من طلب رضا الناس بسخط الله
د. عبد الله مبارك الخاطر
عرفته في بريطانيا شاباً طموحاً يتدفق حيوية وحركة.. جل همه أن يحصل
على شهادة (دكتوراه) ثم يعود إلى بلده ليكون مدير جامعة أو وكيل وزارة أو
وزيراً.
كان يحدثنا عن ثقته بنفسه وقدرته على استمالة الناس إليه.. فهذا المسؤول
أقنعه بوجهة نظره، وذاك المدير أقام معه أطيب العلاقات وأمتنها.. وخلال إقامته
في بريطانيا نهج طريقه المعروف، فأخذ يتقرب إلى مشرفه ويتملق له، ويحاول
إرضاءه بمختلف الوسائل والأساليب ولم يقصر " دكتور المستقبل " في إقناع أستاذه
بأنه ليس رجعياً، ولا متديناً، وفضلاً عن هذا وذاك فهو معجب أشد الإعجاب
بالإنكليز وجامعاتهم وتقدمهم العلمي.
وذات يوم أراد الأستاذ أن يمتحن مصداقية أقوال تلميذه، فدعاه إلى وكر من
أوكار الخمور، وسارع (دكتور المستقبل) إلى تلبية الدعوة.. وظن الأحمق أن
استجابته لطلب المشرف سوف تساعد على اختصار الوقت.
شرب (دكتور المستقبل) حتى الثمالة، وفقد توازنه، ولم يعد قادراً على
ضبط أقواله وأفعاله.. أما المشرف فكان يشرب قليلاً ويتمتع برؤية تلميذه وهو
يشرب لأول مرة. وهب أنه شرب كثيراً فلا فرق عنده بين الماء والخمرة، لقد
اعتاد شرب الخمر.
أما " دكتور المستقبل " فقد أخذ يعبر عن مشاعره الحقيقية نحو الإنجليز،
وراح يلصق بهم أبشع النعوت وأحطها، والمشرف ينظر إليه ويؤمن على كلامه
ويبتسم له ويخفي في نفسه ما لا يبديه.
ومضت الأيام، وكلما قدم (دكتور المستقبل) فصلاً أخّره المشرف مدة طويلة
ومملة، ثم يعيده لتلميذه طالباً حذف بعض الأمور وإضافة أمور أخرى وإعادة
الصياغة لأن لغة الكاتب ركيكة.. وكان المشرف يغلّف حقده بقوله:
أريدك أن تكون دكتوراً ناجحاً، وسوف تستفيد كثيراً من هذه الفترة الطويلة
التي تمكثها بيننا، ولا يتخرج من جامعاتنا إلا الأفذاذ من الرجال.
وأخيراً بقي الطالب الطموح ضعفي المدة المحددة، وذاق الويلات، وأصبح
يشك بمواهبه وقدراته.. وبعد التي واللتية نال شهادة الدكتوراه، وقبل سفره جلس
مع أستاذه المشرف يحدثه عن إعجابه بالإنكليز وجامعاتهم وتقديره لكل ما رآه
عندهم، فأجابه المشرف بكل خبث ودهاء: إن حقيقة رأيك بالإنكليز وأخلاقهم
وعاداتهم سمعته منك في الخمارة قبل ثلاث سنين، فحاول (الدكتور الجديد) أن
يعتذر ولكنه أخذ يتكلم ويهذر ولكنه يعرف أن كلامه ليس مقنعاً ومن كان عاجزاً عن
إقناع نفسه فكيف يقنع غيره.
أدرك الدكتور الجديد ورجل المستقبل في بلده لماذا غيّر المشرف أسلوبه
ولماذا تضاعفت مدة الدراسة لكنه بكل أسف لم يدرك الأمور التالية:
من طلب رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
ولم يدرك أنه [ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً *ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا
يَحْتَسِبُ] .
ولم يفهم - وهو المسلم - أن التنافس يكون على الأعمال الصالحة وليس
على حطام الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
وليت هذه العقوبة الدنيوية تكون سبباً في هداية الدكتور وتوبته.. وليت أمثاله
يتعظون.