قراءة في التحولات
بلال الشوبكي (*)
«انسحاب من قطاع غزة، وآخر جزئي من الضفة، حزب جديد على الساحة، والجدار ما زال مستمراً» . بهذه الوقائع تُطرَق أبواب الحكومة الجديدة. تُطرَق وضجيج التساؤلات يحيط بها من كل جانب؛ فإلى أين تسير حكومة القوم؟ أإلى حلم جديد يعبر عن تغير أيديولوجيتها؟ أم إلى ذلك القديم وإن بتغيير وسائلها؟ هل ما استجد من تطورات على الساحة الصهيونية مثير للغرابة؟ أم أن الاستغراب مما يجري هو الأكثر غرابة.
نعم! بنت دولة يهود الجدار، وانسحبت من غزة، وتمخضت «فولدت كاديما» ، هل ملّت دولتهم ضربات المقاومة؟ أم باتت تجهز لفصل جديد من الصراع معها؟ تعالت الأصوات التي تقول: تغيَّر الصهيونية، لكن أياً منها لم يقل كيف تغيرت ولماذا؟ قالوا تغيرت وكفى.
هل تخلت دولتهم عن طموحها وحلمها بأرض (إسرائيل الكبرى) كما يزعمون، وهل خروجها من غزة يدل فعلاً على ذلك؟! هل تنازلوا عن تاريخها المزعوم؟ هل اكتفت بهذا الجيتو داخل الجدار؟ أمِنَ الممكن أن يكون فوز كاديما ميلاداً لمنطلقات أيديولوجية جديدة؟ أم هو الطريق الجديد نحو القديم؟
الكثير من المحللين حاولوا تفسير ما يجري في دولتهم على أنه تغير جذري يعود بنا إلى الصهيونية، وما تدعو له من تحقيق حلم دولتهم الكبرى، والأساطير اليهودية التي حاولوا الترويج لها على مدى قرون مضت؛ فالحكم على التطورات الجديدة في الدولة الصهيونية على أنها تغير استراتيجي ونكوص عن الحلم المزعوم، يلغي مئات السنين من العمل الصهيوني من أجل فرض وقائع على الأرض تجعل من أساطيرهم حقائق مقبولة من قِبَل الشعوب الأخرى.
لذلك فإن اعتبار التطورات الأخيرة في دولتهم لا تصب في خدمة الأهداف الصهيونية، أو أنها تعبر عن تحول أيديولوجي تُغْفِلُ في واقع الأمر عدة نقاط:
1 ـ دولتهم دون تاريخ؛ فقد شهدت خروجاً من التاريخ قرابة ألفي عام، وهذا يعني ضرورة تمسكهم بتاريخها المزعوم؛ إذ إن أي خطوة من قِبَلها للتراجع عن ادعاءاتها الصهيونية، تعني نفياً لكل تاريخها، ومن ثم أحقيتها في أرضهم المحتلة التي اغتصبوها.
2 ـ انسحابهم من أراضٍ فلسطينية لا يعني أنها تخلت عن أسطورة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض؛ لأن في ذلك إقراراً منها بأنها دولة استعمارية.
3 ـ هذا بالنسبة للانسحاب. أما بالنسبة للجدار؛ فبالرغم من أنه يؤيد التفسير السابق الذكر من أن دولتهم تتغير جذرياً إذا ما فُسِّر الجدار على أنه حدود سياسية، لكن تفسير إقامة الجدار من وجهة نظر تاريخية، يعطينا تأكيداً على تمسكهم بأساطيرها؛ فالجدار لا يمكن فهمه تاريخياً إلا ضمن أسطورة شعب الله المختار الذي يرفض التعامل مع الأغيار (غير اليهود) .
وهذا الرأي بشأن عدم إمكانية تخليهم عن أساطيرها، جاء بشكل أكثر تفصيلاً في كتاب الدكتور محمد أحمد النابلسي، بعنوان «سيكولوجية السياسة العربية، العرب والمستقبليات» . حيث يفرد لهذه القضية جزءاً خاصاً يعالج فيه إمكانيات التحول في النهج الصهيوني، ليتوصل إلى أن دولتهم لا يمكن لها التراجع عن أي جزئية من أساطيرها؛ لأن ذلك يعني التشكيك في كل ما تدعيه.
ومما يضعف أيضاً من وجهة النظر التي ترى في التطورات الأخيرة في دولتهم تغيراً أيديولوجياً، هو ما سنورده من تدعيم لوجهة النظر القائلة إن المستجدات الأخيرة على الساحة الصهيونية، إنما هي في حقيقة الأمر لا تتجاوز التحول التكتيكي في طريقة التعامل مع قضية الصراع في المنطقة، وأسلوب العمل من أجل تحقيق أهداف دولتهم المغتصبة.
فبالرغم من حدة التغيرات الصهيونية الأخيرة، والتعاطي مع تفسيرها بنوع من الدهشة والحيرة نتيجة لخروج دولتهم عن الخط التقليدي في التعامل مع أطراف الصراع، إلا أن ما جرى يمكن فهمه وتفسيره من خلال المنطلقات الآتية:
أولاً: تغير مفهوم الأمن القومي:
يمر مفهوم الأمن حالياً بمنعطفات جديدة تحمّل هذا المفهوم معاني جديدة، هذه المنعطفات إنما تأتي كتعبير واضح عن دخول لاعبين جدد في المشهد الدولي؛ إذ إن احتكار الدولة القومية دور المؤثر في تشكيل معالم الوضع الدولي لم يعد قائماً، وهذا ما أدى إلى دخول عناصر جديدة كمهدد لأمن الدول غير ذلك الخطر المتمثل بالدول المماثلة.
هذه التطورات التي وسّعت من مفهوم الأمن ليضم جوانب أخرى جعلت منه مفهوماً إنسانياً، وعالمياً، أدى إلى اتباع الدول طرقاً جديدة للحفاظ على أمنها القومي؛ فلم يعد الحفاظ على الحدود هو تحقيق الأمن، ولم يعد الخطر العسكري هو التهديد الوحيد لأمن الدول؛ هذا ما دفع الكثير من الدول لتغير من استعداداتها الأمنية، وأساليبها التقليدية في الحفاظ على مصالحها، وتحقيق أمنها بشكل عام.
ما نريد الخلوص له من وراء الإشارة لتغير مفهوم الأمن القومي، والذي لا مجال لذكر أسبابه الآن هو أن ما حدث مؤخراً من تغيرات غير تقليدية في العمل السياسي الصهيوني، لا يمكن فهمه بمعزل عما يشهده العالم اليوم من تعاطٍ جديد مع مفهوم الأمن، وما يمكن أن يشهده في تعاطيه مع مفهوم الدولة مستقبلاً، والتي بالرغم من تقدير معظم الخبراء على أنها ستبقى المؤسسة الأهم حتى في ظل التغيرات العالمية الجديدة، إلا أن وظائفها ستُطَوَّع وتُكَيَّف تبعاً لهذه التغيرات؛ وهذا ما أشارت إليه الباحثة في العلوم الاجتماعية والإعلام (ليلى حلاوة) في إحدى كتاباتها بعنوان (السيادة.. جدلية الدولة والعولمة) .
فدولة الصهاينة أيقنت أن أمنها بالمفاهيم الجديدة لا يمكن تحقيقه، في ظل الانعزال عن محيطها الإقليمي، بل إن انخراطها في محيطها الإقليمي ومن ثم العالمي هو الأداة الأكثر فاعلية للحفاظ على الأمن والمصالح التي تعدت حدود الدولة القومية؛ فالاعتمادية المتبادلة بين الدول وخاصة في المجالات الأمنية، تجعل من غياب تواصل الدولة مع فضائها الإقليمي تهديداً لأمنها؛ فكيف لإسرائيل التغاضي عن ذلك؟
ثانياً: حاجتهم إلى المقبولية العربية والإسلامية:
ربما يكون التشابك قوياً بين هذه الجزئية وما سبقها، إلى الحد الذي يصعب الفصل بينهما؛ فالحاجة إلى تحقيق الأمن بمفهومه الشامل، تتطلب ـ كما أشرنا ـ انخراطاً في المحيط الإقليمي، لكن هذا يتطلب مسبقاً تحقيق المقبولية من قِبَل الإقليم المحيط والاعتراف بشرعية الوجود ككيان طبيعي، وهذا ما يمكن على أساسه تفسير ما أقدمت عليه الدولة الصهيونية ـ على يد مؤسسي حزب كاديما الفائز ـ من انسحاب من غزة وما يطرح حول احتمالية انسحابها من أجزاء أخرى من الضفة؛ فبالرغم من أن للمقاومة الفلسطينية دورها الفاعل في الانسحاب، إلا أن دولتهم استثمرت خسارتها هذه، فحاولت تحقيق المكاسب السياسية والدبلوماسية، كمكافأة لها على تنازلها.
وبالرغم من أن الدولة الصهيونية عملت منذ عقود على استغلال أي فرصة تحمل في طياتها إقامة روابط وعلاقات مع دول إسلامية وعربية، إلا أنها لم تنجح بشكل كامل في ذلك، مما دفعها إلى تغيير أسلوبها في ذلك؛ فبدلاً من انتظار الفرص من أجل بناء العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، تقوم دولتهم حالياً باقتناص الفرص من خلال ما أقدمت عليه من انسحاب صوَّرته بالتنازل من جانبها من أجل السلام والاستقرار، ومقدمة هذا الانسحاب للدول المحيطة كي تجد هذه الدول مبرراً للتعامل مع هذا الكيان على الأقل أمام شعوبها.
وما يدل على ذلك الحملة الدبلوماسية المكثفة التي قامت بها وزارة الخارجية لديهم بقيادة (سلفان شالوم) ، والتي صبت كل اهتمامها على صنع علاقات جديدة مع الدول الإسلامية، وهذا تزامن مع فترة الانسحاب الأخير من قطاع غزة؛ فقد بينت وسائل الإعلام حينها اللقاءات التي جمعت بين مسؤولين صهاينة وآخرين من الباكستان وماليزيا وإندونيسيا، وهذا يحقق لهم عدة مكاسب، منها التخفيف من أثر حملاتها القمعية ضد الفلسطينيين على المستوى الإسلامي، وبما أن جزءاً هاماً من القضية الفلسطينية، هو ذو صلة وثيقة بالمسلمين وخاصة فيما يتعلق بمدينة القدس، فإن إقامة علاقات جيدة مع الدول الإسلامية، قد يساعد دولتهم في التعامل مع هذه القضايا؛ إضافة لفتح المجال أمام علاقات تجارية متميزة مع دول كبيرة مثل إندونيسيا.
وبالنسبة للفوز الذي حققه حزب «كاديما» فهو تعبير واقعي عن تغير الأساليب الصهيونية وليس الأهداف؛ فمؤسسو الحزب أيقنوا بضرورة إنشاء مؤسسة جديدة تكون الإطار الذي من خلاله ينطلقون بالنهج الجديد، وما يؤكد أن الحزب الجديد هو وسيلة لأشخاص بارزين وليس تعبيراً عن تحول أيديولوجي لهؤلاء، هو ضم الحزب الجديد لأعضاء من أحزاب مختلفة أمضت عقوداً وهي في تنافس (الليكود والعمل) لكن بالرغم من انضمامهم لكاديما فما زال يُنظر إليهم على أنهم في أحزابهم السابقة، وهذا ما هو حاصل مع بيرس. كما أن الفترة البسيطة التي اقتضاها إقناع بيرس للدخول في الحزب الجديد تؤكد أن الحزب الجديد لم يؤسس على تغير أيديولوجي.
أما بالنسبة لطموح (أولمرت) ومؤيديه بتغيير نظام الانتخابات كي يتمكن الصهاينة من اختيار رئيس الوزراء مباشرة، هو عدم إمكانية السير وفق النهج الجديد في ظل ابتزاز الأحزاب الصغيرة للأحزاب الكبيرة؛ فالحاجة دائماً لائتلافات من أجل تشكيل حكومة، تقيد الحزب الفائز، وهذا ما يلاقي حالياً انتقاداً واسعاً من قِبَل الأكاديميين والنخب الصهيونية؛ لأن في النظام الحالي ـ كما يؤكدون ـ إعاقة لتحقيق المصلحة العامة من قِبَل أقليات سياسية.
ثالثاً: طموح الدولة الصهيونية أن تكون لاعباً ريادياً على الساحة العالمية:
ما يؤكد طموح واهتمام الدولة الصهيونية وحلفائها بتحولها إلى لاعب ريادي على المستوى العالمي هو المشاريع الجديدة التي قدمت لإعادة هيكلة الشرق الأوسط، مثل المشروع المتوسطي، ومشروع الشرق الأوسط الكبير، حيث يلتقي المشروعان في تحويل دولتهم إلى كيان طبيعي داخل منطقتها العربية والإسلامية، لكن ما يميز مشروع الشرق الأوسط هو تحويلها إلى دولة رائدة وقيادية في محيطها، كممهد لانطلاقها على المستوى العالمي، والذي بدأ الحديث عنه بضرورة ضم دولتهم للعضوية الدائمة لمجلس الأمن.
هذه الأهداف الإقليمية والعالمية تتطلب نهجا آخر، يمكن أن تكون التطورات الأخيرة جزءاً من هذا النهج؛ فدولتهم بحاجة لتقديم شيء ولو كان ظاهرياً حتى تصنع المبرر للحكومات العربية والإسلامية كي تتعاطى معها، وانسحابها من غزة وإمكانية انسحابها من الضفة، وإن كان يشكل نصراً للمقاومة؛ إلا أنه في ظل تغير مفهوم الأمن واحتمالية تراجع دور الحدود، لا يعد خسارة كبيرة لإسرائيل؛ لأنها وضمن خططها الحالية ستعود إذا ما حققت صفة الكيان الطبيعي في المنطقة، لكن عودتها ستكون بأشكال جديدة تعطي وجودها الشرعية.
لكن الدولة الصهيونية ووفقاً لتحولها التكتيكي الذي يعبر عن منهج جديد في العمل، ما زالت تلعب على وتر الحكومات مغفلة دور الشعوب في التأثير، لكن ما حدث مؤخراً من تقدم للإخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية المصرية، وفوز حماس في التشريعي الفلسطيني، إنما يعبر عن توجه جديد ومكثف من قِبَل الشارع العربي نحو التغيير لصالح التوجه الإسلامي، وهذا ما يمكن أن يعطل طموح الدولة الصهيونية بالتحول إلى عضو يتمتع بالمقبولية في محيطه العربي والإسلامي ما دام أن كثيراً من قومنا يتدافعون للسلام المزعوم كتدافع الذباب على الشراب. والله المستعان.