علي حسين باكير
يعيش حزب الله الآن مرحلة صعبة جدّا قد تحكم عليه بأن يصبح مجرّد حزب سياسي لبناني شأنه شأن باقي الاحزاب على الأرض اللبنانيةّ، وهو ما سيجرّده من ذراعه العسكري الذي أكسبه شهرة تعدّت حدوده وقدراته وأدخلته في معادلات إقليمية ودولية كبيرة بالمنطقة.
هذا وقد لاحظنا من خلال قراءاتنا سواء ما كان منها لمواقف الكتّاب أو الناس العاديين في الوطن العربي وخارج لبنان، أنّ هناك صورة مختصرة ونمطيّة عن حزب الله تسوقها العاطفة، وتغيب عنها الواقعية من خلال اجتزاء الأحداث ورؤيتها من منظور منفصل عن سياقها التاريخي، دون النظر إلى الخلفيات والأبعاد المحيطة بنشأة هذا الحزب وحدود الأدوار المنوطة به، وهو ما يجافي ويغالط طبيعة التحليل السياسي المنطقي، وربما يعود جزء من ذلك أيضاً إلى تعقيد المشهد الداخلي اللبناني الذي يصعب فهمه بشكل واضح على العديد من الناس أو المراقبين من الخارج.
ومن هذا المنطلق نسعى لإعطاء فكرة دقيقة وواضحة عن (حزب الله) من المنظور الداخلي اللبناني وربطها بالجانب الإقليمي والدولي كي تتضح صورته بشكل جلي أمام المتابعين والمهتمّين بشأن الحزب حاضره ومستقبله (?) في ظل التحولات الإقليمية والدولية الراهنة والتي تنعكس بقوة على الساحة اللبنانية.
- مسائل في نشأة حزب الله:
1 ـ لا علاقة للحزب بالمارينز:
من المغالطات الشائعة أنّ حزب الله كان مسؤولاً عن عملية التفجير التي ضربت مقر قوات المارينز الأمريكيين والفرنسيين والتي أدّت إلى انسحاب القوات الأمريكية من لبنان، وقد اكّد الأمين العام الأوّل لحزب الله الشيخ صبحي الطفيلي مرّات عديدة أنّهم لم يقوموا بهذه العملية، وأنّ إحدى الجهات سبقتهم إلى هذا الشرف على حد قوله.
على العموم لقد جاءت ولادة الحزب في ظروف حروب خارجية وداخلية عنيفة شهدها لبنان.
2 ـ صلة الحزب بإيران:
لقد كان لإيران الدور الأبرز في ولادة الحزب إثر انتهاء دور حركة أمل الشيعية، وبعد أن تورّطت في مجازر كبيرة في حق الفلسطينيين في لبنان والذين كان بعضهم يعتبرهم جيش السنّة في لبنان، ولم تعد حركة أمل بشقّها العسكري قادرة على ترويج الخط الإيراني، فكان لا بد من إنشاء حزب آخر ينقل إيران إلى المنطقة ويربطها بالقضية الفلسطينية، ويسمح لها بموطئ قدم، ويجعلها على صلة مباشرة بالأحداث، فكان إنشاء (حزب الله) . فلقد عملت إيران على الاهتمام بالحزب اهتماماً كبيراً، فقامت بتلميع سيرته والحرص على مثاليتها للاستفادة منها فيما بعد، وتكفّلت إيران بالدعم المالي للحزب والذي كان العامل الأوّل في اجتذاب المقاتلين إلى صفوفه، وجاء في كتاب (الحروب السرية) : «بلغت الأجرة الشهرية للمقاتل خمسة آلاف ليرة لبنانية، وهي أعلى أجرة تقاضاها مقاتل في لبنان عام 1986 (?) ، لدرجة أن مقاتلي أمل راحوا بهدف الكسب يهجرون صفوف الحركة للانخراط في حزب الله» .
3 ـ جهود الحزب لجذب الناس إليه:
بدأت تظهر تباعاً المؤسسات الصحية والاجتماعية والتربوية؛ فمؤسسة «جهاد البناء» تضم مهندسين وفنيين وعمالاً، مهمتها منذ 1988 مسح الأضرار الناجمة عن الاعتداءات الصهيونية، وترميم وإعادة بناء ما تهدم من منازل، إلى حفر الآبار وبناء الملاجئ والمساهمة في بناء المستوصفات والمدارس، وإعداد الدورات التدريبية الزراعية ... إلخ.
وتعمل «جمعية الإمداد الخيرية الإسلامية» التي تأسست في 1987 من أجل «الوصول إلى اكتفاء العوائل ذاتياً، ورفع مستواها التربوي والعلمي ورعاية العجزة وكفالة الأيتام» . وتهدف «مؤسسة الشهيد» إلى الاهتمام التربوي والتعليمي والاجتماعي بأسر الشهداء من خلال متابعة أوضاعهم وهم في داخل أسرهم عبر العلاقة المتواصلة مع المؤسسة والعاملين فيها. أما المؤسسة «الإسلامية للتربية والتعليم» فحديثة العهد نسبياً؛ إذ يعود تأسيسها إلى عام 1993، وقد عملت أيضاً على تأسيس المدارس في معظم المناطق اللبنانية لرعاية أبناء الشهداء وتعليمهم، وإعدادهم إعداداً عقائدياً إسلامياً (شيعياً) .
كما شجعت المقاومة ودعمت هيئات أهلية مؤيدة لها كـ «هيئة دعم المقاومة الإسلامية» التي قامت بحملات لجمع التبرعات، والتبرع بالدم، وعقد الندوات، وإقامة المعارض في المناطق المختلفة في لبنان للتعريف بأهداف المقاومة، وجمع التبرعات لها، وتبليغ رسالتها وحشد التأييد لها، وخصوصاً في أوقات العدوان، أو في أثناء العمليات النوعية الكبيرة التي تقوم بها ضد قوات الاحتلال.
هكذا بات الحزب جزءاً من المعادلة الاجتماعية - السياسية في لبنان، وتجنب بذلك أن يبقى حالة عسكرية خاصة أو معزولة. وقد ساعد هذا الخيار الاجتماعي السياسي لحزب الله على بلورة سياسات «التكيف» التي اعتمدها في مواجهة التحولات السياسية الداخلية من دون أن تبدل أولويات الحزب في المواجهة الدائمة لجيش الاحتلال.
4 ـ المنافع المتبادلة بين الحزب وإيران:
تكمن المنفعة بين الطرفين في النقاط التالية:
أولاً: يقوم الحزب بتصدير مفاهيم الثورة الإيرانية بكافّة مضامينها الدينية والاجتماعية إلى البيئة اللبنانيّة، وتلتزم إيران مقابل ذلك بجميع الأعباء المالية والمترتبات التي يتطلبها هذا العمل.
ثانياً: تقوم إيران بتأمين السلاح والعتاد الكامل لحزب الله لتحرير جنوبه (ليس مقاتلة المحتل) وذلك ضمن معادلة داخلية محدودة لا يمكن تجاوزها إلاّ بالخطابات والاستعراضات والكلام، والهدف من ذلك أن يلقى حزب الله شهرة كبيرة في العالم الإسلامي تمهّد الطريق له لتصدير مفاهيم الثورة الإيرانية.
ثالثاً: يؤمّن وجود حزب الله بذاته وكونه تابعاً لإيران موطئ قدم للسياسة الإيرانية التي تسعى إلى استغلال مسألة معاداتها للصهاينة إلى أبعد حدود على الرغم من بعدها الجغرافي، ويعتبر الحزب صلة الوصل في الموضوع، ويشكل ورقة عالية للمساومة على أي وضع من الأوضاع المصيرية.
بالإضافة إلى أدوار أخرى متحركة تفرضها كل مرحلة من المراحل سنتحدث عنها لاحقاً.
- علاقة حزب الله بسورية:
أمّا عن علاقة الحزب بسورية، فهي علاقة قويّة جداًً ما كان الحزب ليستطيع أن يقف على قدميه على كافة الصعد المادية والعسكرية والسياسية وأن يستفيد من المساعدات التي تعطيه إيّاها إيران لو كانت سورية معارضة للخط الإيراني.
واعتبر هذا الدور امتداداً للتحالف السوري الإيراني؛ حيث رأت سورية في إيران حليفاً استراتيجياً وخاصّة إثر العداء المستحكم بين البعث السوري والبعث العراقي، ومن الطرائف في هذا الموضوع أنّ الخميني وأنصاره من حزب الله كانوا يعتبرون البعث العراقي كافراً في حين أنّ البعث السوري كان من أقوى حلفائهم، وحرصت على الاهتمام بالحزب بسبب المعرفة المسبقة أيضاً للنظام السوري بمدى التغلغل الإيراني في لبنان الذي شكل عمقاً استراتيجياً لسورية، ومن ثم كان الحرص السوري على مد الجسور مع شيعة لبنان وحصوله على فتوى من موسى الصدر بانتماء «الطائفة العلوية النصيرية» للمذهب الإمامي الجعفري، وهو ما يعني قدراً من الشراكة المذهبية مع إيران من ناحية ومع شيعة لبنان من الطرف الآخر. وقد قامت سورية بعد ذلك بداية بمحاربة المجاميع المسلحة الفلسطينية عند دخولها إلى لبنان ونزع سلاحها، ثم قامت بضرب خناق على جميع الاحزاب السنّية التي تمتلك السلاح، واغتالت العديد من العلماء من بينهم المفتي (حسن خالد) كما يقول العديد من المراقبين، وقد أحدث ذلك صدمة كبيرة لدى الجماعات السنّية دفعتهم للانكفاء في ظل افتقارهم إلى أي دعم من أي جهة مع المحاولات المتعددة لعزلهم عن فلسطين وعن دعم المقاومة الفلسطينية.
على العموم كانت سورية تريد ورقة في مواجهة العدو الصهيوني بطريقة غير مباشرة تجنّبها خوض حرب خاسرة معه، وتمكّنها من التفاوض بشروط أفضل، ولكن الأهم من هذا وذاك أن تكون هذه الورقة شيعية؛ لأنّ الورقة الشيعيّة يمكن التحكّم بها من خلال مرجعيتها، ولأنّها لا تتصرّف من تلقاء نفسها؛ وهذا ما لا يتوفّر في أي جماعة سنّية لاختلاف العقائد والأهداف وصلحها مع العدو، ولا تلتزم من ثَم بأي قرار خارجي يملى عليها، وليس هدفها نشر مذهبها أو الترويج له أو لأي دولة بقدر ما هو مقاتلة العدو وتحرير الأرض. وهكذا وجدت سورية ضالّتها في حزب الله.
- حاضر حزب الله:
بعد حوالي خمس سنوات من انسحاب العدو الصهيوني من جنوب لبنان، لا بدّ لنا من قراءة ثانية لما تبدو عليه الأمور والأسلوب الجديد الذي سلكته، وإذ إنّنا لا ننكر دور (حزب الله) في إلحاق الخسائر بالصهاينة إلاّ أنّه لا بدّ لنا من القول إنّ الانسحاب لم يتم بسبب هذه الخسائر، وإلاّ فلو كان الأمر كذلك لانسحب العدو من قطاع غزّة منذ زمن بعيد؛ ذلك أنّ خسائرها البشرية والاقتصاديّة في قطاع غزّة تفوق ما أصاب الصهاينة في جنوب لبنان أضعافاً مضاعفة. لا نريد أن نبخس القوم حقّهم ولكن نتساءل: لو كانت هجمات حزب الله وحدها هي السبب، إذاً لماذا لم ينسحب العدو من مزارع شبعا أيضاً على الرغم من أنّ الحزب يصل إلى هذه المنطقة أيضاً، وأصاب بعض الصهاينة فيها؟! أيّاً كان الأمر؛ فما بعد الانسحاب الصهيوني ليس كما كان قبله.
- حزب الله بعد انسحاب العدو:
لقد كان انسحاب الصهاينة إنجازاً كبيراً، ولكنّه في الوقت نفسه أوجد واقعاً جديداً على أساس أنّ الصهاينة كانوا يحاولون من خلال هذا الانسحاب إعادة رسم معالم اللعبة الجديدة وخطوطها، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد.
كانت اللعبة الجديدة تقتضي تحقيق العديد من الأهداف، ومنها:
أولاً: قيام العدو بسحب ذريعة احتلال الجنوب من تحت بساط حزب الله الذي أزعجها كثيراً كورقة سياسية؛ فالانسحاب يعني أنّه لم يعد هناك من مبرر لوجود الحزب طالما أنّه يقول إنّ دوره ينحصر في تحرير أرضه.
ثانياً: إدخال العمق السوري في المعادلة الجديدة من خلال القول بأنّ أي هجوم من حزب الله من الآن وصاعداً سيقابله رد صهيوني على المواقع السورية إن اقتضى الأمر؛ وهذا ما حصل فعلاً فيما بعد.
ثالثاً: التمهيد للخروج السوري من لبنان على أساس أنّ كلاً من الطرفين كان يتمسك بخروج الآخر كمقدمة لخروجه هو، كما أنّ انسحاب الصهاينة يتيح للقوى الكبرى وخاصّة أمريكا مصداقيّة أكبر عند ضغطها على سورية للخروج من لبنان، وهذا ما حصل بالفعل في عام 2005م.
وفي الحقيقة فقد بدا واضحاً أنّه منذ انسحاب قوات العدو من جنوب لبنان في مايو/أيّار من عام 2000 أنّ إطار اللعبة المصاغة إقليمياً بين سورية وإيران من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى والمسموح لحزب الله التحرك ضمنه قد بدأ يضيق شيئاً فشيئاً ممّا همّش من دور الحزب وفعاليته وصيته الدعائي الذائع الانتشار، واضطّره إلى تقليص عملياته المؤثرة لصالح ما هو أكثر دعاية، فبدأ الحزب بعد انسحاب العدو من الجنوب بالاعتماد على ما يسمّى «الخبطات الإعلاميّة» . ونعطي على كلامنا هذا شاهدين مهمّين:
الأوّل: موضوع تبادل الأسرى مع العدو؛ فمن كان يتابع قضيّة تبادل الأسرى السابقة والتي تصب في الاتجاه المتّبع، رأى عند انتهاء إتمام الصفقة أنّها كانت مجرّد «ضوضاء إعلاميّة» لم يستفد الشعب الفلسطيني منها أي شيء، وكل ما هناك أنّ الحزب أراد تسليط الأضواء عليه من جديد بعد أن فقدها وأصبح نسياً منسياً؛ فقد أصدر نادي الأسير الفلسطيني آنذاك بياناً أوضح فيه أنّ معظم السجناء الفلسطينيين الذين أُطلق سراحهم كانت مدّة أحكامهم ستنقضي في غضون أقل من شهر وأكثرهم عدة أيام، وأن الباقي تم إطلاق سراحه؛ لأن سجون العدو كانت تعاني من ازدحام شديد، وقد أبدى النقّاد انزعاجهم من استغلال الحزب لهذه العمليّة وتصويرها على أنها انتصار لحسابه، وقد تمّ الكشف فيما بعد أنّ عدداً من الجثث التي استلمها الحزب على أساس أنّها رفاة لشهداء لبنانيين كانت في حقيقة الأمر رفاة شهداء فلسطينيين، وعندها بدت الدولة الصهيونية هي المنتصرة في هذه الصفقة.
الثاني: عملية طائرة الاستطلاع «مرصاد 1» والتي لا تخرج بدورها عن هذا الإطار الذي بدأ الحزب يعتمد عليه، والتي لم تكن سوى فقاعة دعائية لإخفاء أمور أخرى بعيداً عمّا يجري في ساحات العراق وفلسطين؛ إذ كان التوقيت للعملية آنذاك يتزامن مع اتّخاذ الناس وجهة نظر معيّنة تجاه الشيعة بناءً على موقفهم في قبول الاحتلال في العراق وعدم انخراطهم في المقاومة المسلّحة، والمباركة الإيرانيّة للأعضاء المعينين من قِبَل أمريكا في مجلس الحكم والموافقة على الخطط الأمريكيّة في المنطقة، وكون الحزب أداة إيرانيّة، وأمينه العام وكيل شرعيّ في لبنان لمرشد الثورة الإيرانيّة السيّد علي الخامنئي، ولذلك كان لا بد من القيام بهذه الخطوة لتلميع الصورة التي أُخذت عن الشيعة وقتها في العالم العربي، وللتغطية على التعاون الإيراني الأمريكي والتنسيق الحاصل بينهما في تلك المرحلة، في وقت كانت فيه الجيوش الأمريكيّة تنكّل بأهلنا في الفلّوجة والموصل وغيرها من مناطق المقاومة السنية الشرسة وفي وقت كانت المراجع العليا للطائفة الشيعيّة قد دخلت في سبات عميق دون أي تعليق، وهو ما أثار سخط العديد من الجهات في داخل العراق وفي خارجه أيضاً للموقف الشيعي ممّا يجري على أيدي القوّات الأمريكيّة ضد السنة من مجازر وحشية.
هذا بينما بات التوقيت الذي يعتمده الحزب لتحقيق «خبطاته الإعلامية» يشير أكثر فأكثر إلى أنّ الحزب لا استقلالية له في القرارات المتّخذة، وأنّه مجرّد أداة أو ورقة إيرانيّة بدأت تفقد الكثير من فعاليّتها بعد الانسحاب الصهيوني من جنوب لبنان وإعلان أمريكا الحرب على ما يسمّى بالحرب على الإرهاب. ومن الأمثلة على عدم قدرة الحزب على الرد فعليّاً وعملياً على أي عملية اختراق صهيوني بريّة وبحريّة وجويّة للأجواء اللبنانيّة للعدو مع وقوف حزب الله مكتوف الأبدي حين كانت الطائرات الإسرائيليّة تقصف المواقع السوريّة في لبنان، أو عندما قصفت تلك الطائرات مواقع تبعد فقط عدّة كيلو مترات عن العاصمة دمشق في منطقة «عين صاحب» .
- حزب الله والقضية الفلسطينية:
بطبيعة الحال، فإنّ حزب الله من المنظور اللبناني هو حزب طائفي، بمعنى أنّه يهتم بشؤون طائفته فقط، وقد حرص الحزب على عدم إظهار هذا الوجه للمسلمين في الخارج حفاظاً على صورته النمطية في عقليّتهم التي تعتمد العواطف، وعمد إلى جعل تركيزهم على مسألة خروج الصهاينة من جنوب لبنان وعلى إخفاء مدى قوّة الروابط مع إيران، وعلى إخفاء وجهه الطائفي التي يحمله معه؛ وخير دليل على ذلك أنّه مثلاً يحرص على أن يخلو «الأذان» في (فضائية المنار) من جملة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» ، على حين يضمّنها الأذان على المنار الأرضية، كما أنّه يحرص على عدم تناول رموز السنة في مختلف العصور بسوء على فضائيته، ولكنه على أرضيّته لا يوفّرهم، وبينما يدعو إلى الأخوة والاتحاد مع المسلمين ونبذ الطائفية، يقوم عناصره بتوزيع كتيبات فاخرة خاصّة في الجامعات والتجمّعات وهي مختومة بختم (التعبئة التربوية لحزب الله) تحتوي على شتائم وألفاظ نابية ولعن بحق رموز السنّة التاريخيين؛ وذلك جهاراً نهاراً دون رادع وخاصّة في مناسباتهم، وأمثلة كثيرة لسنا بصدد ذكرها. لكن نقول إنّه في كل المواضيع لا بدّ للحزب من استغلال اسم القضيّة الفلسطينيّة والتذكير بأنّ الحزب سيقف دائماً إلى جانب الانتفاضة الفلسطينية. إلى أن جاء إعلان الأمين العام بشكل واضح في خطابه في 25 أيار 2005 والذي كشف فيه للمرّة الأولى عدد الصواريخ التي يمتلكها حزب الله في إطار التهديد والوعيد والويل والثبور للصهاينة حين أشار إلى أنّ شمال فلسطين كلّه يقع تحت مرمى صواريخه، إلاّ أنّه استدرك لاحقاً بالقول إنّ الصواريخ دفاعيّة، وهذا ما يشير أيضاً إلى أن المسألة دعائية وهو ما دأب حزب الله إلى فعله منذ أنّ غيّر الانسحاب الصهيوني من وظائفه؛ فترداد مسألة القضية الفلسطينية هو لابتزاز العدو وإلزامه على البقاء في إطار اللعبة، والدليل أنّ الحزب يعلم تماماً أنّ الاتفاقيات التي وقعها مع العدو ومنها «اتّفاقية نيسان» لجمته وفصلت الأرض الفلسطينية عنه، وحرّمت شمال الأرض المحتلة على قذائف وصواريخ حزب الله، لدرجة أن اتّهمه بعضٌ إثر تحوّل موقفه منذ الانساحب الصهيوني بأنّه حامٍ لحدود العدو ومدافع عنها؛ وهذا ما جاء على لسان الأمين العام الأوّل لحزب الله الشيخ صبحي الطفيلي الذي قال: «لو كان أناس غير حزب الله على الحدود - يقصد الفلسطينيين وأهل السنّة - لما توقّفوا عن قتال العدو مطلقاً، والآن إذا أرادوا الذهاب يعتقلهم الحزب ويسلّمهم إلى الأمن اللبناني وتقولون لي إنّه لا يدافع عن حدود الصهاينة!!» وتزامن هذا الكلام الخطير مع مقال للعميد سلطان أبو العينين أمين سر حركة فتح في لبنان، نشرته جريدة «القدس العربي» في 5/4/2004 بعنوان: «حزب الله يحبط عمليات المقاومة الفلسطينية من الجنوب» قال فيه: «حزب الله قال: سنكون إلى جانبكم عند المحن. ولكننا منذ ثلاثة أعوام نعيش الشدائد ولم نعد نقبل شعارات مزيفة من أحد؛ فقد أحبط حزب الله أربع محاولات فلسطينية على الحدود، وقامت عناصر حزب الله باعتقال المقاومين الفلسطينيين وتقديمهم للمحاكمة ... ، إلى أن قال العميد أبو العينين: على الشعب الفلسطيني أن لا يعوِّل لا على حزب الله ولا على حزب الشيطان، بل عليه الاتكال على نفسه فقط؛ لأن لحزب الله أولوياته ومواقفه السياسية، وهو يريد أن يقاتل بآخر فلسطيني منا على أرض فلسطين، ونحن نريد من حزب الله موقفاً صريحاً وواضحاً» .
- مستقبل حزب الله:
ليست المرة الأولى التي يطرح فيها مستقبل حزب الله على بساط البحث، ففي كل مرّة يحدث فيها تطوّر إقليمي أو دولي يخصّ لبنان أو إيران أو سورية، يتم طرح موضوع حزب الله ومستقبله، وخاصّة أنّ مصير الحزب ليس مرهونًا بالساحة اللبنانية وحدها كما سبق ورأينا؛ فهو له امتدادات خارجية وقراره ليس داخلياً محضاً وله مرجعية الولي الفقيه.
وعلى العموم؛ فقد كان طرح مصير حزب الله في ثلاث مرات سابقة هي:
الأولى: مع ظهور احتمالات التسوية السلمية على المسار السوري الصهيوني في (وايت بلنتيشن) في عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون؛ حيث طرحت قضية الحزب بسبب علاقته مع سورية وتوظيفه في إطار الاستراتيجية السورية تجاه إسرائيل.
الثانية: أثناء إعلان العدو عزمه الانسحاب من جنوب لبنان؛ حيث طرحت تل أبيب شروطاً تتعلق بتسوية أوضاع الحزب؛ وذلك في إطار المسار اللبناني الصهيوني، لكن القضية لم تحسم نتيجة لانسحاب العدو الانفرادي دون اتفاق مع الحكومة اللبنانية.
الثالثة: في منتصف التسعينيات مع حدوث توتر في العلاقات السورية الإيرانية؛ حيث كانت هناك علاقات قوية لسورية مع الولايات المتحدة التي كانت تضغط في اتجاه وقف دعم دمشق للحزب باعتباره منظمة تهدد أمن إسرائيل.
الرابعة: بعد اغتيال الحريري وانسحاب القوات السورية؛ حيث بدأت تطرح قضية الحزب بشكل متصاعد داخل وخارج لبنان.
- سيناريوهات المستقبل:
المستقبل وإن كان من الصعب علينا التنبؤ بما سيحمله، إلاّ أنّه بالضرورة قد لا يخرج عن ثلاثة سيناريوهات لوضع الحزب مستقبلاً فيما يخص الإصرار على نزع سلاحه وفق القرار 1559.
- السيناريو الأوّل: نزع سلاح الحزب عبر مساومات داخلية:
ويفترض هذا السيناريو أن يتّفق معظم الفرقاء اللبنانيين على أن ينزع سلاح حزب الله اعتماداً على عدد من الحجج، ومنها:
أولاً: إنّ اتّفاق الطائف قد نصّ صراحة على سحب سلاح جميع الميليشيات اللبنانية (بما فيها تلك التي كانت تقاوم الاحتلال أيضاً مثل أمل والشيوعي وغيرهما) وإنّ استثناء حزب الله من هذا النص كان بقرار سوري وبدعم إيراني، وحيث إنّ القوات السورية انسحبت وإنّ الجميع متمسك بتطبيق اتّفاق الطائف فإنّه يجب على حزب الله أن يسلّم سلاحه.
ثانياً: بما أنّ الجميع يطالب بدولة ذات سيادة واستقلال، فمنعاً للتدخلات الخارجية التي قد تنجم عن قيام الإرادة الدولية بتطبيق باقي بنود القرار 1559 القاضي بسحب سلاح حزب الله ضمنياً؛ فإنّه من الضروري فتح ملف حزب الله الآن بعيداً عن الالتفات للضغوط الخارجية؛ لأنه مسألة تمس سيادة ومستقبل لبنان؛ فلا يعقل أن يظل الجناح العسكري للحزب، ويظهر أنه دولة داخل الدولة، وأن الديمقراطية والسيادة تقتضي إزالة جميع صور التسلح غير الرسمي، وأن الجيش اللبناني والشرطة هي الجهة الوحيدة فقط التي ينبغي لها أن تحتكر القوة، وتستخدمها في حماية النظام الداخلي وفرض القانون، والدفاع عن سيادة واستقلال لبنان.
ثالثاً: لا يمكن لحزب الله من الآن وصاعداً أن يكون ممثلاً داخل الحكومة، وان يكون لديه جناح مسلّح؛ لأنّ ذلك سيثير حساسيات الطوائف الأخرى، فحزب الله في النهاية جزء من المجتمع اللبناني، وحتى لو تجاهلنا تصرفاته وبيئته، فإنه يبقى في النهاية طائفياً؛ وهذا هو واقع الحال في لبنان؛ لذلك إنّ أصر على حصّته فعليه أن يتخلى عن سلاحه.
ويتوافق هذا السيناريو مع مغريات أمريكية بالدرجة الأولى وفرنسية فيما بعد؛ بأن يتم إعطاء حزب الله دوراً سياسياً كبيراً في لبنان على غرار الأحزاب الشيعية في العراق مقابل أن يقوم بالتخلص من أسلحته أو يجد لها مخرجاً ملائماً. لكن يبدو أنّ المشكلة في هذا السيناريو أنّ الفرقاء اللبنانيين الذين كانوا يطالبون بنزع سلاح حزب الله توزعوا بين مؤيد ومعارض نتيجة مساومات وتحالفات داخلية مصلحية، فضاع الهدف الأساسي أو أجّلوه على أن لا يتورطوا هم به ليتركوا فيما بعد للمجتمع الدولي أن يقرر.
على العموم وفي جميع الأحوال يبدو أنّ هذا السيناريو صعب التحقيق إلى الآن، أو قد يتم تدريجياً وعلى دفعات.
- السيناريو الثاني: نزع سلاح الحزب بالانسحاب من شبعا:
في حال فشل السيناريو الأوّل فهناك معلومات تقول إن أمريكا قد تلجأ إلى سيناريو آخر تقنع بواسطته المحتل بأن ينسحب من مزارع شبعا بغض النظر عن صاحب الحق والملكية فيها سواء كانت سورية أم لبنان، وبذلك تنتفي حجّة حزب الله بأنّه يقاوم من أجل دفع العدو إلى الانسحاب من مزارع شبعا؛ وبذلك يفقد حزب الله مبررات وجوده.
وهذا السيناريو يستخدم في حال اتفاق القوى اللبنانية على أن تتجنب الخوض في مسألة سلاح حزب الله، ومن ثَمَّ تجنيبه مفاعيل القرار الدولي وإفشال مخططات تفكيك حزب الله، والخيار الوحيد أمام إسرائيل والقوى الدولية في حال استمرار الحكومة اللبنانية بتأكيد لبنانية مزارع شبعا والتحفظ على قول الأمم المتحدة بهذا الخصوص، وفي حال قيام سورية بتقديمها اعترافاً خطّياً بلبنانية مزارع شبعا (على الرغم من أنّ سورية كانت قد صرّحت رسمياً في مرات عديدة سواء عبر وزير الخارجية فاروق الشرع أو عبر وليد المعلم أو عبر مندوبها في الأمم المتّحدة أنّ مزارع شبعا لبنانية) أن يقوم العدو بالانسحاب من مزارع شبعا كحل أخير للموضوع، وبذلك تسقط حجة وجود أراض لبنانية محتلة؛ وعليه لا يبقى هناك أي مبرر شرعي وقانوني لوجود حزب الله كمنظمة عسكرية مقاومة.
هذا في حين أنه سيتزامن انسحاب الصهاينة من مزارع شبعا مع تسليمها لقوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان، وقيام الأمم المتحدة بالإجراءات المطلوبة لتحديد هويتها وتسليمها إلى أصحابها مع إعلان دولي بأن الأراضي اللبنانية كلها أصبحت محررة، ومن ثَم توسيع مهام قوات الطوارئ الدولية لتصل إلى حدود مراقبة الوضع على كامل المساحة الجغرافية من منظار الأمم المتحدة وبدعم دولي كامل، والبدء بمرحلة إنقاذ الاقتصاد اللبناني، والعمل على تحضير مشاورات دولية غير معلنة لتنشيط الاستثمار في لبنان.
لكنّ المشكلة في هذا السيناريو أنّ دولة العدو ما لم تكن متأكدة من أنّ الدولة اللبنانية ستُحكم سيطرتها على مناطق الحدود إضافة إلى قوات الأمم المتحدة فإنّها لن تقوم بالانسحاب من شبعا؛ لأنّه في حال سحب سلاح حزب الله وانسحاب العدو فإنّ المنطقة ستتعرض لفراغ قد يتيح للمقاتلين الفلسطينيين في لبنان بدء عمليات مسلحة ضد العدو، ولذلك فإنّ بقاء حزب الله في هذا الوضع أفضل؛ فهو يتكفّل في ضبط اللعبة وعدم دخول أي جهة أخرى على الخط من لبنان خاصّة إذا كانت من السنّة غير الملتزمين بأي لعبة أو إطار سياسي والمستعدين للتصعيد حتى الانفجار.
- السيناريو الثالث: بواسطة صفقة أمريكية إيرانية:
لطالما خلط الكثيرون بين الشعارات التي يجري تداولها بين إيران وأمريكا، فأطلقوا الأحكام على أساسها، واستنتجوا أنّ البلدين في حرب غير معلنة، والحقيقة تقول إنّ هناك تعاوناً غير معلن يصل إلى حد التحالف في بعض المواضيع ويغيب في مواضيع أخرى، ولن نعيد شرح الموضوع والتعاون الإيراني مع الأمريكيين في أفغانستان والعراق وغيرها من الملفات والمواضيع. ولكن نقول: إنّ إمكانية حصول صفقة إيرانية - أمريكية قد يحصل بنسبة عالية جداً، والمناوشات التي تحصل بين البلدين من حين إلى آخر ما هي إلاّ أسلحة في سلّة الضغوط التي يلجأ إليها كل بلد لزيادة مكاسبه، وفي النهاية تتم القسمة بينهم.
وليس من المستبعد بناءً على ذلك أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بعقد صفقة مع إيران، تقدم واشنطن بموجبها تنازلات لطهران فيما يتعلق بملف برنامجها النووي وعدم إحالته لمجلس الأمن الدولي، مقابل أن توقف إيران دعمها القوي، خاصة الدعم اللوجستي، لحزب الله، ومن ثَم يؤدي ذلك لإضعافه وسهولة الضغط عليه باتجاه نزع أسلحته.
- ماذا عن أمريكا ومغازلة الشيعة؟!
هناك من يرى أن من مصلحة أمريكا والدولة العبرية في الوقت الراهن الإبقاء على حزب الله؛ لأنّه يشكّل عاملاً وصِمام أمان للحدود اللبنانية الصهيونية خاصّة في وقت تتصاعد فيه ما يسمى بالقوى (الجهادية السلفية) التي لا تقيم أي معيار للتوازنات الإقليمية أو المحلية أو الداخلية، والتي لا تخشى شيئاً في سبيل دك أمريكا والدولة الصهيونية، ويعتمد هؤلاء في تحليلهم على عدد من الأمور في نظرتهم هذه تجاه حزب الله، ومنها:
أولاً: بالنسبة لهم، الحزب يسيطر على مناطق وجوده بالكامل وعلى ذلك فإنّ إطار اللعبة معروف بينه وبين العدو، ولا يسمح لأي أحد بالتدخل فيه ومن بينهم من يدعي أنّهم حلفاؤه وهم الفلسطينيون (كما سبق وأشرنا أعلاه فقد اعتقل الحزب العديد من المقاتلين الفلسطينيين) وعليه فإنّ التعامل مع الحزب واضح، على عكس ما سيتركه انسحابه من هذه المناطق.
ثانياً: أنّ الحزب «براغماتي» ، بمعنى أنّه يقبل الحوار والتفاوض والتبادلات حتى لو كان خاسراً بها، كما حصل في تبادل الأسرى الشهير بين العدو وحزب الله على الرغم من أنّ الحقيقة قد أظهرت أنّ إسرائيل هي التي استفادت من هذا التبادل إلاّ أنّه تمّ تصويره بالعكس. ولو ترك الأمر لغير حزب الله من المجموعات التي قد تستغل وجود أي ثغرة للقيام بعملياتها، لما تفاوضوا ولا قبلوا كل أنواع الحوار، وهذه ميزة لحزب الله علينا استغلالها. (هكذا يطرحون وجهة نظرهم) .
ثالثاً: أنّ الحزب أعلن في عدّة مرات وبشكل واضح أنّه لا يتدخل في الشؤون خارج أراضي لبنان، وأنّ مهمته هي تحرير أرضه وليس تحرير فلسطين كما كان يزعم من قبل، وكان هذا الاعتراف صريحاً وواضحاً في خطاب نصر الله في 25 أيار 2005م. بينما نجد أن أيّاً من الأحزاب الإسلامية غير مستعدة للتضحية بحقها في فلسطين وتحريرها من الاحتلال الصهيوني الغاشم.
وينادي أصحاب هذا التوجه إلى التقارب مع شيعة العالم؛ لأنّ التعامل معهم يتم على أساس المصالح وليس المبادئ، وإنّ الشيعة على الرغم من شعاراتهم إلاّ أنّهم في حقيقة الأمر متعاونون جداً ومنفتحون.
ويعتبر الباحث السياسي (أغسطس نورتون) وهو صاحب مؤلفات عدة عن «حزب الله» والحركات الشيعية، أن «توجه الإدارة الأمريكية إلى التعامل مع الأقلية الشيعية في العالم الإسلامي» انطلاقاً من «علاقتها برئيس الحكومة العراقية إبراهيم الجعفري رئيس حزب الدعوة الإسلامي في العراق الذي ارتبط اسمه بتفجير السفارة الأميركية في الكويت عام 1983» ، مرده أن واشنطن «بدأت تعي التغييرات السكانية في المنطقة وأن الشيعة يشكلون نصف المسلمين (?) في الدول الممتدة من لبنان إلى باكستان» . ويصنف (نورتون) الذي أمضى أواخر التسعينيات في لبنان، الجبهة اللبنانية بأنها «الثالثة ضمن استراتيجية التقرب من الشيعة بعد العراق وإيران، وتحديداً في مرحلة ما بعد الانتخابات العراقية» .
وعلى هذا الأساس فقد يجري تبديل في الاستراتيجية ويصبح حزب الله حليفاً كما أصبح حزب الدعوة وفيلق بدر حلفاء للولايات المتّحدة في العراق بعد أن كانوا يدعون عليها بالويل والثبور من إيران؛ فسبحان مغيّر الأحوال فلا تتفاجؤوا إن حصل ذلك!
وعلى أي حال؛ فإن مستقبل الحزب مرتبط بالمتغيرات الإقليمية والدولية، وهو ليس مسألة داخلية كما يحب بعضهم أن يصفه، وقد رأينا مدى التشابك والتداخل في مختلف القضايا، والأمر مفتوح في النهاية على كل الاحتمالات. والله المستعان.