ياسر الزعاترة
من حق الحريصين من العرب والمسلمين أن يتابعوا بكثير من العناية والقلق كل ما يتعلق بالفوز الكبير وغير المتوقع الذي حققته حركة حماس في الساحة الفلسطينية، بما في ذلك ما يتعلق بجدلية الثورة والدولة التي غالباً ما تحضر في تحولات كهذه.
ما يجب أن يقال ابتداءً هو: أن الحركات الإسلامية ليست ثورات اجتماعية أو سياسية كما هو النمط المعروف؛ بدليل حضورها في جميع المجتمعات العربية والإسلامية بوصفها حركات تطالب بإعادة الاعتبار للمرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع، تلك التي غُيِّبت بقوة دفع الخارج الاستعماري، وبتراجع الحاكم العربي، وهو ما يعني أنها ماضية في طريقها حتى لو لم يوجد ظلم بالمعنى الصارخ، وحتى لو لم يوجد احتلال خارجي كما هو الحال في فلسطين.
خلاصة القول هي أن الحركات الإسلامية لم تنشأ في الأصل كرد مباشر على الظلم أو الاحتلال الخارجي، بل كرد على تغييب المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع، وحماس ابتداءً جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة الإسلامية التي برزت في الواقع العربي والإسلامي. وعندما لم يكن ثمة تديُّن في المجتمع الفلسطيني لم يقم آباؤها المؤسسون وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين بحمل السلاح ضد الاحتلال، بل عملوا على إعادة الاعتبار للدين في المجتمع، وما أن نجحوا في مسعاهم على نحو معقول حتى شرعوا يؤسسون لبنية تحارب الاحتلال.
بل إن بوسعنا القول إن جماهيرية حركة حماس كانت سابقة على حملها لهذا الاسم، وقبل حملها للسلاح؛ فقد كان التيار الإسلامي الفلسطيني الذي خرجت من رحمه يحصد ما يقرب من نصف أصوات الناخبين في الجامعات والنقابات قبل تأسيسها نهاية عام 1987.
في هذا السياق كان نشاط حماس شبيهاً بنشاط الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، أي تقريب المجتمع من الرؤية الإسلامية، ولما كان المسار النهائي للتحول يصطدم بواقع الاحتلال، فضلاً عن الواجب الإسلامي القاضي بضرورة إنهاء ذلك الاحتلال اليهودي لواحدة من أقدس بقاع المسلمين؛ فقد كان لا بد من حمل السلاح وتقديم التضحيات متزامنة مع مزيد من تقريب المجتمع الفلسطيني من الرؤية الإسلامية.
من هنا يمكن القول إن حماس ليست حركة ثورية بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنها حركة مقاومة، ولكنها حركة إسلامية في الآن نفسه، أي أنها تقاوم الاحتلال، لكنها تنشد ما تنشده زميلاتها من الحركات الإسلامية، وهو إعادة الاعتبار للمرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع.
هل يُخرِج ذلك كله حماس من إطار إشكالية التحول من الثورة إلى الدولة الشائعة في الفكر والتاريخ السياسي؟
ليس بالضرورة، ولكنه يجعل تلك الإشكالية أقل حضوراً من التجارب الأخرى؛ لأننا إزاء حركة لها بنيانها القائم على مسألة الحكم الإسلامي، وليس مجرد التحرر من الاحتلال، أي أن مسار التحرر من الاحتلال سيمضي إلى جانب العمل على التمرد على مسار فرضه الخارج عنوانه التغريب أو تغييب الإسلام عن الواقع.
هنا يبدو من الضروري القول إننا لسنا من المؤمنين بعجز الحركات الإسلامية عن إدارة الدولة في العالم العربي أو الإسلامي، فهؤلاء الذين يديرونها هنا وهناك ليسوا عباقرة زمانهم لكي لا يتوفر في الحركات الإسلامية مثلهم، كما أن الأطراف الأخرى ذات المصداقية والخبرة لن تقول للإسلاميين (لا) إذا ما عرضوا عليها المشاركة في الحكومة أو السلطة.
أما الأهم من ذلك فإن محاكمة الإسلاميين على فشل هنا وآخر هناك فإنه لا يعني سوى المناكفة؛ ذلك أنها تجارب عانت من السيادة الناقصة للدولة ومن تدخل الخارج السافر في شؤونها الداخلية، فضلاً عن أن بضعة تجارب لا تعني الكثير؛ فقد مضت قرون من التدافع السياسي والحروب الأهلية حتى استقر النظام السياسي في الغرب على ما هو عليه، مع أنه استقرار هش لا تحافظ عليه سوى قدرة الدولة هناك على توفير الرفاه لمعظم مواطني الدولة، وهي قدرة لم تتوفر إلا بسبب النهب الاستعماري للشعوب الفقيرة. وعموماً ففي هذا السياق كلام كثير ليس هذا مكانه.
نقول ذلك؛ لأن هناك من سعى إلى الخلط بين فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية وبين مسألة الفشل المتوقع والطبيعي للحركات الإسلامية في إدارة الدول في حال وصلت إلى السلطة؛ ذلك أن زهد حماس في السلطة وعدم سعيها الحثيث لتحقيق الغالبية التي تحققت لم يكن بسبب العجز عن إدارة الدولة، وإنما لاعتبارات تخص الوضع الفلسطيني ولا تتوفر في سواه، مع أن بعض قياداتها لم يعترفوا بعدم السعي إلى الفوز، وهو الأمر الذي يبدو طبيعياً في أي حال.
الوضع الفلسطيني يتمتع أو يعاني بتعبير أدق من فرادة تجعله أكثر صعوبة بكثير عما سواه؛ فنحن هنا لسنا إزاء دولة مستقلة ذات سيادة، حتى بمنطوق السيادة الناقص الذي تعاني منه الدولة القطرية العربية والإسلامية في ظل السيطرة الغربية على العالم.
السلطة الفلسطينية هي في واقع الحال وضع ملتبس بين الدولة المستقلة وبين الدولة أو المنطقة الواقعة تحت الاحتلال، والنتيجة أنها حكم ذاتي تحت الاحتلال، لكنه ليس حكماً ذاتياً يقبل وضعه ويتعايش معه، بل يصارع من أجل الخروج إلى أفق الدولة والاستقلال ومن أجل تحرير ما تبقى من أرضه، وما تبقى للمفارقة هو 98,5% من أرضه التاريخية إذا اعتبرنا أن قطاع غزة قد تحرر، مع أنه لم يتحرر بالكامل، وربما أكثر من 90% إذا اعتبرنا أن ما تتدخل السلطة في إدارته (إدارته وليس شؤونه السيادية) من الضفة الغربية هو ما يتركه الجدار الأمني الإسرائيلي منها.
في هذا السياق نحن أمام سلطة حكم ذاتي يتحكم الاحتلال بمداخلها ومخارجها، ويتحكم بمائها وكهربائها وحركة أفرادها، لكن ذلك ليس كل شيء؛ إذ إنه يتحكم بها من النواحي الأمنية ويدخل مناطقها وقت يشاء ويعتقل ويقتل على النحو الذي يحب.
في مقال نشرته صحيفة معاريف الإسرائيلية في 17/1/2006، قدم شلومو غازيت، وهو قائد سابق للاستخبارات في الجيش الإسرائيلي توصيفاً لوضع السلطة يستحق الإشارة؛ إذ قال ما نصه: «الحكم العسكري، رسمياً، قد انتهى، ولكن الاحتلال العسكري الإسرائيلي بقي إلى الآن ولم ينته، وإسرائيل تواصل العمل والنشاط في المناطق المحتلة، وهي تفعل ذلك الآن دون حدود ودون أي رادع، إضافة إلى ذلك فقد حولت إسرائيل احتلالها للأراضي المحتلة خلال السنوات العشر الأخيرة إلى «احتلال ديلوكس» ليس من ناحية ما يحصل عليه المواطن الفلسطيني منها، ولكن من ناحية الطريقة المريحة التي تدير بها ذلك الاحتلال» .
هذه هي السلطة التي يريد بعضهم امتحان حماس من خلالها، هل هي قادرة على تحقيق المعجزات أم لا، وهذه هي السلطة التي يعتقد بعض الناس أنها الدولة التي ستُفقِد حماس براءتها الثورية.
لكن ذلك ليس كل شيء؛ فنحن في الحالة الفلسطينية لسنا أمام صراع عادي بين شعبين أو دولتين، بل أمام صراع له امتداداته العربية والإقليمية والدولية؛ إذ إن المحتلين هم الشعب الأكثر نفوذاً في العالم هذه الأيام؛ ومن أجله يقف العالم على قدميه ويُستَنْفَر على نحو استثنائي.
إنه صراع تاريخي معقد، هو الأكثر أهمية بالنسبة للإمبراطورية الأكبر في التاريخ ممثلة في الولايات المتحدة، ليس فقط تبعاً لأهمية الدولة العبرية بالنسبة لمصالح تلك الإمبراطورية، وإنما أيضاً بسبب هيمنة اليهود، بل الليكوديين من بينهم على القرار السياسي.
الذي لا يقل أهمية عن ذلك بالنسبة لحركة حماس هو أنها إزاء سلطة بنيت في ظروف استثنائية، لا كما تبنى الدول؛ فقد بنيت على أساس فصيل واحد يتحكم بكل شيء فيها، وهو الذي يتحكم بالأجهزة الأمنية والمخابرات عموماً، فضلاً عن الوزارات والمؤسسات.
وعندما نتحدث عن سلطة أقيمت في ظل ظرف استثنائي وفي ظل رفض عارم لمسار أوسلو الذي أنتجها، على حين أسسها وتزعمها فصيل معين، فإننا نتحدث عن سلطة أقيمت على نحو فاسد من رأسها حتى أخمص قدميها، وهو الأمر الذي يؤكد أننا إزاء وضع بالغ التعقيد.
قد يقال هنا: ولكن لماذا تشارك حماس في وضع من هذا النوع؟ وهنا نشير إلى معارضتنا لتلك المشاركة من الأصل؛ إيماناً منا بأن خيار الأقلية مشكلة، لكن خيار الأغلبية مشكلة أكبر، على حين رأى المؤيدون الذين لم يخطر ببالهم الفوز بالغالبية بحال من الأحوال إمكانية تحقيق جملة من المكاسب من الوجود في المجلس للتشريعي، على رأسها تخفيف أعباء المرحلة السياسية الجديدة ممثلة في خريطة الطريق ومتطلباتها التي تستعيد متطلبات أوسلو في مطاردة الفصائل وتفكيك بنيتها التحتية.
ما نريد قوله هنا هو أن محذور التحول من الثورة إلى دولة ليس وارداً بالمعنى المتداول؛ إذ إن الدولة ليست متوفرة، بل هي مجرد سلطة وجد الاحتلال فيها حلاً للتخلص من عبء إدارة السكان الفلسطينيين، وهو الذي لم يكن بوسع حماس أن تغيره بعد أن غدت تلك السلطة موضع اعتراف عربي ودولي.
وإذا أضفنا إلى ذلك هيمنة فتح شبه المطلقة عليها، ومن ثم إعلانها الاستعداد للقتال من أجل استمرار فرض سلطتها، فإن الوضع سيكون معقداً إلى حد كبير، ولا يستبعد أن يصار إلى الانقلاب عليه في لحظة من اللحظات، سواء كان ذلك بدعوى التناقض بين صلاحيات الرئيس وصلاحيات الحكومة، أم بدعوى الحرص على مصالح الشعب الفلسطيني التي تهددها حماس بتناقضها مع الوضع الدولي.
ثمة جانب على درجة من الأهمية يتعلق بمسار التسوية وعدم إمكانية الوصول إلى أفق الدولة بالمعنى المطروح، حتى في إطاره العربي ناقص السيادة؛ ذلك أن من عجزوا عن التفاهم مع ياسر عرفات ومن بعده مع محمود عباس، سيعجزون بالتأكيد عن التفاهم مع حركة حماس؛ اللهم إلا إذا افترضنا أن حماس ستتنازل أكثر من الآخرين، وهو الأمر الذي لا يبدو ممكناً بحال من الأحوال، ولو حصل لانفض الناس من حولها، ليس بعد أربع سنوات، بل ربما قبل ذلك.
من هنا يبدو أن امتحان الدولة غير وارد إلا في حده الأدنى من حيث امتحان التعامل مع هياكل للسلطة هنا وهناك، وهو امتحان سهل إلى حد كبير في ظل استمرار التحدي مع الاحتلال ورقابة حثيثة من الأطراف الأخرى، سواء كانت منظمة فتح أم الجهاد أم سواهما.
وفي العموم فإن تجربة حماس في الخدمات العامة كانت ناجحة إلى حد كبير، أما الأهم من ذلك فإن وضع الاحتلال الذي سيبقى قائماً لن يدع مجالاً للترهل؛ فمشروع الدم والشهداء سيبقى فاعلاً وطازجاً بما لا ينطوي على تقاتل على المكاسب كما تعرفه عوالم السياسة.
خلاصة القول هي أننا إزاء تجربة مختلفة عن تجارب تحوُّل الثورات إلى دول. أما المقارنة مع تجربة فتح في سلطة أوسلو فلا تبدو صحيحة؛ لأن الفساد الذي كانت تعرفه أوساط فتح ومنظمة التحرير كان سابقاً على ذلك، عندما نتذكر أن موضوع الدم والشهادة قد غاب قبل انتفاضة الأقصى، في حين كان الإسرائيليون يعملون جاهدين على إفساد السلطة حتى تكون سهلة الانقياد لهم.
الصراع ما يزال طويلاً وليس لدى الإسرائيليين ما يقدمونه للفلسطينيين، ولذلك لن تتحول حماس إلى دولة؛ لأن مسيرة تحقيق الدولة ما تزال في بدايتها، وهي مسيرة ما زالت عطشى للمزيد من الدم والشهداء