حول الاعتداءات الأمريكية الأخيرة على باكستان
متابعة: خباب بن مروان الحمد
في الساعة الثالثة قبل فجر يوم السبت (14 ذي الحجة/14 يناير) حلَّق عدد من الطائرات الأمريكية على قرية (دما دوما) في منطقة (باجور) القبلية الباكستانية، ووسط الأزيز الرهيب أطلقت عشرات القنابل الضوئية الَّتي حوَّلت ليل القرية إلى نهار، ثم كوَّنت دائرة ضوئية كبيرة على ثلاثة بيوت بعينها، وأطلقت عليها القنابل والصواريخ التي صيَّرت البيوت الفقيرة إلى أطلال، وحولت ساكنيها الأحياء من الشيوخ والأطفال والنساء إلى كومة من الأشلاء. إنَّ تحليق الطائرات الأمريكية في المنطقة ليس بأمر جديد خاصة أنَّه منذ ثلاث أيام بلياليها كانت الحركة الجوية مكثفة حتَّى أرعبت سكان المنطقة وجعلتهم يتوقعون حدوث محظورٍ ما. لكن لم يطرأ على بالهم أبداً أن أسراً فقيرة والتي ليس لديها أي انتماء سياسي أو تنظيمي سوف تذهب ضحية أخطر غارة أمريكية في باكستان، منذ بدء الحرب الأمريكية ضد ما يصفونه بالإرهاب.
تشير عقارب الساعة التي بقيت متوقفة وشبه معلقة على إحدى جدران البيت المهدم إلى ساعة الهجوم والدمار وهي الساعة الثالثة وعشرون دقيقة صباحاً، وما أن وقعت الانفجارات وارتفعت أعمدة النار والدخان، حتَّى هُرِعَ أهالي المنطقة إلى مكان الهجوم وامتلأت المنطقة بالآلاف من أفراد القبائل المختلفة قبل أذان الفجر، وأصيب الناس بالذهول، ولا أحد يستطيع تفسير ما حدث، ثم طفقوا يُخرِجون الجثث من تحت الأنقاض ويحاولون إنقاذ الجرحى؛ حيث صار عدد القتلى ثمانية عشر، والجرحى بالعشرات.
وقد واصل سكان المنطقة عملية إغاثة المصابين والجرحى ودفن الموتى، وإذا بهم يفاجَؤون بأنهم أصبحوا مركز أهم الأخبار الدولية، وأن القنوات العالمية أوقفت برامجها ونشراتها لتعلن الخبر العاجل، ومفاده أن «كبار الإرهابيين» قد لقوا حتفهم في (باجور) وأنَّ الرجل الثاني وربما الأول في تنظيم القاعدة من ضمن ضحايا الهجمة الأمريكية! وهنا ثارت ثورة القبائل وبدؤوا يحتشدون في موقع الحادث، وخلال بضع ساعات بلغت الحشود الغاضبة حوالي خمسين ألف شخص كلهم يهتفون: «الموت لأمريكا» و «الموت لبوش ولحليفه برويز» وكلهم ينادون بالثأر لدماء الأبرياء مهما كان الثمن، وهنا خاطبهم زعماء القبائل وعضو البرلمان من تلك المنطقة واسمه هارون الرشيد ـ وقد سبق لي أنني دخلت معه السجن لمدة أربعين يوماً في جريمة المشاركة في مظاهرة سلمية تضامناً مع الكشميريين واحتجاجاً على زيارة رئيس الوزراء الهندي السابق فاجبائي ـ وقال لهم: إننا لن ننسى على مرّ التاريخ هذه الجريمة النكراء، ولكن علينا أن نسلك الطريق الصحيح للاحتجاج، وألاّ ندع نيران الغضب تشتعل لنحرق أنفسنا دون أن نصيب المجرم القاتل بشيء، وطالب مخاطباً حليف بوش الرئيس برويز مشرف بأنك تتحمل مسؤولية هذه الجريمة؛ لأنها نتيجة حتمية لتحالفك مع بوش؛ فأنت أيضاً مسؤول وبنفس الدرجةعن قتل هؤلاء الأبرياء. وأضاف مخاطباً الجماهير: سوف نرفع هذه القضية في البرلمان، وسوف يقف كل أفراد الشعب الباكستاني الغيورين معنا وضد المعتدين.
ولقد كان خطابه محاولة منه لئلا يتحول الغضب الشعبي القبلي إلى نار ودمار عشوائي، ولئلاَّ تتطور الأمور إلى فوضى عارمة لا يمكن لأحد السيطرة عليها، ولن يتضرر من ذلك إلا باكستان.
وهذا ما أكد عليه القاضي حسين أحمد أمير الجماعة الإسلامية ورئيس مجلس العمل الموحد (تحالف الأحزاب الدينية) عندما عقد مؤتمراً صحفياً عاجلاً في مقر الجماعة في لاهور ودعا إلى احتجاجات شعبية في جميع أنحاء الدولة قائلاً: إن باكستان قد فقدت حريتها واستقلاليتها وسيادتها الوطنية، وقد صارت الأجواء الباكستانية وأراضيها مرتعاً للقوات الأمريكية، وأصبح رعاياها دون أي أمن أو أمان؛ إذ سلمهم رئيس جيشهم ورئيس الدولة إلى قوى الاعتداء وباعهم وباع السيادة الوطنية بثمن بخس، فلا بدَّ من الوقوف والتحرك حتى نتخلَّص من هذه الحكومة. وكانت الاستجابة الشعبية لهذا النداء أقوى وأكبر من كل النداءات السابقة ضد برويز مشرف وسياساته؛ حيث خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين في كل العواصم الإقليمية ومراكز المحافظات، وأعلنوا رفضهم لهذا الهجوم الأمريكي ولسياسات برويز مشرف الداعمة للإدارة والجيش الأمريكي.
إنَّ هذه الغارة الأمريكية ليست الأولى ولكنها أخطر العمليات والهجمات الأمريكية في الأراضي الباكستانية؛ إذ تبعد منطقة باجور عن الحدود الأفغانية أربعين كيلو متراً وليست مجاورة وملاصقة لها، وهذا يعني أن أمريكا لا تتورع عن ضرب أي من الأهداف في باكستان مهما كانت مواقعها ومهما كانت حجج الهجوم واهية وباطلة.
وبمعنى آخر لو أصرت أمريكا على أن عناصر إرهابية ـ كما تزعم ـ قد دخلت المواقع العسكرية الباكستانية ولا بد من شن الغارة عليها فلا يردعها من ذلك رادع، وإنَّ الأنكى من كل ذلك أن من يؤمل منهم أنهم سوف يقفون للجناة والمعتدين بالمرصاد أصبحوا يبررون لهم جرائمهم ويشجعونهم على مزيد من الاعتداءات؛ فهذا برويز مشرف يوجه إلى المناطق القبلية نصائحه بألاَّ يؤووا العناصر الإرهابية وأن يخرجوهم من مناطقهم، ثم يظهر على شاشات التلفاز ويخاطب الشعب خطاباً مباشراً لمدة ساعة وخمس وعشرين دقيقة دون أن ينطق بكلمة عن الاعتداء الأمريكي أو الغارة على باجور ويشغل الشعب بقضايا خلافية حول توزيع مياه الأقاليم وبناء السدود.
وهذا رئيس الوزراء شوكت عزيز ـ أحد كبار موظفي ستي بنك الأمريكي إلى وقت قريب ـ يصرح عشيَّة الغارة الأمريكية بعد لقائه مع جون كيري مرشح الرئاسة الأمريكية أمام بوش: «إننا نستمر في تعاوننا مع أمريكا ضد الإرهاب والإرهابيين» ثم قال في تصريح آخر قبل أن يغادر في أول زيارة له لواشنطن كرئيس لوزراء باكستان وليس كأحد موظفي ستي بنك: إن علاقاتنا مع أمريكا لن تتعثر بأمور بسيطة، ولن أصغي إلى النداءات التي تطالبني بإلغاء زيارة واشنطن لسبب أو لآخر. وهذا وزير الإعلام يعقد أقصر مؤتمر صحفي له منذ توليه الحقيبة الوزارية، ويكتفي بقراءة نص بيان أُعطِي له يعرب فيه عن حزنه لما حدث ويتوقع ألاَّ تتكرر حادثة باجور دون أن يشرح كيفية منع أو سبب امتناع الأمريكان من معاودة الكرّة. ثم عندما رأت الحكومة المظاهرات والانتقادات الشعبية الكبيرة وحتى من داخل الحزب الحاكم قررت استدعاء السفير الأمريكي إلى وزارة الخارجية، واحتجت على ما حدث، وبشرت الشعب الباكستاني بأن باكستان لن تسمح بتكرار ما حدث، أي لن نعمل سوى التعلق بحبال الهواء.
في اليوم التالي من هذا التأكيد الرسمي والاحتجاجات الشعبية صرَّحت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بأن هجمات أمريكا ضد الإرهابيين سوف تستمر ورفضت أن تعلق أو تعتذر عن الغارة الأمريكية ومقتل ثمانية عشر مدنياً، وقبلها صرَّح عضو مجلس الشيوخ الأمريكي من حزب بوش جون ميكنن «بأننا لا نستطيع أن نضمن لباكستان عدم تكرار حادث مماثل» كما انتقد عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الحكومة الباكستانية بأنها لم تقم بالواجب وأنها مسؤولة عن وجود «العناصر الإرهابية» في المناطق القبلية وأن الهجوم الأمريكي كان صائباً وفي وقته.
إنَّ هذه التصريحات والردود توضح خطورة وضخامة ما حدث وتشرح المخاطر الجمة التي لحقت بأمن باكستان وسلامتها، فبعد أن كانت القوات الأمريكية ترتكب بعض المخالفات الحدودية أصبحت توسع دائرة التوغل وبعد أن كانت تؤكد لباكستان سيادتها الوطنية أصبحت الآن تصر على فعل كل ما يحلو لها دون مراعاة لأية حدود أو قوانين دولية أو وخزة ضمير.
ويتساءل الشعب الباكستاني بأعلى صوته قائلاً للجنرال برويز مشرف: هل هذا ما كنت تعدنا به وتقول إنك تحالفت مع أمريكا لتحافظ على سلامة باكستان؟ الحقيقة المرة أن برويز مشرف زرع الشوك ولن يحصد العنب، ولكن السؤال الأكبر هو: ما مصير الشعب وما مصير باكستان؟ هل تتجه باكستان فعلاً نحو أصعب مراحلها كما أشار إليه عديد من كبار المحللين العسكريين والجنرالات المتقاعدين الذين اعتبروا الغارة الأمريكية مجرد جس النبض وأن أمريكا قد ترتكب خطيئتها الكبرى تجاه المنشآت النووية أو العسكرية.
وسواء أكانت هذه المخاوف في محلها أم لا، لكنها أكدت على عدة حقائق:
أولاً: أن هذه الغارة قد أسقطت ورقة التوت عن النوايا الأمريكية تجاه باكستان، ورأى الجميع بمن فيهم برويز مشرف أن صداقة أمريكا مجرد وهم ليس إلا، وأن على باكستان أن تحسب حساب الغد القادم.
ثانياً: أكَّد هذا العدوان وبقوة على ضحالة الكفاءات الاستخباراتيَّة والعسكرية الأمريكية وعلى غبائها أيضاً؛ إذ استمرت طائرات القوة الكبرى «تنقب في الأجواء» الباكستانية في باجور وضواحيها لمدة ثلاثة أيام بلياليها مستخدمة الطائرات التجسسية والطائرات بلا طيار والأقمار الصناعية وكذلك «العيون الغالية الرخيصة» ثم قامت بعملية فضحتها أمام الرأي العام الداخلي وأسقطت حلفاءها حتى في عيونهم أنفسهم.
ثالثاً: كما أكدت الغارة أن الولايات المتحدة الأمريكية مستمرة وسوف تستمر على زرع مزيد من الكره والغضب في قلوب المسلمين في العالم، وأن سياساتها المعلنة لكسب عقول وقلوب الشعوب لن تحقق سوى هدر الملايين من الدولارات وإسقاط كل الأقنعة الخادعة عن وجهها الحقيقي وكذلك عن وجوه عملائها واحداً تلو آخر.
وصدق المولى ـ عزَّ وجل ـ إذ يقول: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] .