يحيى أبو زكريا
كانت دول شمال أوروبا: السويد والنرويج والدانمارك وفنلندا وإيسلندا تعتبر نفسها دوماً مغايرة ومختلفة عن بقية الدول الأوروبية ذات الإرث الاستعماري والتي تزعمت إمبراطوريّات احتلت لمئات السنين أجزاء واسعة من العالم العربي والإسلامي والثالث، بل إنّ دول شمال أوروبا كانت تعتبر نفسها ذات خصوصية مناخية وثقافية واجتماعية وحضارية، وأنهّا نجحت في إقامة نظام سياسي إنساني في كل أبعاده يؤمن بالإنسان أولاً وثانياً وأخيراً. ولطالما نظّر المنظرون والإستراتيجيون في شمال أوروبا لمجتمع متعدد الثقافات ومتنوّع الأعراق والديانات.
وبناءً عليه وضعت قوانين أساسية تنصّ على مبدأ حريّة التديّن وعدم جواز المساس بأي دين أو التحامل على ديانة بعينها. صحيح أنّ هذا البند ربما وضع ليحمي الديانة اليهودية ورموزها في شمال أوروبا، لكن عدم تحديد الديانة بالاسم جعل القوانين التي تصون الديانات تنسحب على الإسلام أيضاً، وخصوصاً عندما أصبح الإسلام الديانة الرسمية الثانية في السويد والنرويج وحتى في الدانمارك.
وبسبب الطبيعة المناخية الباردة لمنطقة شمال أوروبا فإن سكانها الأصليين هجروها في أوقات سابقة باتجاه أمريكا وباتجاه مدن الشمس، كما أنّ انتهاء مفهوم الأسرة في هذه الجغرافيا واكتفاء الرجل والمرأة بمبدأ المعاشرة أثَّر إلى أبعد الحدود في حدوث تضاؤل فظيع في نسبة المواليد وهو الأمر الذي جعل الإستراتيجيين في هذه المنطقة يفكرون باستيراد البشر من الدول التي تعيش أزمات حروب وأزمات سياسة، فتدفق المهاجرون المسلمون على هذه البلاد، وحصلوا على حق الإقامة الدائمة بموجب اللجوء السياسي أو اللجوء الإنساني، أو من خلال مفوضية شؤون اللاجئين التي ترسل تباعاً عناصر بشريّة بالتوافق مع هذه الدول التي تستقبل سنوياً حصّة معينة ومعدودة من مفوضيّة شؤون اللاجئين.
وخلال ثلاثين سنة ارتفع عدد المسلمين بشكل غير متوقّع في دول شمال أوروبا؛ حيث أصبح عددهم في السويد أزيد من نصف مليون مسلم، وفي النرويج أزيد من 270 ألف مسلم، وفي الدانمارك أزيد من 150 ألف مسلم، وفي فلندا قرابة 50 ألف مسلم، وفي إيسلندا عدة آلاف من المسلمين.
وهذا الاضطراد في ارتفاع عدد المسلمين جعل الكثير من الجمعيات اليهودية الفاعلة في هذه المناطق والمنظمات الكنسية الكبيرة كجمعية (كلمة الحياة العالمية) و (شهود يَهْوَهْ) تنظر بريبة إلى هذا الوجود الإسلامي، وعمدت إلى تكثيف التنصير في المناطق الإسلامية، وراحت تستغل فقر الجاليات العربية والمسلمة لتمرر رسالتها الدينية التي تستهدف بالدرجة الأولى المسلمين حتى يغيِّروا ديانتهم.
وهذا التنامي في عدد المسلمين في مناطق شمال أوروبا جعل الكثير من مراكز الدراسات المستقبلية في الغرب تشير إلى عمق الأزمة الاجتماعية والتركيبة العقائدية لهذه المجتمعات بعد عشرين سنة، كما أنّ بعض الباحثين الإسرائيليين ذكروا بكل صراحة في بحوثهم أنّ المستقبل في هذه المناطق مقلق للصهيونية الذين قد يفقدون أي دعم أوروبي فيما لو أصبح (محمد) و (خالد) من صنّاع القرار في أوروبا؛ في إشارة إلى احتمال وصول الجيل الثالث المسلم المولود في هذه البلاد إلى دوائر القرار.
وقد كانت حياة المسلمين في بلاد شمال العالم طبيعية وعادية، وكانوا يتمتعون بكثير من الامتيازات والتسهيلات، غير أنّ هناك حدثين قلبا ظهر المجن عليهم في هذه البلاد، وبموجب الحدثين أصبحوا عرضة لتآمر دولي يستهدف كيانهم ووجودهم ومستقبلهم:
الحدث الأول: هو تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001م التي حدثت في أمريكا، وقد استطاعت الإدارة الأمريكية أن تفرض توجهاتها الأمنية على دول شمال العالم وأشركتها في سياستها الأمنية، وهو الأمر الذي جعل أحد المتابعين يقول: إنّ أمريكا تملك أكبر قاعدة سياسية ولوجستية في شمال أوروبا.
والحدث الثاني: يرتبط بالاستفتاء الشهير الذي أجراه الاتحاد الأوروبي حول الدولة الشرّيرة الأولى في العالم، فأجمع الأوروبيون بمن فيهم سكان شمال العالم على أنّ الدولة العبرية هي أخطر دولة على السلام العالمي، وبعد هذا الاستطلاع طالب وفد الوكالة اليهودية العالمية الأمين العام للاتحاد الأوروبي ساعة نشر الاستطلاع (رومانو برودي) بأن يلغي هذا الاستطلاع، وحاول الوفد اليهودي إقناع (برودي) بأنّ المسلمين الإرهابيين هم الأخطر على أوروبا والعالم، وأنّ المواطنين الأوروبيين من أصول إسلامية هم الذين جعلوا الاستطلاع في منحى مضاد للدولة العبرية.
ومنذ تلك اللحظة بدأت كبريات الجرائد ووسائل الإعلام المرئية المملوكة بنسبة تسعين بالمائة ليهود في شمال أوروبا في تحقير الهوية الإسلامية والثقافة الإسلامية التي كانت تعتبر، ولا زالت ثقافة كراهية وتحامل على السامية، وبات واضحاً أنّ هناك حملة متكاملة الأبعاد ومخططاً لها سلفاً ضد الإسلام والمسلمين وبشكل استفزازي؛ ففي السويد أطلق قسّ سويدي يدعى (رونارد سوغارد) تصريحاً مفاده أنّ محمداً الرسول العربي معقّد ومزواج ومحبّ للفتيات القاصرات، وتبين أنّه تلقى الضوء الأخضر من الكنيسة الإنجيلية من كاليفورنيا - كنيسة المحافظين الجدد - وتزامناً مع هذا التصريح طالبت إذاعة دانماركية محلية بطرد المسلمين كل المسلمين من الدانمارك، وتلاقياً مع ذلك خرج علينا رئيس الحزب المسيحي النرويجي بتصريح يتهم فيه محمداً الرسول العربي بتخريج إرهابيين ودفع الأطفال إلى الحروب، وأصبحت الكلمة والصورة ضدّ الهوية الإسلامية، وحتى المؤتمرات التي انعقدت في دول شمال أوروبا لم تخلُ من نَفَس كراهية المسلمين؛ ففي مؤتمر حظر الإبادة الذي انعقد في السويد زُجّ باسم المسلمين الساعين ـ حسب أحد المحاضرين ـ إلى إبادة البشريّة برمتها من خلال إقامة دولة إسلامية عالمية على أساس الخلافة الإسلامية؛ وحسب قول هذا المحاضر فإنّ المسلمين ومن خلال الإسلام الراديكالي يهدفون إلى إبادة كل الأجناس وكل الديانات، وفكرهم قائم على تدمير الآخرين وإزالتهم من الخارطة الكونية كما قال.
وقد انضمّ إلى هذا المحاضر اليهودي (هنري آشر) المقيم في السويد والمتخصص في طبّ الأطفال؛ حيث أشار إلى أنّ المسلمين في السويد يعادون السامية بشكل كامل، وكثيراً ـ كما قال آشر ـ ما نصادف كراهية مطلقة لليهود وسط الأحياء الآهلة بالمهاجرين المسلمين في مختلف المحافظات السويدية.
وعلى الرغم من غياب رسمي كامل للدولة العبرية التي مثّلها سفيرها في العاصمة السويدية ستوكهولم (زفي مازل) إلاّ أنّ صوتها كان مسموعاً بقوّة في مؤتمر الإبادة؛ حيث أرادت ومن خلال أدواتها أن تعيد الكرة إلى ملعب المسلمين وخصوصاً بعد الصفعة السياسية التي تلقاها السفير الإسرائيلي (زفي مازل) في ستوكهولم عقب تخريبه لعمل فني يمسّ الكيان الصهيوني في الصميم في المتحف الوطني السويدي.
والملاحظ أنّ الصوت العربي والإسلامي كانا غائبين بل خافتين وخصوصاً بعد أن عمدت بعض الجهات المنظمة للمؤتمر إلى تغييب محنة الشعب الفلسطيني والعراقي والشيشاني والأفغاني إرضاءً لواشنطن وتل أبيب وموسكو.
وتكررت الإساءات للإسلام بشكل لم يسبق له مثيل؛ حيث عرضت قناة تلفزيونية في شمال أوروبا برنامجاً عن الحيوانات، وكان المشرف على إطعام هذه الحيوانات ينادي أحد التماسيح باسم محمد، ويناديه: تعالَ يا محمد كُلْ بشراهة! ولا يُعرف لماذا اختار راعي حديقة الحيوانات اسم محمد لتمساحه دون سائر الأسماء.
وقد أظهر استطلاع ودراسة أجرتها دائرة الاندماج أنّ السويديين أكثر انفتاحاً ولكن ليس إزاء الإسلام والمسلمين. وحسب الدراسة فإنّ السويديين يميلون إلى مواقف إيجابية أكثر نحو التعددية وتمازج الثقافات داخل مجتمعهم، ولكنهم في الوقت ذاته يبدون ريبة من الإسلام والمسلمين، هذا ما أظهرته دراسة حديثة أجرتها مصلحة الهجرة.
وحسب الدراسة فإنّ ثلثي السويديين الذين شملتهم الدراسة يعتقدون أن القيم الإسلامية لا تنسجم مع قيم المجتمع السويدي.
وبينما قال 60% من السويديين الذين شملتهم الدراسة أن الشكوك لا تراودهم من معاشرة مسلمين، قالت نسبة مماثلة إنهم لا يفكرون في الانتقال إلى منطقة ذات أغلبية إسلامية، وأبدى 50% معارضتهم لارتداء غطاء الرأس من جانب النساء المسلمات في المدارس وأماكن العمل. وقد طالب حزب الشعب السويدي folkpartiet الممثل في البرلمان السويدي أساتذة المدارس السويدية بالتعاون مع الأجهزة الأمنية السويدية للتجسس على الطلبة والتلاميذ المسلمين الذين لديهم ميول إسلامية ونزعة إلى التطرف، وقد طالب حزب الشعب السويدي الداعم منذ نشأته للكيان الصهيوني والذي استضاف في المدة الأخيرة النائبة الهولندية المرتدة، وهي من أصل صومالي (هرسي) والمشهورة بسبّ رسول الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- في هولندا ـ طالب الأساتذة السويديين بأن يكونوا عيوناً وجواسيس على تلاميذهم وطلبتهم المسلمين الذين يميلون إلى التطرف.
واقترح حزب الشعب كما تقول ممثلته (لوتا إدهولم) أيضاً أن يكون هناك تنسيق كامل بين المخابرات السويدية وأساتذة المدارس لتعقّب المتطرفين المسلمين، ومن الضرورة ـ كما قالت ممثلة حزب الشعب ـ أن يلعب الأساتذة هذا الدور. وعللت (لوتا) هذا الاقتراح بقولها: إنّ المعلومات المتوفرة تشير إلى وجود العديد من المتطرفين المسلمين في المدارس السويدية ويجب أن يتم التصدّي لهم، أو بعبارة أخرى: استئصالهم بالتعاون مع المخابرات السويدية.
ويريد حزب الشعب السويدي أن تكون المدارس السويدية في كل المحافظات السويدية مؤسسات جاسوسية وعيناً على التلاميذ؛ وهو خلاف المهمّة الحضارية للمدرسة.
أما نقيبة المعلمين السويديين (ميتا فيكنر) فقد استغربت هذا الاقتراح الذي يتجاهل المهمة الحضارية للمدرسة والذي يُخرِج الأساتذة عن مهامهم التعليمية النبيلة إلى التجسس على التلاميذ. وعلى الرغم من أنّ السويد لم تُبْتَلَ بالتطرف أو العنف إلاّ أنّ بعض الأحزاب السويدية تحرص على اتهام المسلمين كافة وتصويرهم على أنهم خطر على الأمن السياسي والاجتماعي كما صرح بذلك قادة حزب الشعب المتطرّف.
وفور بروز هذه التصريحات والبداية الفعلية للتواصل بين المعنيين بالشأن التربوي والمخابرات السويدية، أجرت جريدة (داغينس نهيتر) الشهيرة ـ dagens nyheter ـ استطلاعاً شارك فيه قرّاء الجريدة حول تكليف الأساتذة بالتجسس على الطلبة المسلمين، فأجاب 64 بالمائة ضدّ هذه الخطوة الأمنية، بينما وافق 35 بالمائة على هذه الخطوة، ولم يُبْدِ 1% رأيهم في الموضوع.
وتعليقاً على هذا الموضوع قال أحد التربويين السويديين (إريك نلسون) إنّ هذا الموضوع غير مقبول بتاتاً، وقال: صحيح أننا في السابق تعاونَّا مع الشرطة في قضية الشباب النازيين، لكن ذلك كان ضمن مشروع مدروس للديموقراطية.
وفي أقل من سنتين عقب الحادي عشر من سبتمبر ظهرت عشرات العناوين التي تتحدث عن الإسلام وكانت في مجملها سلبية؛ فقد ظهر كتاب في السويد عن الإسلام وعن محمد -صلى الله عليه وسلم- تحديداً، ثمّ تلاه كتاب آخر في الدانماراك وهو الكتاب الذي أسس للمسابقة التي أقامتها جريدة (يولاند بوستن) لرسم النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
ويقول أحد الرسامين الدانماركيين الذين شاركوا في رسم النبي محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ: إنّ فكرة رسم الرسول محمد تعود إلى الكاتب الدانمركي (كوري بلويتن) الذي كتب كتاباً عن رسول الله محمد، وقد احتاج إلى رسومات تقريبية لشخص النبي محمد، فاتصل بنقابة الصحفيين الدانماركيين معلناً عن حاجته إلى رسومات لكتابه الجديد عن النبي محمد، وإثر ذلك دخلت جريدة (يولاند بوستن) حلبة المسابقة، وكلفت أشهر الرسامين بتشخيص النبي محمد، وقد اختارت في نهاية المطاف اثني عشر رسماً، وكانت تلك الرسوم التي فجّرت الموقف في العالم الإسلامي.
وفي هذا السياق يقول أحد رسامي الرسوم الاثني عشر المتعلقة بالنبي محمد: إنّي تقزّزت في بداية الأمر من دعوة رئيس تحرير (يولاند بوستن) لرسم النبي العربي، واستشرت أصدقاء لي من الشرق الأوسط الذين نبهوني إلى خطورة الموقف، لكن في النهاية وافقت حتى لا أُتهم بالجبن والتردد من قِبَل زملائي. وفي الوقت الذي تبدي فيه بعض دول شمال العالم عناداً شديداً وترفض تقديم اعتذار رسمي للمسلمين بحجة أنّ حرية التعبير مقدسة في الغرب؛ فإنّها في واقع الأمر بدأت تشعر بحجم الأضرار التي ألحقتها المقاطعة باقتصادها، وقد اتصلت المخابرات الدانماركية ببعض القيِّمين على العمل الإسلامي في الدانمارك لحملهم على مساعدة الدانمارك في تجاوز هذه المرحلة الصعبة، كما أنّ الاقتصاديين الدانماركيين الذين لديهم مصالح واسعة في العالم الإسلامي عابوا كثيراً على حكومة (راسموسين) تأخرها في الاعتذار للمسلمين على غرار ما فعلته الحكومة النرويجية. أما الحكومة السويدية؛ فقد قررت أن لا تخلط أوراقها مع العالم الإسلامي، وتعهد رؤساء تحرير صحفها بعدم إعادة نشر الرسومات المسيئة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى لا تجرح مشاعر المسلمين.