عاطف الجولاني
شكلت نتائج انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني تحولاً مهمّاً ونقطة انعطاف بارزة في مسار القضية الفلسطينية. بعضهم أطلق على اكتساح (حماس) للانتخابات وصف «التسونامي» في إشارة لأهمية ما حدث، بينما ذهب بعضٌ إلى وصفه بـ «الزلزال» الذي ستكون له تداعيات وتوابع ارتدادية قوية، على مستوى المنطقة والإقليم، وليس على مستوى الساحة الفلسطينية فحسب.
النتائج جاءت مفاجئة للجميع: لحركة فتح المنافس الرئيس لحماس والخاسر للسلطة، ولـ «إسرائيل» والولايات المتحدة الأمريكية اللتين أدركتا تغير قواعد اللعبة ودخول الصراع العربي الإسرائيلي مرحلة جديدة مغايرة. وقد كان لنتائج الانتخابات على الطرفين وقع الصدمة. الدول العربية والأوروبية فوجئت هي الأخرى بالنتائج المدوّية التي كانت خارج حسابات الجميع وتوقعاتهم. والسؤال الذي طرح نفسه بقوة بعد ظهور النتائج: هل كانت الانتخابات ستجري لو أن الأطراف المعنية: قيادة السلطة و (فتح) و (إسرائيل) والولايات المتحدة، توقعت مسبَّقاً فوز (حماس) وحصولها على الأغلبية؟
طرحتُ السؤال على شخصية أمريكية مهمة على علاقة وثيقة بوزارة الخارجية الأمريكية، فكان الردّ أن جميع استطلاعات الرأي التي أجريت قُبَيْلَ الانتخابات، وكذلك التقديرات الإسرائيلية والأمريكية والعربية الرسمية، أكدت أن (حماس) لن تحصل على أكثر من 40 بالمائة من مقاعد المجلس التشريعي، ولم يَرِدْ مطلقاً في حسابات تلك الأطراف احتمال أن تحصل (حماس) على أغلبية المقاعد. وبتصميم واضح ودون تردد، أكدت الشخصية أن الإدارة الأمريكية لم تكن لتسمح بإجراء تلك الانتخابات لو توقعت نتائجها.
- سقوط سيناريو الإفشال والانقلاب:
بعد الخروج من وقع صدمة الانتخابات، كان واضحاً أن الإدارة الأمريكية اختارت الرهان على إفشال تجربة (حماس) في السلطة ومحاصرتها سياسياً ومالياً، كخطوة أولى نحو الانقلاب على نتائج الانتخابات. وكانت الإدارة الأمريكية ترمي من خلال هذا السيناريو إلى إقناع الفلسطينيين بارتكابهم خطأً فادحاً باختيارهم حركة حماس، مما يؤدي إلى إجراء انتخابات مبكرة تُقصي (حماس) وتعيد حركة (فتح) إلى سدة السلطة. ومع أن الإدارة الأمريكية أنكرت ما نشرته صحف أمريكية بهذا الخصوص ونفت أن تكون سعت للانقلاب على نتائج الانتخابات، غير أن ممارساتها على الأرض كذبت نفيها.
حركة حماس التي أدركت أبعاد المخطط الأمريكي ـ الإسرائيلي لعزلها وحصارها وإفشال تجربتها في السلطة، وضعت خطة تحرك مقابلة لمواجهة المخطط وإفشاله، وتمكنت بكفاءة عالية من تجاوز العراقيل التي وضعت في طريقها، ونجحت عبر جولات وفدها القيادي إلى موسكو وأنقرة والعديد من العواصم العربية في كسر طوق الحصار والعزلة، وفي حشد دعم وتأييد سياسي ومادي لم يكن يتوقعه أكثر المتشائمين في واشنطن وتل أبيب.
لذا لم يكن مستغرباً أن تعيد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تقييم الموقف وانتهاج سياسة جديدة في التعامل مع (حماس) بعد سقوط خيار الإفشال والحصار؛ فقد قررت الإدارة الأمريكية مواصلة تقديم الدعم المالي الذي كانت تقدمه للفلسطينيين، لكن عبر مؤسسات إنسانية غير تابعة للسلطة. الاتحاد الأوروبي قرر هو الآخر نقل نحو مائة وأربعين مليون دولار للسلطة الفلسطينية عن الشهور الثلاثة القادمة، بعد أن كان هدد بوقفها إثر وصول حماس إلى السلطة. وقد لعب الخوف من قيام إيران بملء الفراغ ـ في حال توقف المساعدات الأمريكية والأوروبية للفلسطينيين ـ دوراً مهمّاً في تراجع الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي عن موقفهما، خشية دفع (حماس) إلى أحضان ما تعتبره واشنطن محوراً للتشدد.
وقد فوجئت الإدارة الأمريكية بالموقف الرسمي العربي الذي لم يُبْدِ حماساً للتجاوب مع توجهاتها إزاء (حماس) بعد الفوز؛ حيث منيت جولة وزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) إلى عدد من الدول العربية بفشل ذريع، وسمعت في الرياض والقاهرة لغة غير التي كانت تتمناها. فقد أكد وزير الخارجية السعودي استمرار مساعدات بلاده للشعب الفلسطيني، بل ولزيادتها إذا استدعت الحاجة، وفي القاهرة عارض المسؤولون المصريون الموقف الأمريكي المتسرع في الحكم على حركة حماس، ودعوا إلى إعطائها الفرصة الكافية قبل الحكم عليها. وجاء الموقف القوي لوزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير، والذي عبَّر عن رفض سياسة ممارسة الضغوط وفرض الشروط على (حماس) ، ليوجه صفعة لجهود الإدارة الأمريكية لمحاصرة الحركة التي شبّت عن طوق الحصار.
وكان واضحاً أن فوز (حماس) في الانتخابات التشريعية، ووصولها إلى السلطة، وخطابها القوي الرافض للخضوع للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية، قد أدى إلى رفع سقف الخطاب والموقف السياسي الرسمي العربي، الذي بدا بحاجة لخطوة كبيرة بهذا الحجم للخروج من حالة الضعف والشلل التي سيطرت عقب أحداث 11 سبتمبر. وقد كان مفاجئاً أن تصدر دعوات عن أطراف رسمية عربية لحركة (حماس) بعدم التجاوب مع الضغوط وعدم تقديم تنازلات من طرف واحد، حتى إن (أسامة الباز) المستشار السياسي للرئيس المصري ذهب إلى القول: إن قادة (حماس) سيكونون «حمقى» إن هم أقدموا على خطوة من هذا النوع.
- مستقبل (حماس) بعد الانتخابات:
لا شك أن (حماس) تواجه مرحلة من نوع جديد، بمعطيات جديدة، وتحديات جديدة، سيكون لمدى قدرتها على التعامل معها تأثير مهم في تحديد مستقبلها السياسي والشعبي، بل وعلى مستقبل الوضع الفلسطيني برمته.
التحدي الأول الذي يواجه الحركة في العهد الجديد هو: القدرة على النجاح في تقديم تجربة مميزة في الحكم والسلطة. فنجاح الأداء في مرحلة ما بعد الفوز لا يقل أهمية عن تحقيق النصر الانتخابي، بل ربما كان أخطر وأكثر صعوبة.
التحدي الثاني الذي يواجه الحركة هو: المواءمة بين السياسة والسلطة من جهة، والمقاومة من جهة أخرى. فلم تعد (حماس) في الوضع الجديد تتصدى لمهمات المعارضة أو المقاومة فحسب، بل أضحت تتحمل إلى جانب المقاومة مسؤولية إدارة القرار السياسي وأوضاع الشعب الفلسطيني، وهي تواجه في المرحلة الجديدة، دون شك، مهمات من نوع مختلف، وهي مطالبة بإجراء معادلة دقيقة ومتوازنة تجمع بين ما يعتبره بعضٌ أمرين متناقضين يصعب الجمع بينهما، في حين تؤكد الحركة إمكانية ذلك، وتصر على التمسك بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة ما استمر وجود الاحتلال، ولا تستبعد الحركة إمكانية التعاطي مع الأمر الواقع وقبول هدنة وفق شروط معينة، لكنها ترفض أن يكون هذا التعاطي الواقعي على حساب برنامج المقاومة.
القدرة على إدارة العلاقة مع حركة (فتح) ومع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، يشكل تحدياً آخر يواجه الحركة.
وكان واضحاً منذ الجلسة الأولى للمجلس التشريعي الفلسطيني حجم التوتر الذي يسود العلاقة بين (حماس) و (فتح) التي سارع نوابها للانسحاب من الجلسة احتجاجاً على التوجه لإلغاء قرارات المجلس السابق في جلسته الأخيرة بنقل صلاحيات مهمة من الحكومة إلى الرئيس. ولا شك أن حركة (فتح) التي تشكل ثاني أكبر كتلة في المجلس التشريعي تملك من القدرة والخبرة ما قد يمكنها من إعاقة عمل المجلس إن لم يحصل التنسيق والتوافق بينها وبين (حماس) . أما على صعيد العلاقة مع الرئيس، فتبدو احتمالات نسج علاقة إيجابية بين (حماس) وعباس تقوم على أساس التعاون بديلاً عن التناقض والتصادم في الصلاحيات، تبدو أمراً مرجحاً. أما في حال الفشل في إدارة العلاقة بين الجانبين، فيُخشى من قيام سلطة برأسين تؤدي إلى شلل القرار السياسي.
التحدي الأمني والقدرة على ضبط حالة الانفلات، هو: تحد مهم يواجه (حماس) في ظل تعدد أجهزة الأمن، وخضوع معظمها لسلطة الرئيس لا الحكومة، وكذلك في ظل هيمنة عناصر حركة فتح على مقاليد تلك الأجهزة.
وثمة تحد آخر يتمثل في الأسئلة الصعبة التي طُرحت على (حماس) من قِبَل الأطراف الدولية والإقليمية. وقد أظهرت الحركة حتى الآن قدرة فائقة في الإجابة عن هذه التساؤلات المتعلقة بمسألة الاعتراف بالكيان الصهيوني، والموقف من استمرار المقاومة، والاعتراف بالاتفاقيات المبرمة مع الإسرائيليين، واستطاعت اتخاذ مواقف ذكية توائم بين المرونة السياسية والتمسك بالثوابت الفلسطينية.
ومن التحديات المهمة للمرحلة القادمة، قدرة الحركة على إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة بنائها كإطار وطني يمثل الداخل والخارج الفلسطيني، والقدرة على تفعيل دور الشتات الفلسطيني الذي تعرَّض للتهميش طوال السنوات الماضية.
ومن شأن نجاح حماس في مواجهة التحديات آنفة الذكر، أن يعزز حضورها السياسي وقوتها الشعبية، وأن ينقلها نقلات واسعة إلى الأمام. وما يظهر حتى اللحظة أن فرص نجاح الحركة قوية في مواجهة التحديات، وفي تقديم تجربة متميزة، ولا سيما أن تقدم الحركة في الانتخابات يأتي في سياق تقدم عام للإسلاميين في المنطقة كما ظهر في مصر والعراق وأقطار أخرى.
وثمة من يرى ان (حماس) ليست وحدها من يواجه تحديات النجاح؛ فالحركة الإسلامية بصورة عامة، وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين، تواجه بمجملها هذا التحدي؛ فهذه المرة الأولى التي تواجه فيها الجماعة منذ تأسيسها عام 1928 تحدي الوصول إلى مواقع السلطة، ومن شأن نجاح حماس أو فشلها، أن ينعكس سلباً أو إيجاباً على مجمل الحركة الإسلامية، وهو ما يحمِّلها مسؤولية خاصة إزاء نجاح التجربة.