جديداً للهند) من أجل تحقيق الاتصال بين البحر الميت ـ البحر المتوسط ـ البحر الأحمر، واعتبر أن هذه القناة أفضل من حفر قناة السويس، وعادت الفكرة لتظهر على يد هرتزل في عام 1902 لتوليد الكهرباء اللازمة للصناعة. واعتمدت في الحقيقة على مذكرة لمهندس يهودي يدعى ماركوس بوركارت بهدف توليد الكهرباء وتحلية المياه للشرب.
وقد تعددت التصورات والسيناريوهات فيما يخص قناة البحرين؛ ففي عام 1968 طُرحت الفكرة التي تقوم على أساس حفر قناة تربط بين ميناء أشدود على البحر المتوسط وميناء إيلات على البحر الأحمر، وعلى الرغم من أن العديد من المؤشرات كانت تشير إلى تبني حكومة (جولدا مائير) للمشروع إلا أن الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية قد أدت إلى تعليق أو تجميد المشروع بانتظار حدوث متغيرات جديدة. وقد أعيد طرح المشروع من قِبَل خبراء من أبرزهم (تسفي ليفير) ضمن دراسة بعنوان (الاستمرارية والتغير في الاستراتيجية الإسرائيلية حتى عام 2000) صادرة عن مركز الأبحاث الاستراتيجية بجامعة تل أبيب في عام 1986م.
وفي السبعينيات من القرن الماضي أعيد طرح الفكرة بعد ارتفاع أسعار النفط، ولكن بناء على تصور مختلف يقوم على ربط البحر المتوسط بالبحر الميت؛ فالقناة يمكن أن تربط البحر الميت بالبحر الأحمر، أو البحر الميت بالبحر المتوسط، ويتوقف الأمر على الحسابات الاقتصادية والسياسية. ففي أعقاب أزمة الطاقة بعد حرب أكتوبر 1973م شكلت الحكومة الإسرائيلية في عام 1974 لجنة برئاسة (شلومو اكشتين) لدراسة موضوع قناة البحرين. وعند وصول حكومة الليكود إلى السلطة عام 1977 قام البروفيسور يوفال نيمآن بدراسة المشروع، وقدر تكلفته بحوالي 685 مليون دولار، وحظيت الفكرة بموافقة الحكومة الصهيونية عام 1980م.
وقد طرحت اللجنة أربعة مسارات لإقامة القناة هي:
ـ المسار الشمالي: ويمتد من حيفا على البحر المتوسط إلى جنوب بحيرة طبرية ومنها للبحر الميت.
ـ مسار في الوسط: يمتد من منطقة الخضيرة بجوار تل أبيب على البحر المتوسط حتى البحر الميت.
ـ المسار الثالث: ويمتد من قطيف جنوب عسقلان على البحر المتوسط حتى البحر الميت.
ـ المسار الرابع: جنوبي، ويمتد من خليج العقبة حتى البحر الميت. وأوصت اللجنة بتنفيذ المسار الثالث من أجل تطوير وتنمية صحراء النقب.
وفي 29/3/1981 وافقت الحكومة الصهيونية على تنفيذ المسار الثالث من خلال البدء بحفر قناة تمتد من تل القطيفة بين دير البلح وخان يونس في قطاع غزة تنتهي في منطقة مسعدة جنوبي غربي البحر الميت مرورًا بمنطقة بئر السبع في صحراء النقب. وهو يقوم على أساس ضخ نحو مليار ونصف مليار متر مكعب سنوياً من البحر المتوسط من على ارتفاع 100 م من مستعمرة قطين في غزة ونقلها في قناة إلى أوريم ومن هناك إلى مسعدة جنوباً في نفق طوله 80 كم، ثم إسقاطها على محطة كهربائية على شاطئ البحر الميت.
وعلى الرغم من موافقة الحكومة إلا أن المشروع واجه عدداً من المشاكل الصعبة تمثلت في ارتفاع التكلفة وعدم ضمان عائد الكهرباء التي ستولدها إلى جانب المشاكل الفنية. وقد واجه المشروع انتقادات عربية ودولية؛ فالأردن رفضه لتأثيره على الأراضي العربية المحتلة وآثاره الاقتصادية والجغرافية السلبية، والأضرار التي يمكن أن تلحق بمعامل البوتاس الأردنية على البحر الميت.
وانتقدت الأمم المتحدة مشروع حفر القناة في 16 ديسمبر 1982 لأنها تنتهك حرمة الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، وستؤدي للإضرار بالمصالح الفلسطينية. ودعت الهيئات الدولية إلى عدم تقديم المساعدة المباشرة أو غير المباشرة لهذا المشروع، وفي عام 1985 قررت الحكومة الصهيونية تأجيل المشروع لأجل غير مسمى بسبب تكاليفه المادية وعدم جدواه الاقتصادية.
ويظل المشروع حلماً يراود القوم، ولكن تنفيذه يحتاج إلى تعاون أردني صهيوني، وهو أحد المشاريع التي تم الاتفاق عليها بين الدولة العبرية والأردن في معاهدة السلام.
- ثانياً: الأهداف والمصالح الصهيونية:
تتعدد الأهداف التي تحيط بالتصور الإسرائيلي حول حفر قناة البحرين باعتباره خطوة مهمة في المشروع الاستراتيجي الإسرائيلي، ويعد مد أنبوب المياه من البحر الأحمر إلى البحر الميت مجرد خطوة مرحلية على صعيد تنفيذه. وقد ارتبط الحديث الصهيوني عن قناة البحرين دوماً بالأغراض الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية البحتة، ولم تقترن عبارة إنقاذ البحر الميت بالقناة إلا في السنوات الأخيرة، وكان في مقدمة من رددها شارون وبيريز.
فبعيداً عن الهدف المعلن وهو إنقاذ البحر الميت فإن الأهداف الاستراتيجية أكثر عمقاً وخطورة؛ حيث يأتي مشروع قناة البحرين في إطار استراتيجية متكاملة لتدعيم النفوذ الإقليمي الإسرائيلي، ومن أبرز محاورها السيطرة على البحر الأحمر وتطوير صحراء النقب. وتساهم قناة البحرين في تدعيم الوجود الصهيوني على البحر الأحمر الذي يساعدها بدوره في التخلص من حالة العزلة والحصار الاقتصادي الذي كانت تفرضه عليها الدول العربية، بدعم علاقاتها الاقتصادية بالدول الإفريقية والآسيوية من خلال البحر الأحمر الذي يمثل شرياناً حيوياً لتدفق التجارة الخارجية الصهيونية مع أقطار إفريقيا وآسيا.
وقد ظهرت الاعتبارات الاقتصادية في المنظور الصهيوني بعد ظهور الأهمية القصوى لميناء إيلات الذي انتعش في أعقاب حصول الدولة العبرية على حرية الملاحة في خليج العقبة ومضيق تيران بعد حرب 1956، فأصبحت إيلات مركز الحركة العبرية في اتجاه الغرب إلى السويس ومنطقة الحقول النفطية، وإلى الشرق وجنوب العقبة. ويحمل البحر الأحمر 25% من واردات الصهاينة البترولية، و 9% من خاماتها المستوردة، ونحو 30% من صادراتها إلى شرق إفريقيا وجنوب آسيا.
ومن جهة ثانية، تستهدف السياسة الصهيونية الاستفادة من ثروات البحر الأحمر وخاصة الثروات المعدنية والسمكية، وإقامة مشروعات سياحية كالترويج لمشروع ريفييرا البحر الأحمر على خليج العقبة.
وقد حرصت الحكومات الصهيونية المتعاقبة على بذل جهود ضخمة لتطوير صحراء النقب اقتصادياً وسكانياً لحماية الأمن القومي الصهيوني. فأحد أبرز الأهداف الإسرائيلية يتمثل في تنمية صحراء النقب بتوفير مصادر المياه والكهرباء؛ حيث إنها تشكل نصف مساحة فلسطين، وتقع بالقرب من مصر. وكانت قناة البحرين البند الوحيد الذي لم يكتمل في منظومة (بن جوريون) لتأمين منطقة النقب من خلال توطين اليهود فيها حتى لا تكون خالية من السكان فيسهل اختراقها خصوصاًً من الجانب المصري.
وتريد الدولة العبرية استكمال الاستيطان في النقب اعتماداً على هجرة اليهود السوفييت الذين يتدفقون على الأرض المحتلة منذ 1989، حيث يعتبر النقب مكاناً صالحاً لاستيعاب المهاجرين السوفييت في ظل أي توسع مستقبلي. ويتم توجيه المهاجرين السوفييت إلى المناطق التي يختل فيها التوازن الديموجرافي بين العرب واليهود خصوصاًً في بعض المناطق التي يشكل فيها العرب أغلبية مثل الجليل والنقب. ففي الجليل والنقب يحتاجون إلى هجرة يهودية لمواجهة التزايد الديموجرافي للعرب، والتي يخشى منها أن تطالب الأقليةُ العربية بالحكم الذاتي.
وعلي الصعيد الاستراتيجي يتنبأ بعض المحللين بأن القناة ما هي إلا مرحلة أولى لمشروع صهيوني لا يكتمل إلا بحفر قناة ثانية تصل المتوسط بالميت، لتصبح الدولة العبرية دولة محورية في العالم تمتلك قناة تضارع وتهدد قناة السويس. كما أن المشروع يشكل تغييراً خطيراً في البيئة الجغرافية للإقليم مما يعني استمرار السيطرة على الضفة الغربية للأبد. كما أن هناك احتمالات وإمكانيات لتوطين عدد من اللاجئين الفلسطينيين.
- ثالثاً: الطموحات الصهيونية وعملية التسوية:
وفي ظل عملية التسوية ازدهرت الطموحات الإسرائيلية للاستفادة من الفرص التي تقدمها هذه العملية على صعيد التعاون الاقتصادي وتطبيع العلاقات مع الدول العربية، وكان البحر الأحمر من أبرز المناطق التي تعددت فيها المشاريع الصهيونية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومن هذه المشاريع التي قدمت إلى قمة عمان نوفمبر 1995، إقامة ميناء مشترك مع الأردن يمكن أن يتسع ليشمل مصر والسعودية، وتطوير الطريق الجنوبي ليصل السويس والضفة عبر إيلات ومنها إلى السعودية، وحفر قناة مياه تربط بين البحر المتوسط والميت أو بين البحر المتوسط وبحيرة طبريا، وإقامة خط أنابيب للغاز من السعودية إلى إيلات، واستيراد الغاز القطري عبر ناقلات عملاقة؛ إلى جانب التعاون الثلاثي بين مصر والأردن في مجال السياحة مثل إنشاء منطقة الريفييرا بطول سواحل إسرائيل على البحر الأحمر مع الأردن، وإنشاء مناطق سياحية بحرية في سيناء على غرار صحراء الأريزونا.
كما قدمت إسرائيل ستة مشاريع بتكلفة 500 مليون دولار لتطهير وحماية سواحل البحر الأحمر والبحر المتوسط للتخلص من التلوث البيئي والنفط.
وخلال مؤتمر القاهرة الاقتصادي حدد الصهاينة التكلفة الاقتصادية لحفر (قناة البحر الميت ـ البحر الأحمر) المشتركة بين الأردن وإسرائيل بنحو خمسة مليارات دولار.
وقد رأت مصر في هذه المشاريع محاولة للهيمنة الاقتصادية، واعتبرتها تهديداً لنفوذها في المنطقة لصالح إسرائيل؛ فقد برز العديد من المشروعات الإسرائيلية التي تهدد قناة السويس والدور الإقليمي المصري، وهي:
1 ـ المشروعات الإسرائيلية البديلة لقناة السويس التي يطرحها الصهاينة من وقت لآخر مثل قناة ربط البحرين عند إيلات وعسقلان على الرغم من عدم جدواها الاقتصادية.
2 ـ مشروعات أنابيب نقل الغاز القطري (قطر ـ حيفا) .
3 ـ مشروع التنمية المتكاملة لوادي غور الأردن.
4 ـ الطريق الدائري الذي يربط بين إيلات والعقبة ومعابر نهر الأردن.
5 ـ مشروع ربط البحر الأحمر بالبحر الميت بقناة بطول 170 كم.
وكلها مشروعات تتوجس منها مصر؛ لأنها تستهدف خلق طرق بديلة لقناة السويس، ويرى بعض المحللين أن مشروع ربط البحر الأحمر بالبحر الميت يتم استخدامه لأسباب سياسية ضد مصر بسبب توجهاتها العربية.
وإذا كان الصراع العربي الصهيوني قد أدى لتعويق إقامة هذه المشاريع، إلا أنه أثناء تنامي الاتجاه نحو التسوية السلمية خصوصاً في أعقاب اتفاق أوسلو 1993، ومعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية 1994 ارتفعت التوقعات بإمكانية تنفيذ بعض هذه المشاريع. وقد حال تعثر عملية التسوية في النصف الثاني من التسعينيات والقلق المصري الذي تمثل في انتقاد الهرولة العربية تجاه دولة العدو الصهيوني دون تنفيذ معظم هذه المشاريع.
وقد ظل المشروع حلماً يراود الصهاينة، ويحتاج تنفيذه إلى تعاون أردني صهيوني؛ فهو أحد المشاريع التي تم الاتفاق عليها بين الصهاينة والأردن في معاهدة السلام. وبينما واجهت الفكرة في الثمانينيات مع القرن الماضي غضباً شديداً، فإن الوضع تغير في عام 1994 بعد توقيع معاهدة السلام الأردنية الصهيونية، منذ التسعينيات في تسويق مشروع قناة ربط البحر الأحمر بالبحر الميت. وهو المشروع نفسه الذي كان الأردن يخطط له، وذلك بعد أن أدخلت تعديلات على مسار القناة الرابطة بين البحرين ليمر جزء منها في الأراضي الإسرائيلية، وجزء آخر في الأراضي الأردنية.
وتطرح الصهيونية المشروع بديلاً عن مشروعها القديم الذي كان يرمي إلى ربط المتوسط بالميت، وتعتبره بمثابة تطوير للمشروع الأردني المطروح لربط البحر الأحمر بالبحر الميت.
ولدى العدو دراسات تفصيلية حول المشروع تقدر تكلفته بنحو 3 ـ 4 مليارات دولار، وترصد آثار حفر القناة على البيئة الجغرافية مثل احتمالات تهديد المنطقة والقناة بالزلازل، وتغير مناسيب المياه.
ويصر واضعو المشروع الصهاينة على اعتباره مشروعاً صهيونياً أردنيا مشتركاً، ومن ثَم فهو يتمتع بشروط التمويل الدولية الميسرة، مثل مستويات الفائدة المنخفضة، وفترة أطول للتسديد.
وقد عرضت الحكومة الإيطالية في بداية 1994 تمويل دراسة الجدوى الاقتصادية لمشروع قناة البحرين: الأحمر ـ الميت بطول 280 كيلو متراً، إذا وافقت عليه الأطراف المعنية بالمشروع، وهي تشمل إلى جانب الأردن وإسرائيل كلاً من السلطة الفلسطينية ومصر.
وقدرت تكلفة المشروع في حينه، بما في ذلك محطات تحلية المياه وتوليد الطاقة الكهربائية، بنحو ملياري دولار ونصف المليار. وخلال مؤتمر القاهرة الاقتصادي حددت إسرائيل التكلفة الاقتصادية لحفر قناة البحر الميت ـ البحر الأحمر المشتركة بين الأردن والصهاينة بنحو خمسة مليارات دولار.
- رابعاً: الرؤية الأردنية الرسمية:
طوَّر الأردن تصوراً جديداً حول المشروع من أجل الحصول على العديد من المكاسب الاقتصادية والمائية من خلال التعاون المشترك مع إسرائيل في تنفيذ المشروع، وقد تجاوبت إسرائيل مع التصور الأردني، وحدث تقارب بين الجانبين نتج عنه تبني فكرة المشروع منذ بداية عقد التسعينيات في القرن الماضي.
ويقوم الطرح الأردني الرسمي للمشروع بالتركيز على الجوانب البيئية التي تتمثل في إنقاذ البحر الميت في الأساس، ثم الأبعاد الاقتصادية التي تتمثل في توليد الكهرباء وتوفير المياه للزراعة بعد ذلك، وتجنب الحديث في الأبعاد السياسية والاستراتيجية للمشروع، إلى جانب تأكيد أنه مشروع أردني الأصل وليس صهيونياً.
ويقوم التصور الأردني لقناة البحر الأحمر ـ البحر الميت على أساس ضخ مليار متر مكعب سنوياً من البحر الأحمر بالغرب من العقبة من ارتفاع 220 م على مرحلتين من الضخ، وتنقل من هناك في قناة عند سفوح جبال أدوم على امتداد أكثر من 220 كم، وتسقط في البحر الميت لتوليد الكهرباء في أربع محطات للطاقة.
لقد شهد عقد التسعينيات تبلور التصور المشترك للأردن والصهاينة حول الفكرة؛ فالخطة الأردنية تفضل أن تمتد القناة لتربط بين البحر الميت والبحر الأحمر، وأن يتم الحصول على موافقة الفلسطينيين كطرف أساسي على الفكرة. وقد نجح الطرفان في خلق تصور مشترك بالاستفادة من أفكار التعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط؛ حيث تبنى الطرفان فكرة إقامة مشروع إقليمي واحد تتقاسم الدولتان إنتاجه، وهو يقوم على أساس جر مياه البحر الأحمر إلى قناة تمتد حتى البحر الميت، كما يستند إلى حقيقة أن الخط الأقل تكلفة والأفضل للقناة في الجزء الجنوبي من منطقة عربة ضمن حدود الأردن، وأن الخط الأفضل في الجزء الشمالي هو خط ضمن حدود إسرائيل.
ومن هذا المنظور فإن للمشروع فوائد اقتصادية وبيئية عديدة منها إنقاذ البحر الميت، والزراعة البحرية، وتوليد الطاقة. وقد قرر الطرفان إعلان الفكرة ووضعها موضع التنفيذ الفعلي خلال قمة الأرض في جوهانسبرج في سبتمبر 2002 من خلال طرحها في شكل جديد هو خط أنابيب وليس حفر قناة من أجل تقليص المعارضة العربية وخفض التكلفة، ومن خلال طرحها في إطار مؤتمر دولي للبيئة من أجل إضفاء أبعاد بيئية تصرف النظر عن الحقائق السياسية والاقتصادية التي يتضمنها المشروع. وقد أكد (شيمون بيريز) أنهم اضطروا إلى تغيير المصطلحات من قناة إلى خط أنابيب تجاوباً مع المستجدات الدولية والإقليمية في قمة الأرض، ومن أجل تخفيف المعارضة ضد المشروع وخاصة من الدول العربية. ولا شك أن صبغ المشروع بالصبغة البيئية يساهم في دفع الدول الغنية الممولة لتحمل نفقات المشروع، ولذلك ارتبط توقيت الإعلان عنه بقمة الأرض؛ حيث تحاول الدولتان تمرير المشروع من بوابة مشاريع البيئة العالمية المهمة بسبب صعوبة تمريره من بوابة المشاريع الإقليمية المشتركة على خلفية الشرق الأوسط الجديد.
وتؤكد وسائل الإعلام الصهيونية أن الأردن هو الذي يلهث وراء تنفيذ المشروع، وأنه يفضل القناة على خطوط الأنابيب على الرغم من تكاليفها المرتفعة من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية مهمة.
لقد تأكد وجود توافق صهيوني أردني مشترك حول مشروع أنبوب البحرين، ولا شك أن تنفيذه سيعود بالفائدة الكبرى على إسرائيل التي تملك مقومات الانتفاع من المشروع بصورة أكبر؛ لأنه سيساعدها على تنمية زراعتها الواسعة وصناعاتها الضخمة في النقب، ولكنه سينعش أيضاً أجزاء من جنوب الأردن، ويحل قسطاً من مشكلة المياه المتفاقمة.
- خامساً: الرفض العربي الرسمي والشعبي:
أثار قرار الأردن طرح تمويل مشروع «قناة البحرين» خلال قمة الأرض في جوهانسبرج (سبتمبر 2002) ، ردود فعل عربية رسمية متحفظة وأخرى شعبية معارضة؛ حيث ينظر معارضو المشروع إليه على أنه أحد أدوات التطبيع مع الدولة العبرية، وأن تنفيذه سيساعد على دمج هذه الدولة مع بقية الدول العربية، كما أنهم يرون أن تمويل المشروع سيصب في جزء منه لصالح الصهاينة. وقد فوجئت المجموعة العربية المشاركة في قمة الأرض بالمشروع وطلبت توضيحات من الوفد الأردني، وحاولت المجموعة ممارسة بعض الضغوط على الأردن لثنيه عن تنفيذه. وتجنباً لإثارة مزيد من الخلافات تقرر تأجيل مناقشة المشروع إلى أجل غير مسمى.
وتعتبر كل من مصر وسورية والعراق ـ قبل خضوعه للاحتلال ـ والسعودية والسلطة الوطنية الفلسطينية أكبر المتحفظين على المشروع. ويرتبط الرفض المصري بأبعاد سياسية واستراتيجية؛ فمصر ترفض أن يسبق مسار التعاون الاقتصادي لعملية السلام المسار السياسي الذي أصبح يعاني من انتكاسة كبيرة، إلى جانب أن هناك مخاوف مصرية من تهديد دورها الإقليمي من خلال هذه المشاريع التي يمكن أن تشكل تهديداً لقناة السويس.
وعلى الصعيد الشعبي؛ فقد أدانت أحزاب المعارضة الأردنية مجتمعة مشروع قناة البحرين، واعتبرت، في بيان صدر عن لجنتها التنسيقية، أن هذا المشروع يستهين بمشاعر العرب والمسلمين ويستخف بمصالحهم، ونددت بالخطوة الحكومية وبالحماس غير المسبوق للمشروع، وعددت مخاطر المشروع التي تكمن في ضخامته، والنتائج التي يجنيها العدو منه، سواء في تبريد مفاعلاته النووية أو ري أراضي النقب، مستفيداً من قدراته التقنية العالية، وقدرته على توفير التمويل اللازم لمشاريعه، بينما تتضاءل فائدة الأردن من هذا المشروع. كما تكمن خطورة هذا المشروع في خروجه على قرارات القمة العربية في بيروت، وعلى الإجماع العربي الرافض للتواصل مع العدو الصهيوني. وقال البيان: إننا ندرك جيداً احتياجات الأردن المائية؛ فمصلحة الأردن تكمن في تنفيذ مشاريع مشتركة مع عمقه العربي، وفي مقدمة المشاريع مشروع سد الوحدة مع سورية الشقيقة، وهو كفيل بتوفير احتياجات الأردن، بالإضافة إلى ما له من مزايا عديدة في مقدمتها عذوبة المياه وقربه من الكثافة السكانية، والأراضي الصالحة للزراعة، كما أن الأردن لا يستطيع الجمع بين عمقه العربي والشراكة مع العدو الصهيوني. وبالرغم من الهجوم العنيف الذي تلقاه مشروع قناة البحرين، إلا أن الأردن ما زال مصمماً على المضي فيه والدفاع عنه.
وعلى الصعيد السياسي ترغب الدولة الصهيونية في أن يشاركها الأردن واحداً من أهم المشروعات البيئية في العالم والمنطقة، لتؤكد على أنه ليس هناك مقاطعة عربية لها. وقد ساهم الموقف الأردني في تخفيف حدة الهجمات الدبلوماسية ضد الصهاينة في قمة الأرض، على عكس الحال في مؤتمر ديربان في عام 2001م.
- خاتمة:
لقد شكلت النتائج السياسية والعسكرية للعدوان الأمريكي على العراق بيئة ملائمة لطرح مشروع قناة البحر الميت بصورة أكثر قوة، فاكتسب المشروع زخماً كبيراً، وتراجعت المعارضة العربية الرسمية، وأصاب الإحباط قطاعات واسعة من الفعاليات الشعبية العربية. فهل تنجح الدولة الصهيونية في تحقيق ما عجزت عنه طوال أكثر من مائة عام، أم تستطيع القوى العربية أن تلملم شتاتها لتعيق تنفيذ المشروع؛ وخصوصاً أن هناك العديد من السيناريوهات التي تشير إلى أن تنفيذ المشروع سيمثل خطوة مهمة نحو فرض المزيد من الهيمنة الصهيونية على مقدرات المنطقة وثرواتها الطبيعية؟ كما أن هناك احتمالات كبيرة لتوسيع المشروع وتحويله من أنبوب إلى قناة مما سيؤثر على مجمل الأوضاع الجيو ـ سياسية في المنطقة.