د. أحمد إبراهيم خضر
الإلحاد كما يقول (القرطبي) : هو التكذيب. وأصل الإلحاد في لغة العرب هو العدول عن القصد، والجوْر عنه والإعراض، ويستعمل للإشارة إلى كل معوج غير مستقيم، وقيل: إنه الكفر والشرك.
والإلحاد نتيجة لازمة لحالة النفس التي استنفدت كل إمكانياتها الدينية، فلم يعد في وسعها أن تؤمن. والإلحاد في الغرب كما يقول (عبد الرحمن بدوي) يتجه مباشرة إلى «الله» وينكر الدين. وعلى هذا الأساس نجد أن المفاهيم الغربية: كالتنوير، والعقلانية، والنفعية، والعلمانية، والوضعية: التجريبية والمنطقية والإمبيريقية والبراجماتية والحداثة وما بعد الحداثة ... إلخ: كلها مفاهيم أساسها إلحادي، ومن ثم فهي غير محايدة. وهي شديدة التداخل بعضها مع بعض، وفدت إلينا من الغرب، وانفعل وتفاعل معها بعض باحثينا، رغم أنها جميعاً وبلا استثناء تصب في نهر واحد: هو معاداة الدين، ومحاولة فصل الأخلاق عنه.
التنوير كما يصفه (عاطف أحمد) : هو مركز الحداثة الغربية، وهو مرحلة من مراحل الفكر الأوروبي تميزت بالتأكيد على الخبرة والعقل الإنساني، وظاهرياً ليس في ذلك شيء، لكنه ارتبط بعدم الثقة بالدين، وبسلطة التقاليد، ورفض الوصاية الدينية على الفكر وشؤون الحياة. وارتبط التنوير أيضاً بالنشأة التدريجية للأفكار التي تبنتها المجتمعات الغربية: كالليبرالية، والعلمانية، والديموقراطية.
ينظر التنوير إلى الكائنات البشرية نظرة مادية، ويؤمن بقدرة الإنسان على تحقيق التقدم من خلال التعليم والبحث العلمي الهادف للسيطرة على الطبيعة؛ في الوقت الذي يُعلي من قيمة المنفعة في المجال الاجتماعي والأخلاقي. و «النفعية» هنا تقوم على مبدأ: أن اللذة أحسن وأفضل من الألم، والمنفعة هي السعادة الكبرى لأكبر عدد من الأفراد، والوصول بالسعادة إلى أقصى حد ممكن هو الهدف الأساسي والنهائي للجنس البشري، ولا يتم ذلك إلا عن طريق اللذة، فلا شيء مرغوب لذاته سوى اللذة، وليس هناك نوع من اللذة أفضل من الآخر. وترتبط النفعية «بالبراجماتية» وهي النظرية التي ترى الآثار الملموسة تجريبياً والمتضمنة في فكرة ما أو في قضية ما، هي التي تكوِّن معنى القضية، وتعتبر في نفس الوقت معياراً لصدقها. وتنظر «البراجماتية» إلى «المنفعة» على أنها المعيار الأساسي لكل قيمة.
أما أساس الفكر التنويري كما يرى (غانم) هنا فهي المقولة المعروفة: «لا سلطان على العقل إلا العقل» . وقد شغلت قضية العقل الفلسفة الغربية لألفي سنة؛ مما أدى إلى التطرف في تأكيد مكانة العقل وسلطته في المجتمع البشري، وأعلت من قيمته ليقف في مواجهة الإيمان والسلطة الدينية والمسائل الروحية، ويرى (سمارت) في الموسوعة الفلسفية أن روح عصر التنوير العقلانية النقدية وجهت ضد الحقائق المنزلة في الكتب المقدسة، ويرى أيضاً: «أن أفضل استخدام للعقلانية على المستوى الديني سلبي تماماً، وأنها في نهاية المطاف حركة مضادة للدين ذات نظرة نفعية، لا تلقي بالاً للقيم الأخلاقية، وتعطي وزناً أكبر للمناقشات العلمية والتاريخية المضادة للإيمان.
ومن هنا تحددت «العقلانية» على أنها مذهب فلسفي، يرى أن كل ما هو موجود مردود إلى مبادئ العقل. وتداولت المعاجم والدراسات هذه الصيغة العقلانية، وتكررت في مؤلفات مؤرخي الفكر في شتى اللغات، وأضحى مفهوم «التنوير» ملازماً لمفهوم «العقلانية» ؛ على أنها العمل بمبادئ العقل. سُمّي القرن الثامن عشر في فرنسا بـ (عصر التنوير) . واعتاد مؤرخو الفكر على أن يطلقوا لقب «فيلسوف» على كل من كتب بروح جديدة في هذا القرن، سواء أكانت كتاباته في التاريخ أو العلوم أو الدين أو القانون أو السياسة. وسُمّي هذا القرن أيضاً بـ «قرن الفلاسفة» كرديف لمن خالف الشائع، فترسخ معنى «العقلانية» على أنها بناء كل الإنتاج الذهني ممحوراً حول العقل وقدراته، وتحولت «العقلانية» لتعني الثقة الكلية بالعقل، والإيمان بقدرته ورفض ما عداه من سلطة بما فيها السلطة الدينية.
هناك تطورات اقتصادية واجتماعية رافقها تقدم نوعي في مختلف العلوم مهدت لظهور العقلانية والتنوير، ودفعت من ثَم إلى قطيعة شبه كاملة مع الدين. وحين حدث الانقلاب الواضح في أسس وآلية المنهج العلمي، وحين استتبت التجربة والاستقراء كمنهج في علوم كثيرة: كالرياضيات، والهندسة، والميكانيكا، انتقل هذا المنهج بتأثير التحولات الاجتماعية إلى الميادين الأخرى، وأهمها الدين والأخلاق، وأضحى أداة اليقين والعلمية، فشاع بعد ذلك «أن كل معرفة يقينية لا بُدّ أن تستمد يقينها من الواقع ومن قابليتها للتعميم عليه، وليس الدين» . ومن هنا طالب المفكرون الغربيون بتأسيس الأخلاق على العقل وحده وليس الدين، مؤمنين باستحالة التوفيق بين الوحي والعقل، وبين الإيمان والعلم، وبَشَّر بعضهم بدين جديد أسماه «الدين الطبيعي» الذي لا يقوم على وحي ولا هو بحاجة إلى هرمية كهنوتية، ولا إلى عناية إلهية أو تناسق مسبق، بل على ما فطرت عليه طبيعة الإنسان ووهبته من أخلاق تمكنه من إقامة مجتمع تحكمه الأخوة والمساواة.
وهناك بعض التعريفات التي تربط العقلانية «بالإمبيريقية» بصورة مباشرة، منها أن العقلانية هي كل تفكير، أو فعل واع منبثق من قواعد المنطق والمعرفة الإمبيريقية؛ حيث تترابط الأهداف ارتباطاً منطقياً، وتتحدد وسائل أكثر ملاءمة، وتعرَّف الإنبيريقية أو «التجريبية» : بأنها كل ما يقوم على الملاحظة والتجربة، ويُستخدم هذا المصطلح ليشير إلى الملاحظات والقضايا التي تعتمد أساساً على الخبرة الحسية، أو التي تشتق من الخبرات التي يتم التوصل إليها عن طريق «المنهج الاستقرائي» وهو العملية المنطقية التي تستنبط عن طريقها التعميمات من وقائع جزئية؛ أي الانتقال من الحكم والأمثلة الفردية إلى المبادئ العامة. وقد ذهب المفكرون الغربيون بـ «التجريبية» إلى جميع الحقول في العلم والمعرفة وحتى الدين، ثم إلى عمق ما يُسمّونه «بالوضعية» بحيث تكون الحواس والتجربة المصدر الوحيد لكل معرفة يقينية، مبقية للعقل القدرة على الربط بين معطيات الحواس وتذكرها، ويرون أن الأفكار تنشأ من هنا، ومن بين هذه الأفكار ما يطلقون عليه «فكرة الله» . ويرى مفكرو الغرب كذلك أنه لا وجود لقوانين أو معطيات قَبْلية سابقة على التجربة، والتكرار هو الذي يجعل المعرفة عادة، وعلى هذا الأساس لا يعترفون بكل المعطيات الدينية؛ لأنها تمثل معطيات سابقة على التجربة. وخلاصة ذلك: أنه لا حقائق معرفية في مجال الدين؛ لأن الحقائق الدينية في نظر مفكري الغرب هي موضوع إيمان وليست موضوع معرفة. وحسبنا هنا في بيان تعارض الإمبيريقية مع العقيدة ما اعترف به الباحثون العرب من أن الإمبيريقية تستند إلى ما يسود العلوم الاجتماعية من اتجاه علماني، ومن اهتمام بمسائل علمانية، ولأن «الإمبيريقية» تعتمد فقط على الأساليب الفنية؛ فإنها ترفض أي فكر، وترى بصراحة أن كل ما لا يخضع للتجريب فهو باطل.
و «الوضعية» : فلسفة ظهرت على يد المفكر الفرنسي «أوجست كونت» الذي ولد في «مونبيليه» لأسرة تقليدية كاثوليكية فقد الإيمان وهو في السادسة عشرة من عمره، وتحول إلى شاب متحرر يقرأ لـ «فولتير» ، وسعى لإبعاد الله باسم الدين، وكان يقول إنه مستعد لتقدير الله تاريخياً بشرط الانتهاء منه ومن ذكره نهائياً.
سَمّى الشيخ (مصطفي صبري) فلسفة كونت بـ «الفلسفة الإثباتية» ووصمها بالإلحاد. استغرق تأليف هذه الفلسفة من «كونت» اثني عشر عاماً، وخلاصتها: إحلال الروح العلمية محل الروح الدينية، وحل مشكلات الأخلاق والدين. رأى «كونت» أن فلسفته الوضعية لن تجعل هناك حاجة إلى الدين، كما حاول أن يصطنع أخلاقاً وضعية بعيدة كل البعد عن أي فكرة دينية، وخالية تماماً من أي مصدر إلهي. المطلق عند «كونت» لا وجود له في العالم، والمطلق الوحيد عنده هو أن كل شيء نسبي. والأديان عنده ولدت من الخزعبلات القديمة، وفي رأيه أن الدين يجب أن يبقى شكلاً، ولا بُدّ أن يتغير محتواه، ولهذا انشغل في أواخر عمره في صياغة دين عالمي بلا إله، أبقى فيه على الطقوس، وبدلاً من أن يتجه الناس إلى عبادة إله غير مرئي جعلهم يتجهون إلى الإنسانية لعبادتها، وأعلن نفسه البابا الأعلى للإنسانية. المرأة عند «كونت» هي الأجدر بالعبادة؛ لأنها محل لتحقيق أماني الصداقة والعشق. وتاريخ كونت الشخصي يكشف أنه أنه كان مصاباً بأمراض نفسية وعقلية، كما كان متزوجاً من بغي كان يقوم بالتستر عليها من الشرطة. كما يكشف تاريخه أيضاً أن فلسفته الوضعية هذه كانت ثمرة علاقته بامرأة سجين فرنسي أحبها، وكتب لها ما نصه: «لقد بدأت الوضعية الدينبة فعلاً في لقائنا الأول يوم الجمعة 16 مايو 1845م» . والحقيقة هنا هي أن الفلسفة الوضعية ليست أصلاً من بنات أفكار «كونت» وإنما هي من أفكار أستاذه (سان سيمون) الذي تتلمذ على يديه ست سنوات. عرَّف (سان سيمون) الوضعية بأنها تطبيق المبادئ العلمية على جميع الظواهر الطبيعية والإنسانية وفهمها في ضوء هذه المبادئ فقط (لا الدين) ؛ فالدين عنده يمثل طفولة الإنسانية، أما العلم فهو إطار محقق وصادق من المعتقدات الراسخة التي تحل محل الدين، والعلوم الوضعية هي التي ستتصدى في نظره للنفوذ الرجعي للأديان. التفكير الغيبي عند (سان سيمون) تفكير مزيف يجبر العقول على الطاعة العمياء.
وتكمن خطورة (سان سيمون) في اتصالاته القوية باليهود والماسونية؛ مما يوحي بالدور اليهودي والماسوني في إطلاق هذه االمفاهبم. ويقول «جي نورمانو» الأستاذ في جامعة هارفارد كاشفاً النقاب عن خطورة هذا الرجل: «كل العلوم الاجتماعية خصبتها كتابات (سان سيمون) : الاشتراكية من صنعه، وهو في نفس الوقت نبي الرأسمالية. أثر (سان سيمون) في الاقتصاد والفلسفة والتاريخ والدين وللسياسة، وهو الذي صاغ مسودة عصبة الأمم في عام 1814م، وهو فوق ذلك كله يعتبر قائداً للنخبة الجديدة من السياسيين والصحفيين ورجال التقنية والصناعة، وهو المتحدث الرسمي باسم الجيل الذي يحمل روح التحديث الثائرة. كان (سان سيمون) منذ طفولته ميالاً إلى التحرر من الدين الذي رأى فيه اختراعاً قامت به الإنسانية، وكان يرى أن الإنسان هو الذي اخترع الله مدفوعاً بدوافع مادية، وأن فكرة الله ناتجة عن دورة السائل العصبي في المخ. (تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً) (1) .
أثرت الفلسفة الوضعية على الإسلام والمسلمين تأثيراً مدمراً؛ وقد انخدع بها بعض شيوخ الأزهر، ولم يعرفوا كنه حقيقتها. امتدحها الشيخ (فريد وجدي) ، وكانت وراء كتاب علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) كما أنها كانت وراء أفكار (طنطاوي جوهري) ، ولا نعتقد أننا نجانب الصواب إذا قلنا إنها كانت أحد المعاول الرئيسة في القضاء على الخلافة الإسلامية بعد أن تبنتها جمعية (الاتحاد والترقي) في تركيا التي آمنت بمبدأ الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية وهي الدعامة التي تغلغلت بها الفلسفة الوضعية إلى الشرق. رحبت المحافل الماسونية، وخاصة محفل «سلانيك» بإيطاليا بجمعية (الاتحاد والترقي) وكانت جلسات هذه الجمعية تعقد في غرف هذه المحافل التي يستحيل على الجواسيس أن يصلوا إليها.
أما «الوضعية المنطقية» كما يصفها (محمد المياري) فقد تطورت من وضعية كُوِّنت وتأسست على يد جماعة تسمى بـ «جماعة فيينا» . وما يهمنا من هذه الفلسفة هو عداؤها للدين الذي بنطوي تحت محاربتها للميتافيزيقا؛ فهي ترفض لغة الميتافيزيقا، وتصفها بأنها لغة زائفة، يمكن تكذيبها، ولا تخرج عن كونها مجرد لغو، وتشكل أشباه قضايا، وليست قضايا، كما ترى أن الخبرة الحسية هي المجال الوحيد الذي يمكن أن تبحث فيه أي قضية والذي يمكن للإنسان أن ينهل منه أحكامه العملية، وما لا يرتد إلى الخبرة الحسية عند هذه الوضعية لا معنى له.
أما «العلمانية» فلا تحتاج إلى كثير بيان؛ إنها كما شرحها (شريف يونس) : ذلك المبدأ الذي ينادي بفصل الدين عن الدولة وعن التعليم العام، وتحويل الدين إلى شأن خاص بالفرد، وكفالة حق الأفراد في تغيير عقائدهم كيفما شاؤوا. وتنطلق «العلمانية» من رؤية إنسانية غير دينية للعالم تحرر الفرد من الخضوع لما هو غيبي ومطلق. ويرى (محمد الحارثي) : أن مفهوم فصل الدين عن السياسة هو المفهوم السائد للعلمانية عند العرب. إلا أنه يوضح أن العلمانية الآن تحاول أن تظهر أنها ليست منكرة لوجود مسلَّمات دينية بمعناها الشمولي. ويوضح (الحارثي) كذلك: أن الخطاب العلماني في منطقتنا العربية مساير للخطاب السياسي، وهو خطاب موجه في أساسه إلى عقلنة المجتمع فكرياً، واجتماعياً، وسياسياً. وكان هذا من أبرز الأسباب التي أدت إلى إثارة الخطاب الديني وحوَّلته إلى خطاب تصادمي مع الخطاب العلماني في المنطقة العربية، وخاصة أن العلمانيين كانوا قد اتجهوا إلى وسيلة ما يسمى بـ «بنقد التراث من داخله» بقصد تفعيله في تجديد الفكر العربي، كما انصب على ما يُسَمّى «بفقه الواقع» من تلك المواد التراثية وعدم استصحاب «فقه النص» بل كانوا يحاكمون فقه النص. كما كانوا يقابلون بين الواقع بكل مدخلاته المحلية والخارجبة وبين التراث والنص اليقيني بصفة خاصة، تمهيداً لما يُسَمّى «بأنسنة الدين» ؛ أي اعتباره إنسانياً منقطع الصلة بالله، وعد التراث جميعه المقدس، وغير المقدس منتجَ الخبرة الإنسانية.
أما «الحداثة» فمن أبرز صفاتها عدم القدرة على تعريفها، حتى إن الحداثيين أنفسهم أخفقوا في تحديد مفهوم دقيق لها، وعرَّفوا الحداثة بعد الجهد بالحداثة. ظهر المفهوم أولاً مرتبطاً بفن العمارة في عام 1945م؛ حيث كانت تعني الخروج على كل ما هو نمطي ومألوف برؤية ثورية تعيد صياغة العمارة؛ باعتبارها نشاطاً فنياً وإنسانياً، يتمتع بحرية تامة، ولا تحده قيود. ثم امتد المفهوم كغيره من المفاهيم إلى ميادين الحياة الأخرى، فأعيد تعريفه ليعني: وجهة نظر خاصة تدور حول إمكانات الحياة الاجتماعية البشرية، تجد جذورها في التنوير، وتتأسس على الإيمان بالتفكير العقلاني، ومن ثم تنظر إلى الحقيقة والجمال والأخلاق كحقائق موضوعية يمكن اكتشافها ومعرفتها وفهمها من خلال التفكير العقلاني والوسائل العلمية، وليس عن طريق الدين.
المجالات الثقافية المختلفة من المنظور الحداثي تتمايز ويستقل بعضها عن بعض استقلالاً تاماً؛ بحيث ينفصل كل مجال عن غيره، ويضع لنفسه معاييره حسب طبيعته ذاتها، وليس من أي شيء خارجها؛ بحيث يكون هناك تمايز واضح بين الثقافة العلمانية والثقافة الدينية. وهذا يعني أنه لا ارتباط بين الدين من ناحية، والتعليم أو الفن أو السياسة أو الاقتصاد من ناحية أخرى، فلا يستطيع الدين أن يفرض معاييره على الفن أو السياسة أو الاقتصاد. وتؤكد الحداثة هنا على الأخلاق بصفة خاصة، وترى أنه لا يجب أن تستند إلى الدين وألا بفرض الدين معاييره عليها؛ لأنها من المنظور الحداثي تقوم على قوانين الطبيعة أو العقل.
ومن ناحية أخرى تعرِّف «الموسوعة البريطانية» الحداثة بأنها: حركة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، تدعو إلى إعادة تفسير التعاليم الكاثوليكية التقليدية في ضوء النظريات التاريخية والفلسفية والنفسية، وتدعو إلى حرية الضمير، وترى أن العهدين القديم والجديد مقيدان بزمانهما، وأن هناك تطوراً في تاريخ الديانة الإنجيلية. تبنّى المثقفون العرب هذا المفهوم للحداثة، واعترف بعضهم بعدم فصل الحداثة العربية عن الحداثة الغربية، ونظروا إلى الحداثة على أنها وحدة متجانسة مشعة عالمياً من الغرب، ولهذا حاولوا إسقاط الفهم الغربي للحداثة على الإسلام والقرآن؛ فقاموا بتفسير الإسلام في ضوء النظريات التاريخية والفلسفية والاجتماعية التي تقوم أصلاً على أساس إلحادي فوقي للدين، كما نظروا إلى الإسلام والقرآن على أنهما مقيدان بفترة تاريخية معينة لا تمتد إلى غيرها، وقام العديد منهم بإحداث ما يُسَمّىه بـ «الإصلاح والتجديد» في الإسلام وفق هذه النظريات، مطلِقاً لنفسه حرية التفسير دون أدنى التزام بأي ثوابت عقدية. وتعبر «الموسوعة الأمريكية» عن هذا الموقف العدائي للحداثة من الدين بصورة أشد وضوحاً فتقول: «إن الحداثة نظرة تقوم على الاقتناع بأن العلم والتقدم العلمي الحديث يتطلب إعادة تقويم أساسي للعقائد التقليدية» ، ومن ثم لا ينظر إلى الدين على أنه صياغة دقيقة لسلطة جديرة باعتماد وقبول الحقائق المنزلة من الله، وإنما ينظر إليه على أنه مقولات لمشاعر وخبرات دينية عاشها بعض الرجال عبر حقبة تاريخية معينة، وعلى هذا الأساس تكون الحقائق الدينية عرضة لعملية تطوير مستمر كجزء من الخبرة المتقدمة للجنس البشري. وتستلزم هذه العملية إدخال مفاهيم عديدة وجديدة كشيء ضروري للتعبير عن الفكر والتقدم الحديث؛ فالوحي مثلاً في مفهوم الحداثة مجرد خبرة حسية لمجموعة حقائق عن الله أكثر منها موضع اتصال لحقيقة شاملة من الله. أما موسوعة «نيو كولومبيا» فهي ترى أن الله ـ تعالى ـ في «مفهوم الحداثة» ليس فوق الوجود المادي. ويقرّ (جون ديوي) في «الموسوعة الأكاديمية الأمريكية» بأن مصطلح «الحداثة» في العصر الحديث استخدم لنقد الدين بصفة عامة. وبمعنى آخر: تميل إلى الفرار مما يسمى «بالدوجما» ، وتفتح المجال للعقل للتمحيص والوصول إلى اليقين. كما تنطوي الحداثة على فكرة «نسبية المعرفة» ، وترفض النظرة التي ترى أن العلم يقوم على أساس صلب من الحقائق المتيقنة التي يمكن للحواس ملاحظتها.
ومن أبرز المثقفين العرب الأحياء الذين تبنوا هذه النظرة للحداثة (حسن حنفي) أستاذ الفلسفة الإسلامية. انعكس هذا التأثير على العديد من الأفكار التي تُخرج من يعتقدها ـ وهو يعلم ويقصد ـ من دائرة الإسلام. دعا «حنفي» إلى إخضاع القرآن للنقد وللمنهج النقدي مثلما فعل (أسبينوزا) مع التوراة والإنجيل، ورفض تفسير قوله ـ تعالى ـ: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] بأنه حفظ للنص، معلقاً بأن هذا التفسير «نظرة لاهوتية صرفة تهرب من النقد، وتلجأ إلى السلطة الإلهية» . الله عند (حسن حنفي) وظيفة وليس رباً، الله هو التقدم، والصلاة والصيام ليست عبادات معقولة، الإيمان التقليدي بالله وملائكته وكتبه ورسله هو إيمان ميت، الإيمان الحقيقي عنده هو الإيمان بالتقدم ومصلحة الشعوب. «الدين» عند (حنفي) هو العمل وليس الاعتقاد، الشك في العقيدة ليس بخطيئة؛ لأن الدين في رأيه مرض نفسي، واهتزاز شعوري، وارتجاج في المخ، وهوس واضطراب، ولهذا يجب تحويله الى إيديولوجية (1) .
ويرى (محمد الحارثي) في تحليله الدقيق لتأثير الحداثة الغربية على الخطاب الحداثي العربي، أن (طه حسين) هو المؤسس الحقيقي للخطاب الحداثي العربي وواضع منطلقانه الفكرية؛ نظراً لرؤيته الشمولية لقضايا التحديث في العالم العربي، ولروحه العلمية الناقدة وقدرته على التحاور، واعتداده بالذهنية في المنهج العلمي، ولطرحه الصريح لآرائه التي رأى أنها إصلاحية والتي لا تقلّ جرأة عن آراء «قاسم أمين» وكذلك لأثره على من أتوا بعده، ولهذا يراه (الحارثي) صوتاً مفرداً في مجموعة أصوات من النخبة.
أما العناصر الواضحة في أصول الخطاب الحداثي العربي عند (طه حسين) فهي: التشكيك في المقدس، والتشويش عليه، والدعوة إلى التحول من فكر قديم إلى فكر حديث يحكمه شرط المعاصرة، يقوم على نشاط العقل العملي، ويعتمد البرهان؛ مما يسهم في قطع الوشائج بين العلم والدين إذا أريد للعلم أن ينجح، وإعادة قراءة النص الديني من خلال معطيات العصر؛ من حيث مواجهة النص الديني بالواقع. كان (طه حسين) يقول نفس ما قاله الغربيون من أن الإسلام كان متأثراً بالتوراة والإنجيل، فاتّهم القرآن بأنه قد تعمد طمس ذكر الأديان السابقة. ورأى أن القصص القرآني يحتمل أكثر من فهم، وأكثر من توجيه قرائي. ورأى كذلك أن العرب ليست لديهم القدرة على الابتكار، وأن غير العرب هم الأقدر على صنع المدنية. وأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا يصلحان أساساً للوحدة السياسية، ولا قواماً لتكوين الدول. وأن نظام الحكم، وقيام الدول وتكوينها يقومان على المنافع العملية قبل أي شيء آخر، وعلى هذا الأساس يكون الدين شيء والسياسة شيء آخر، وهذا هو ما تقوم عليه الحياة الحديثة في أوروبا.
كان (طه حسين) كما يقول (الحارثي) يعتد بالصوت الأحادي، ويصادر ما عداه، ويطرح كل قيمة ثابتة. من هنا اكتسب مفهوم «الحداثة» شكلاً جديداً غير ذلك الذي كان عند القدماء الذين نظروا إليها على أنها «التجديد» بمعنى «تنبيه الناس لما غفلوا عنه من أمور دينهم» كما جاء في الحديث: «يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد على الناس أمر دينهم» . حوَّل (طه حسين) مفهوم «الحداثة» ليصبح «البحث عن طرائق التحول من معرفة إلى معرفة، ومن مدنية إلى أخرى» . ويذكر (محمد قطب) أن (طه حسين) لم يتخلَّ عن آرائه هذه حتى عام واحد قبل وفاته.
حين نقل الباحثون العرب مفهوم الحداثة الغربي إلى المنطقة العربية لم يفرغوه من مضامينه الأيديولوجية المتمثلة في فلسفة التنوير الفرنسية التي كانت ترى «أن الهدم هو طريق البناء، وأن هذا الهدم ينبغي أن يبدأ من رفض المقدس أياً كان مصدره، وتمجيد الحقيقة العلمية» ولهذا كانوا يروِّجون لمضامين مسّت المسلَّمات، وهزت الخصوصيات اليقينية، وتستَّر بعض منهم وراء الأدب والشعر والنثر لزعزعة اليقيني في الذاكرة العربية، وتحويل الذائقة العربية عن تراكماتها الحسية التي تأصلت منذ أكثر من خمسة عشر قرناً؛ فاعتبر بعضهم ـ كما يقول الحارثي ـ الكتابة القرآنية نصاً لغوياً خارجاً من كل بُعْد ديني، ويجب أن يُقرأ كما يُقرأ أي نص أدبي، وحاولوا إعادة الخطاب الشعري العربي؛ بحيث يتمرد على الماثل من القيم عن طريق الخروج على ضوابط البيان العربي وقوانين اللغة المعيارية في نحوها، وصرفها، وبلاغتها، ثم تُستغل في تعضيد دعاوى التغيير في نمط التفكير، وفي أصول المرجعية العربية.
أصبحت «الحداثة» وفقاً لهذه الغايات رفضاً صريحاً للقديم، وانقطاعاً عنه؛ فكل قيمة تراثية دينية وغير دينية، لغوية وإيقاعية ومعرفية، وأدبية لا بُدّ من رفضها، للوصول إلى التغيير في الفكر وفي الحياة، وهو تغيير لا يقتصر على هدم تقاليد الأدب العربي، واستنبات تقاليد جديدة، ولكنه دعوة إلى تغيير شمولي في مناشط الحياة جميعها وفقاً لمبدأ «الهدم طريق البناء» .
أما «ما بعد الحداثة» التي وصفها منتقدوها كما يقول (السيد إبراهيم) : بأنها هَوَس عارض، أو اختراع خلاَّب اخترعه أهل الفكر بحثاً عن خطاب جديد يُكسبهم امتيازاً ثقافياً؛ فهي كما عبر عنها (عاطف أحمد) نقلاً عن «وبستمر سيدمان» : اتجاه فكري يرفض الحداثة، كما يرفض النظريات والأنساق التفسيرية الكبرى (ويدخل الإسلام تحت هذه الأنساق بالطبع) التي تحاول تفسير كل الظواهر، وتتنبأ بالمستقبل الإنساني وتصنعه، وتعتبر أن ذلك هو الذي يحقق التحرر والتقدم. وتمارس (ما بعد الحداثة) تفكيرها ـ مثلها مثل الوضعية المنطقية ـ عبر نطاق اللغة؛ على اعتبار أن اللغة هي كل شيء، وهي لا تنظر إلى الظواهر على أنها قائمة في الواقع وإنما تبحث في الصياغات اللغوية ذاتها المتعلقة بالواقع الذي لا يتجاوز نطاقها. وتشرح (خالدة تسكام) هذه الجزئية بقولها: إنه ينظر إلى مفهوم اللغة التقليدي على أنه أسطورة تنطوي بداخلها على شيء غامض، هذا العنصر الغامض في اللغة هو العنصر الميتافيزيقي. وبصورة أوضح: إذا طبقنا ذلك على ثقافتنا العربية؛ فإن ما تريد «تسكام» أن تقوله صراحة هو: تحرير اللغة العربية من الأسطورة الميتافيزيقية، وبعدها يتم إزالة هذه الأسطورة تماماً؛ أي: الدين، ومن هنا نجد تفسيراً لكل محاولات الباحثين العرب في مهاجمة اللغة العربية ومحاولة الوثوب على قواعد الصرف والنحو والبيان العربي أملاً في تحريرها من الدين الذي يستبدلونه بمصطلح الأيديولوجية.
وينفي اتجاه (ما بعد الحداثة) وجود معانٍ أو حقائق معينة، يعمل التفكير على اكتشافها، بل ترى أن ما نتعامل معه على أنه حقائق ومعانٍ إنما يتمثل في الطريقة التي نفكر فيها، والتي هي دائمة التغير والاختلاف. ويحتفي هذا الاتجاه احتفاءً خاصاً بالاختلاف وبالجزئي، وما هو يومي، وبالرغبة والجسد، والممارسات الحسية عموماً، وبالصور المباشرة والحضور المباشر للأشياء الذي ينطوي على غياب أية حقائق وراءها. ويرفض اتجاه ما بعد الحداثة القول بوجود أساس أولي وثابت لا يقبل النقض يرتكز عليه الفكر. وقد عبر عن ذلك «نيتشه» في مقولته المشهورة: «موت الحقيقة المطلقة» أو «أن الله قد مات» تعالى الله عما يقولون. شرح الباحثون هذه المقولة بقولهم: «إنها مجاز، أريدَ به أنه قد ضاع الأساس الذي يضمن لأي مقولة أن تكون مبنية على الحق، ولا يوجد أساس يمكن أن يقال به: هذا خطأ، وهذا صواب» .
ويُعتبر (جاك دريدا) أبرز فلاسفة (ما بعد الحداثة) المعاصرين، وقد رحل عن هذه الدنيا منذ بضعة أيام، وهو من أكثر الفلاسفة المعاصرين تأثيراً على الباحثين العرب. ويُسمّى بفيلسوف التفكيك أو التقويض. وخلاصة فلسفته التي قام الباحثون العرب بتطبيقها على النصوص القرآنية هي: (لا حدود فاصلة بين النص والتفسير) مما يعني تقويض مرجعية صاحب النص من جذورها، بمعنى أن صاحب النص لا يستطيع أن يفرض على النصوص المعاني التي يريدها؛ فالعقل يجدد النصوص على نحو دائم، والنصوص ليست إنتاج أصحابها وحدهم؛ فهي تتقاطع مع نصوص أخرى لها هيمنة عليها على أنحاء لا يمكن أن نميط عنها اللثام، والتفكيك هنا هو استراتيجية من شأنها أن تثير أسئلة لا تهدأ حول النصوص، ومهمتها إنكار أن أي نص له وجود ثابت ومستقر. وقد وضعت «تسكام» في ترجمتها لما قاله «رافيندران» عن «دريدا» ولما شرحه (السيد إبراهيم) عن فلسفة «دريدا» النقط فوق الحروف بإعلان البُعد الإلحادي لهذه الفلسفة. تقول (تسكام) : تعريف التفكيك بأنه رفض لأولوية الروح وسلطة الوسيط، وأنه تحدًّ لما هو أخلاقي؛ إنه الانغمار في الحياة الدنيوية، إنه يعني اختفاء الرب ... الحقيقة فَبْركة وخداع كبير ... التفكيك يمتد إلى كتبنا المقدسة، لا يعترف بشيء اسمه كتاب ... شرع (دريدا) في إطاحة الأديان عن عروشها في ممالك مثلت فيها حصانات، وفرت الحماية للمفاهيم الميتافيزيقية.. ينبغي تحرير الذهن من الضغوط والضوابط التي فرضت باسم الرب أو الأديان ... » . ولبيان تأثير (دريدا) على الباحثين العرب، ومن ثم هجومهم الشرس على الدين ننقل هنا فقرة واحدة لـ (محمد شقرون) يقول فيها: «إن ضرورة تفكيك الدين من أجل التحرير الضروري لمجال الفكر؛ وذلك لإنتاج تأويل علمي عن الاجتماعي لم تطرح بصراحة وبجرأة في الوطن العربي كضرورة واضحة لممارسة العلم بصفة عامة» .
هذه هي أبرز المفاهيم التي يتغنى بها ثلة من المثقفين العرب في أيامنا هذه، وهذا بيان للأساس الإلحادي الصارخ فيها، وبيان كذلك لمدى وحجم تأثيرها على هؤلاء الصنف من المثقفين، ودَوْرهم في هدم المسَلّمات العقدية وما يرتبط بها عند المسلمين.