د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
أخبرني صاحبي ـ وهو من الراصدين مواقع الصوفية على شبكة «الإنترنت» ـ أنه تصفح قرابة ستين موقعاً للصوفية أثناء نازلة تطاول «الدانمارك» على سيّد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلم يرَ للقوم حديثاً، ولم يسمع لهم همساً في تلك الحادثة التي غدت مَشْغَلة السمع والبصر في جميع الأصقاع؛ ثم تدارك صاحبي قائلاً: اللهمّ إلا أن واحداً من تلك الستين قد نقل مقالة من أحدالمواقع السنية!
وختم هذا الصاحب كلامه قائلاً: هؤلاء الصوفية يعرفون الرسول عند الطمع، ويتخلون عنه عند الفزع.
ولئن كشفت هذه الحقيقة زيف محبة القوم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتهافت دعاويهم العريضة، فهي تبيّن حالة «السُّكْر» الذي أغرقهم، و «الفناء» الذي استحوذ عليهم، فكأن الأمر لا يعنيهم، وكما لو كانوا خارج العالم! ولو كان «السُّكْر» و «الاصطلام» أمراً ملازماً لهم لهان الخَطْب؛ فالمجنون معفو عنه، إلا أن هذا السكر سرعان ما يزول عند صوفية الأرزاق، إذا كان في الصحو تحقيق لحظوظهم الشخصية ومطامعهم الدنيوية.
هذه الواقعة الموجعة مع تداعياتها المختلفة، والتي حرَّكت القلوب، فأظهرت محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعمدت إلى الذبّ عنه، وعبّرت عن ذلك من خلال مقاطعات اقتصادية، ومظاهرات واحتجاجات، وتأليف كتب ورسائل في دعوة الكفار إلى الإسلام، والتعريف بسيّد الأنام -صلى الله عليه وسلم-.. هذه الواقعة تقرر أن الخير فيما اختاره الله تعالى، وأنه ـ سبحانه وتعالى ـ لا يخلق شراً محضاً، {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] .
«فمن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين، وبيان حقيقة إنباء المرسلين: ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين.. وذلك أن الحق ـ إذا جُحد وعُورض بالشبهات ـ أقام الله ـ تعالى ـ له ما يحق به الحق ويبطل به الباطل من الآيات والبينات» (?) .
هذه النازلة يمكن تسخيرها وتوظيفها في سبيل ترسيخ جملة من الأصول الشرعية، كوجوب محبة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ووجوب تعزيره وتوقيره، وأهمية الاتباع لسنته، والتحذير من الإحداث والابتداع في دين الله تعالى.
ورحم الله الشيخ محمد رشيد رضا إذ يقول: «من تتبع التاريخ يعلم أن أشدَّ المؤمنين حبّاً واتباعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- أقلهم غلواً فيه، ولا سيما أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ومن يليهم في خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً وأقلهم اتباعاً له هم أشدهم غلواً في القول وابتداعاً في العمل وترى ذلك في شِعْر الفريقين» (?) .
ومن الأصول التي ينبغي تقريرها في هذا الشأن: تلازم الظاهر والباطن؛ فالمحبة القلبية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا بد أن تظهر على الجوارح، من خلال الاتِّباع له والذبّ عنه وتعظيمه وإجلاله، وما المقاطعة الاقتصادية لمنتجات الدانمارك إلا سبب من الأسباب العملية المشروعة في تحقيق تعزيره -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره، وردع أولئك السفهاء المتطاولين على خير البرية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. كما أن هذه الواقعة لتكشف عن عداوة الكافرين لأهل الإسلام، وتواطئهم على ذلك، وهذا يؤكد أهمية أوثق عرى الإيمان: الحبّ في الله والبغض في الله، ووجوب البراءة منهم، وأن عداوتهم لأجل كفرهم لا تنافي العدل والقسط معهم، بل ينبغي دعوتهم إلى الإسلام بالطريقة الصحيحة الملائمة، والحذر من تمييع الإسلام أثناء تلك الدعوة والتعريف.
هذه الأمة كالغيث لا يُدرى أأوله خير أم آخره؟ فقد أظهر أهل الإسلام احتساباً ونصرةً لمقام سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم-، وهذه المشاعر الصادقة والمواقف النبيلة توجب أهمية إحياء شَعِيرة الاحتساب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك على أوسع نطاق، وفي أكثر من مجال؛ فهناك الاحتساب بالخطبة والمحاضرة، والاحتساب بالمقاطعة، والاحتساب بالمظاهرة والاحتجاج، والاحتساب بالرسالة والكتاب، وكما أن العلماء والدعاة احتسبوا في هذه النازلة؛ فقد احتسب الساسة والتجار، والمثقفون والمفكرون، والعامة والصغار؛ فهذه الواقعة حققت تجييشاً لأهل الإسلام، وحشداً لأنواع متعددة من المناشط والجهود في سبيل الذبّ عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يوجب على أهل الشأن إعداد برامج وخطط احتسابية تجاه هذه الواقعة ونظائرها.
غارت أمة الإسلام لرسول الأنام -صلى الله عليه وسلم-، وظهرتْ هذه الغَيْرة في صور صادقة ومشاهد مؤثِّرة، والمتعيَّن تحريك هذه الغيرة وتقويتها من جهة، وضبطها وفق ما توجبه الشريعة وتقتضيه المصلحة من جهة أخرى.
فابن تيمية احتسب على نصراني شتم نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم-، وذلك سنة 693هـ، وألّف كتابه النفيس «الصارم المسلول في الردّ على شاتم الرسول -صلى الله عليه وسلم-» ، ولما تحدّث عن أنواع السبّ في هذا الشأن، قال ـ رحمه الله ـ: «التكلم في تمثيل سبّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر صفته، ذلك مما يثقل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين أو آثرين..» (?) .
فغيرة ابن تيمية تجعله يتعاظم مجرد تصوير مسألة السبّ وحكايتها، لولا أن الحكم الشرعي يقتضي ذلك، وهذه الغيرة الصادقة اقترن بها المسلك الشرعي الملائم؛ فقد كلّم شيخ الإسلام الأميرَ آنذاك، وسعى في الاحتساب على ذاك النصراني المخذول، وألّف كتابه «الصارم المسلول» بعد هذه الواقعة.
وها هو السبكي ـ رحمه الله ـ يقول ـ في مطلع كتابه «السيف المسلول على من سبَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم-» عن سبب تصنيفه ـ: «كان الداعي إليه أن فُتيا رُفعت إليّ في نصراني سبّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يُسْلم، فكتبتُ عليها: يُقتل النصراني المذكور كما قَتَل النبي -صلى الله عليه وسلم- كعبَ بن الأشرف، ويُطهّر الجناب الرفيع من ولوغ الكلب.
لا يَسلمُ الشرفُ الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
إلى أن قال: وليس لي قدرة أن أنتقم بيدي من هذا الساب الملعون، والله يعلم أن قلبي كارهٌ منكر، ولكن لا يكفي الإنكار بالقلب ها هنا، فأجاهد بما أقدر عليه من اللسان والقلم، وأسأل الله عدم المؤاخذة بما تقصر يدي عنه، وأن ينجِّيني كما أنجى الذين ينهون عن السوء، إنه عفوّ غفور» (?) .
فالسبكي بلغتْ غيرته ما بلغت، وصاحبَ ذلك موقفٌ عملي من خلال تحرير هذه الفتيا وكتاب «السيف المسلول» .
وهذا ابن عابدين ـ رحمه الله ـ يقول عن شقيٍّ استطال على سيد المرسلين: «وإن كان لا يشفي صدري منه إلا إحراقه وقتله بالحسام..» (?) .
والمقصود أن نجمع بين إحياء هذه الغَيْرة الإيمانية وتحريكها، وبين ضبطها وفق الأصول الشرعية والمصالح المرعية.
لعل هذه الحادثة تكون سبباً إلى فقه التعامل مع أهل القبلة، والتعاون مع أهل الإسلام في الأصول المتفق عليها، دون الإخلال بثوابت أهل السنة ومعالمهم؛ فالذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محل اتفاق بين أهل الإسلام، ومدافعة التغريب والهيمنة الأمريكية كذلك.. وما أكثر القضايا التي هي محل إجماع بين أهل الإسلام. فمن المهم أن نبعث هذ التعاون والتنسيق بين أهل الإسلام، مع المحافظة على شعائر أهل السنة وأصولهم، لما في ذلك من المقاصد الشرعية، ونفوذ أهل الإسلام وتقويتهم.
فلقد تعاون أهل الإسلام من قبل ـ في القرن الرابع الهجري ـ في مواجهة المدّ العُبَيْدي الباطني، فكتب المعتزلة والزيدية والأشاعرة ـ وكذا أهل السنة ـ في فضح الباطنيين وهتك أستارهم.
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعزّ فيه أهل الإيمان، ويُذلّ فيه أهل الكفر والطغيان.
معالم من تلك الحادثة