مجله البيان (صفحة 5506)

الوحي الإلهي العقل الوضعي

عبد الله بن نافع الدعجاني

لطالما كان الوحي السماوي المنزَّه المورد الزلال، والنبع الصافي لسلف هذه الأمة وأجيالها؛ فمنه يصدرون وإليه يَرِدون، وبسببه كان ذلك الجيل الأول من الأمة خالص القلب والتصور والشعور من كل ما يفسد نظره في مسائل دينه ودلائله، ولذلك كان معلمهم الأول -صلى الله عليه وسلم- حريصاً كل الحرص على صفاء ذلك النبع من كل شائبة تعكر صفوه، ومن كل قذىً يفسد رونقه؛ فقد غضب -صلى الله عليه وسلم- حينما رأى مع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ صحيفة فيها شيء من التوراة وقال ـ معاتباً له ـ: «أمتهوّكون فيها يا

لكنه في أعقاب هذا الزمان اختلطت الينابيع العكرة بذلك النبع الصافي، وامتزجت به رواسب الحضارات الوثنية وزبالة الثقافات الإلحادية، ولكن ما زال ذلك النبع الصافي ينفي الخبث عنه ويزيل القذى منه بقوته الذاتية، وكان أخطر آثار ذلك الامتزاج والاختلاط على الحضارة الإسلامية، هو الارتداد عن منهج التلقي كما كان عليه سلف هذه الأمة، والعبث بمصادر المعرفة الإسلامية التي تمثل العين النضاخة الثرَّة التي تمد ذلك النبع الصافي والمَعِين القُراح.

- أصول المعرفة الإسلامية:

ولما كانت أصول الديانة قسمين: الأول: مسائل يجب الإيمان بها اعتقاداً وقولاً وعملاً، والثاني: دلائل تلك المسائل، كانت «المعرفة الإسلامية» المحضن الفكري لتأصيل تلك الدلائل؛ إذ تتمحور مواضيعها حول تأصيل المنهج الاستدلالي الشرعي وبيان مصادره المعرفية وحدود كل مصدر ومجالاته (?) .

وتعد المعرفة أو «نظرية المعرفة» ـ كما يطلق عليها في الأوساط الفلسفية ـ قضية كبرى محورية في كل اتجاه ومذهب ونِِحلة؛ إذ بسببها يمكن أن نحفر في جذور كل مذهب فكري، لاستخراج مبادئه المنطقية ومنطلقاته الفلسفية، ليسهل ـ بعد ذلك ـ تصوره والحكم عليه؛ فهي من المعارف بمنزلة الأم، ومن العلوم بمنزلة الجذر.

وقد تميزت «المعرفة الإسلامية» من بين نظائرها باعتمادها على أُمَّات الأصول المعرفية، وانتهاجها أقوى الطرق اليقينية وهي ثلاثة:

الأول: الوحي الإلهي: وهو عمود «المعرفة الإسلامية» وذروة سنامها؛ فمن الله تبتدئ العلوم والمعارف وإليه تنتهي. قال ـ تعالى ـ: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 ـ 5] .

الثاني: الحواس: وأعظمها السمع والبصر، وهي طريق يقيني لنقل المعرفة والعلم. قال ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] .

الثالث: العقل: وهو غريزة فطرية خلقها الله في الإنسان تنطوي على مبادئ ضرورية الصدق، أعظمها مبدأً عدم التناقض ومبدأ السببية، فهو قوة من قوى الإدراك يقوم بوظيفتي التصور والتصديق، لكن يشترط لإدراكه معاضدة الحواس له. قال ـ تعالى ـ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .

فبهذه المصادر الثلاثة تتكامل المعرفة اليقينية في النظر الشرعي؛ فمعرفة «عالم الشهادة» تدرك بطريقي الحواس والعقل، ومعرفة «عالم الغيب» تدرك بطريق الوحي إن كان غيباً محضاًً كالجنة والنار، وتدرك بطريق العقل والوحي إن كان غيباً متعقلاً كوجود الله.

وقد جمع القرآن بين طرق المعرفة الثلاثة كما جمع بين مجالات المعرفة ـ الغيب والشهادة ـ في آية واحدة، فقال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يوسف: 109] .

لكن في هذا السياق لا بد أن أنبه القارئ الكريم إلى قضيتين هما غاية في الأهمية:

القضية الأولى: أن «الوحي» الإلهي، وإن كان حقيقة غيبية، لا يمكن إدراك ذاتها بالطرق الحسية، إلا أنه يمكن إثباته بالطرق العقلية وذلك من ثلاثة أوجه:

الأول: دلالة أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وصفاته على ثبوت نبوته؛ وأعظم صفاته الدالة على نبوته: صدقه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإذا ثبت صدق النبي من طريق التجربة لزم أن يكون صادقاً في ادعائه الوحي؛ إذ يستحيل استحالة تجريبية أن يكون المرء صادقاً في كل أحواله عظائمها وصغائرها ثم يكذب في أمر جلل كادعاء الوحي؛ وهذا الدليل العقلي هو ما خاطب به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه لما نزل قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ؛ فقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه! فقالوا: مَنْ هذا؟ فاجتمعوا إليه فقال: «أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ» ؟! قالوا: ما جربنا عليك كذباً. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب عظيم» (?) .

الثاني: دلالة المعجزات على النبوة؛ إذ إن هناك تلازماً ضرورياً بين وقوع المعجزة لنبي وبين كونها دالة على صدقه في ادعائه الوحي؛ فإذا ادعى النبي نزول الوحي عليه، ثم حصلت له معجزة خارقة للسنن الكونية ليست في مقدور البشر دل ذلك على تأييد الله له في ادعائه النبوة، لا وجه لغير هذه الدلالة؛ إذ يستحيل استحالة شرعية وتجريبية أن يكون كاذباً في ادعائه النبوة مع تأييد الله له.

الثالث: تضمن الوحي لأدلة ثبوته وهي أدلة كثيرة أعظمها عجز المكذبين به أن يأتوا بمثله لَمَّا تحداهم القرآن بذلك، وما زال التحدي قائماً. قال ـ تعالى ـ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13] . فإعجاز القرآن للبشر دليل على صدق النبي فيما ادعاه من النبوة التي ليست في مقدور البشر.

ومن تلك الأدلة آيات الإعجاز العلمي في جميع المجالات مثل الطب والفلك والجويولوجيا؛ وهذا مجال خصب واسع بهر المخالفين للوحي الإلهي (?) .

القضية الثانية: أن طرق المعرفة في الإسلام ومصادرها متسقة مؤتلفة لا متنافرة متضادة؛ فالدليل القائم على الطريقة العقلية قسم من منظومة الأدلة الشرعية وليس قسيماً لها، وهو ملازم للدليل النقلي القائم على الوحي؛ بهذا التقرير يمكن إدراك العلاقة المنسجمة بين العقل والوحي، لكن العلاقة بينهما تسوء إذا حاولنا أن نفصم عرى الوثائق بينهما، وهذا ما أراد فعله الفكر القلق المضطرب قديماً وحديثاً. يقول ابن تيمية: (الأدلة العقلية والسمعية متلازمة، كل منهما مستلزم صحة الآخر؛ فالأدلة العقلية تستلزم صدق الرسل فيما أخبروا به، والأدلة السمعية فيها بيان الأداة العقلية التي بها يُعرَف اللهُ وتوحيدُه وصفاتُه، وصدقُ أنبيائه، ولكن من الناس من ظن أن السمعيات ليس فيها عقلي، والعقليات لا تتضمن السمعي، ثم افترقوا: فمنهم من رجح السمعيات وطعن في العقليات، ومنهم من عكس، وكِلا الطائفتين مقصر في المعرفة بحقائق الأدلة السمعية والعقلية) (?) .

وبسبب عدم فهم العلاقة المنسجمة بين العقل والوحي افتُعل الصراع بينهما حتى أصبحت قضية العلاقة بينهما من أكبر إشكاليات الفكر والمنهج، وهذا الصراع ـ الذي لا مبرر له ـ بدأ منذ فجر نزول الوحي؛ فقد كانت المعركة الفكرية على أشدها بين الثقافة الجاهلية والوحي الإلهي، وأهم مواطن الصراع بينهما هو قضية «البعث» ؛ فقد حاول الجاهليون مصادمة الوحي بالطرق العقلية حتى قال قائلهم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ولذلك أوْلى الوحي عنايته بإثبات قضية البعث بأنواع كثيرة من الأدلة العقلية.

ولم تلبث أن عادت إشكالية العلاقة بين العقل والوحي إلى الظهور مرة ثانية؛ وذلك في الصراع الفكري الذي دار بين الفلاسفة والمتكلمين، وكانت إحدى صور ذلك الصراع ما كان بين الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» وابن رشد في كتابه «تهافت التهافت» ، ثم ظهر الصراع الفكري مرة أخرى ـ في تلكم القضية ـ بين المتكلمين والسلفيين وكان ابن تيمية أبرز أبطال هذه المعركة الفكرية ممثلاً في كتابه العظيم «درء تعارض العقل والنقل» ، نقض فيه قانون المتكلمين الشهير في علاقة العقل بالنقل، ثم ظهر الصراع الفكري المحتدم بصورته الجديدة في الساحة الفكرية العربية والإسلامية المعاصرة، بعد انتشار الفكر العلماني وتبني رواده العرب أطروحات تيار التنوير الغربي القائلة بكفاية العقل واستقلال مرجعيته، واستبعاد الوحي من دائرة المعرفة، وكان «العقل الوضعي» خصماً للوحي الإلهي المنزَّه في هذه الجولة من جولات الصراع الفكري بين الوحي وخصومه.

- العقل الوضعي وجذوره الفلسفية:

العقل الوضعي هو ذلك المنهج الاستدلالي المعرفي الذي يستبعد المعرفة الغيبية والقيمية من دائرة اهتمامه، ويتحدد تبعاً لاحتياجات الواقع الحسي ووفقاً لمظاهره، وقد اعتمد رواد العلمانية العربية على «العقل الوضعي» في نقد التراث ورفض الوحي وإقصائه من المعرفة، واتخذوه قاعدة للانطلاق في مشروعهم الحضاري القائم على مفاهيم الحداثة الغربية، وهذا يدعونا لبيان الرابطة الفكرية بين مشروعهم الحضاري والمفاهيم الغربية؛ وذلك بالكشف عن جذور «العقل الوضعي» في الفلسفة الغربية؛ فقد كان المذهب الحسي في الفلسفة الغربية الحديثة الأساس الفلسفي والمستند المنطقي «للعقل الوضعي» ، وهو مذهب ظالم للمعرفة البشرية؛ إذ حبسها في الظواهر الحسية فقط، وسنشير إلى أبرز رواد المذهب الحسي ممن كان لهم الأثر في تكوين المنظومة الفكرية «للعقل الوضعي» .

1 ـ «ديفيد هيوم» ـ 1776م:

وهو أبرز من قعَّد للمذهب الحسي ونظَّر له، كما كان له الأثر الكبير في تشكيل البناء الفلسفي لاتجاهات وفروع الفلسفة التجريبية الحسية، ويُعَدُّ من أكبر ملاحدة العصر الحديث، وله كلمة شهيرة في ختام كتابه «بحث في العقل» يقرر فيها رفضه للوحي والغيوب؛ إذ يقول: (إذا تناولت أيدينا كتاباً ـ كائناً ما كان في (اللاهوت) أو في الميتافيزيقا الأسكولائية (الغيبيات) مثلاً فلنسأل: هل يحتوي هذا الكتاب على أي دليل مجرد يدور حول الكمية والعدد؟ لا، هل يحتوي على أي دليل تجريبي يدور حول الحقائق الواقعة القائمة في الوجود؟ لا؛ إذن فاقذف به في النار؛ لأنه يستحيل أن يكون مشتملاً على شيء غير سفسطة ووهم) (?) .

2 ـ «أوجست كونت» (1798م ـ 1857م) :

وهو مؤسس المذهب الوضعي والمؤسس الحديث لعلم الاجتماع، وقد اشتهر بقانونه المسمى «قانون الأطوار الثلاثة» وهو قانون بُني على الإلحاد، وأُسِّس على جحد الخالق؛ إذ يرى أن تطور التفكير الإنساني مرَّ بثلاثة أطوار تاريخية وهي:

الأول: الطور اللاهوتي وهو بداية التفكير الإنساني، وفيه يفسر الإنسان كل الظواهر الطبيعية بردِّها إلى أسباب وقوى خرافية كالإله ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ أو العفاريت والأشباح.

الثاني: الطور الميتافيزيقي أي الغيبي، وفيه يفسر الإنسان كل الظواهر الطبيعية بردها إلى قوى ظاهرة ـ كالجبل أو الشمس ـ يظنها قادرة على إحداث الظواهر الطبيعية.

الثالث: الطور الوضعي وهو الطور العلمي المعاصر الذي ارتقى فيه الإنسان بفكره واستطاع أن يفسر الظواهر الطبيعة بردها إلى أسباب موضوعية خالية من تخيلات اللاهوتيين وتوقعات الميتافيزيقيين (?) .

لكن اعتماد رواد العلمانية العربية على «العقل الوضعي» في الدعوة إلى مشروعهم التنويري واستخدامهم قوالب التفكير الغربية لنقد التصورات والقيم الإسلامية المبنية على «الوحي الإلهي» قد أخفق لأسباب منها:

1 ـ أن مشروعهم التنويري أعمى لا يعي الطبيعة المرحلية التاريخية للفكر الغربي، ولا الخصائص الفكرية للمجتمع الإسلامي، وذلك من وجهين:

الوجة الأول: إغفالهم لدور الفكر الديني المؤمن بقضية «الوحي» في قيادة التيار التنويري الغربي؛ إذ كانت حركية الإصلاح الديني بقيادة «لوثر» في القرن الخامس عشر الميلادي على رأس هذا الفكر في قيادة مشروعهم التنويري، لكن التيار التنويري الإلحادي في العصر الحديث والمعاصر قَلَبَ المِجَنَّ على قادة التيار التنويري المتدينين، وأنكروا دور التفكير الديني في بعث مشروعهم؛ وتلك مرحلة تاريخية للفكر الغربي لا يمكن تجاوزها أو تغافلها؛ إلا أن أصحاب التيار التنويري المعاصر انتهازيون تتأصل في نفوسهم معاني الجحود والنكران للخلق وللخالق.

الوجة الثاني: محاولة غرسهم لمفاهيم التيار التنويري الغربي في غير أرضه؛ فإذا كان الوضع الديني والاجتماعي في الغرب لا يعارض هذا التيار؛ فإن الدين الإسلامي ومجتمعه يناقض هذا التيار مناقضة عقلية ونفسية؛ فرواد العلمانية العربية وقعوا في خطأ منهجي لا يغفر ذلك بتبنيهم أحكاماً عقلية مكتسبة من تجربة تاريخية لثقافة مغايرة، مع مكابرتهم على الدور الذي قام به «الوحي الإلهي» في تشكيل العقل العربي الإسلامي؛ فحقيقة مشروعهم التنويري أنه لقيط لا نسب له ولا صهر في الحضارة الإسلامية، فهو مُنْبَتٌّ من جذوره منفك عن فلكه.

2 ـ أن مشروعهم التنويري عدو لدود لا صديق حميم للحضارة الإسلامية؛ إذ يسعى إلى استلاب أعز ما يملكه أبناء الإسلام وهو القيم الأخلاقية والروحية؛ فكيف يتوافق العدو مع عدوه؟ أم كيف يتعايش اللص الأهوج مع صاحب الدار الحذر؟

ولما كان الإسلام أبيَّ الزمام، بَعِيدَ المرام، كان الإخفاق الذريع حليفاً لمشروعهم التنويري الذي رضي أن يكون خصماً للإسلام؛ والأدلة على إخفاقه جلية كثرة؛ منها أمران:

الأمر الأول: لجوؤهم إلى بناء مشروعهم التنويري عبر نقد التراث نقداً ذاتياً ـ باعتباره البعد التاريخي المعرفي للثقافة الإسلامية ـ ولذلك كثرت جهودهم في ذلك، بدأها الماركسي «حسين مروَّة» في كتابه (النزعات المادية في الإسلام) ، ثم تابعه «طيب تيزيني» في موسوعته التي بدأها بكتابه (من التراث إلى الثورة) ، ثم جاء على إثرهم «حسن حنفي» في موسوعته الخماسية (من العقيدة إلى الثورة) التي قدم لها في كتابه (التراث والتجديد) ، ثم توج محمد عابد الجابري هذه الأعمال النقدية في ثلاثيته الموسومة بـ (نقد العقل العربي) التي استهلها بكتابه (تكوين العقل العربي) ، وإن نسينا فلا ننسى ما قام به زكي نجيب محمود في كتابيه (تجديد الفكر العربي) و (المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري) ، وما قام به صادق جلال العظم في كتابه (نقد الفكر الديني) ، وما فعله «إسماعيل مظهر» في كتابه (تاريخ الفكر العربي) والذي أظهر فيه التزامه بوضعية «أوجست كونت» .

الأمر الثاني: تراجع بعض دعاة التنوير في العالم العربي عن مواقفهم المتطرفة إلى انكسار حدة دعوتهم وانخفاض نبرة أصواتهم، كان على رأس هؤلاء زكي نجيب محمود رائد «الوضعية المنطقية» في العالم العربي وسلاَّمة موسى رائد العلمانية العربية. فزكي نجيب محمود على سبيل المثال بعد أن كان يدعو إلى إحراق التراث ـ كما نادى به من قبل الفيلسوف «ديفيد هيوم» ـ تراجع عن موقفه الغالي المتطرف شيئاً يسيراً إلى الدعوة باحتفاظ التراث على سبيل التسلي به وإشباع شهوة الحنين إلى الماضي؛ إذ يقول: «تسألني: وماذا نحن صانعون بآدابنا وفنوننا ومعارفنا التقليدية كلها، والتي تحتكر عندنا اسم «الثقافة» ؟ فأجيبك بأنها مادة للتسلية في ساعات الفراغ، ولم اعد أقول ـ كما قلت مراراً مقلداً هيوم وجارياً مجراه ـ لم أعد أقول إنها خليقة بأن يقذف بها في النار، وحسبي هذا القدر من الاعتدال ابتغاء الوصل بين جديد وقديم» (?) ، وسبب تراجعه هو مصادمته ومنازعته لضرورات ومسلَّمات وخصائص الحضارة الإسلامية.

- موقف «العقل الوضعي العربي» من الوحي ومعارفه:

وفي هذه العجالة أحاول أن أبين ـ بإيجاز ـ الموقف المعرفي للعقل الوضعي العربي من الوحي ومعارفه؛ فأهم هذه المواقف للوضعيين العرب الذين أشير لهم سابقاً ما يلي:

أولاً: إنكاره للوحي باعتباره حقيقة غيبية لا يمكن التحقق منها بطريق الحواس؛ فبناءً على أصلهم الفلسفي القاضي بأن كل حقيقة موجودة لا بد أن تكون مدركة بالحواس أنكروا إمكان الوحي أصلاً، وهذا ما قرره أحد دعاة العلمانية في الوطن العربي (?) ، وهو باطل من وجهين:

الأول: زعمه أن المعرفة البشرية محصورة في المدركات الحسية وهي دعوى مجردة من البراهين.

الثاني: أن الوحي وإن كان غيباً في ذاته إلا أنه يمكن إثباته بالطرق العقلية، وقد أشرنا إليها في أول المقال.

ثانياً: تفسيرهم للإيمان بالوحي تفسير وجداني شعوري خالٍ من معنى العقل والتعقل. يقول رائد الوضعية المنطقية في الوطن العربي زكي نجيب محمود: «صاحب الرسالة الدينية لا يقول للناس: إنني أقدم لكم فكرة رأيتها ببصيرتي، بل يقول لهم: إنني أقدم رسالة أُوحِيَ بها إليَّ من عند ربي لأبلغها؛ وها هنا لا يكون مدار التسليم بالرسالة برهاناً عقلياً على صدق الفكرة ونتائجها المستدلة منها، بل يكون مدار التسليم هو تصديق صاحب الرسالة فيما يرويه وحياً من ربه؛ أي أن مدار التسليم هو الإيمان» (?) .

ولا ريب أن هذا الفهم للإيمان قائم على فكرة الانفصام المفتعل بين الوحي والعقل، وإلاَّ؛ فإن تصور إمكان تحقق الإيمان بالوحي من دون برهان عقلي وهمٌ لا حقيقة له، وهذا المعنى الميت للإيمان والذي قام على عزل الشعور عن العقل هو الرائج اليوم في أفهام كثير من الغرب والمستغربين، ويعود سبب انتشار هذا المعنى الباهت للإيمان إلى ما قام به الفيلسوف «كانت» من تقريره ـ في فلسفته النقدية ـ أن أساس الإيمان بالدين وطريق إثباته هو الأخلاق لا العقل.

ثالثاً: ادعاؤه استقلالية العقل عن الوحي وافتقار الوحي إلى العقل، وفي ذلك يقول حسن حنفي ـ وهو صاحب فكر اعتباطي وخطاب متمرد ـ: «الحجج النقلية كلها ظنية حتى ولو تضافرت وأجمعت على شيء أنه حق، لم يثبت أنه كذلك إلا بالعقل ... » (?) .

رابعاً: ادعاؤه المرجعية الحاكمة على التراث المؤسس على الوحي. يقول حسن حنفي: «مهمة التراث والتجديد التحرر من السلطة بكل أنواعها: سلطة الماضي، وسلطة الموروث؛ فلا سلطان إلا العقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه ... » (?) .

خامساً: تقريره بأن «الواقع الحسي» هو أساس المرجعية العقلية وأصل المعارف المؤسسة على الوحي، ومحمد عابد الجابري في دعوته إلى إعادة تأسيس العقل العربي انطلاقاً من الواقع الحسي والاجتماعي الغربي، يقول: «العلم لا يؤمن بمصدر آخر للعقل وقواعده غير الواقع، ومن دون شك فإن قواعد العقل إنما تجد مصدرها الأول في الحياة الاجتماعية التي تشكل أول أنواع الواقع الحي ... » (?) ؛ فمرجعية الواقع الحسي للعقل الوضعي هو ما يميزه من غيره من العقول، ولذلك فإن العقل ـ عنده ـ أداة مجرد من مبادئه الفطرية، ولذلك وصفه (الجابري) بوصف غارق في الوضعية وهو أنه «لعب حسب قواعد» (?) .

سادساً: رفضه للمنهج الاستدلالي الشرعي بدعوى عدم تجرده من الأيديولوجية ولهذا يرى الجابري أنه من غير الممكن التحرر من الأيديولوجيات في الدراسات الإنسانية، خصوصاً فيما يتعلق بالدراسات التراثية (?) ، ولكن هذه الدعوى لا رصيد لها من البراهين العلمية؛ وذلك من وجهين:

الأول: أنه بالنظر إلى علاقة الثقافة بالأيديولوجية يصعب ـ إن لم نقل يستحيل ـ انفكاك المعرفة العلمية عن دوافعها الأيديولوجية؛ ذلك لارتباط العلم بالخصائص الثقافية التي تشكله والتراث التاريخي الذي صنعه، وليس في ذلك ما يوجب رد مسائل المعرفة العلمية بذلك الزعم.

الثاني: أن المناط في رفض وقبول المسائل العلمية أياً كان نوعها هو الضوابط والقواعد العقلية المنهجية إضافة إلى الضوابط الخاصة لكل علم، ولا علاقة للأيديولوجيات بهذه الضوابط إلا إذا كانت الأيديولوجية على حساب الحقيقة العلمية وضوابطها؛ عندها يمكن تمرير الطعن في مثل هذه المسائل العلمية؛ فالطعن في التراث بمثل هذه المزاعم محاولة يائسة لإخراجه من منظومة المعرفة بكاملها، ولكن هيهات أن يؤثر هذا الطعن في مناهج تراثية قامت على الحقائق العقلية والقواطع الشرعية، وما لنا قولٌ في وصف هذه المحاولة إلا كما قالت العرب قديماً: «عُثَيْثَةٌ تقرمُ جِلداً أملَسَ» .

وفي الختام أدعو علماء الأمة ومثقفيها إلى استشعار خطورة «العقل الوضعي» على دين الأمة الإسلامية وهويتها وثقافتها، لا سيما إذا علمنا بتبني كثير من المؤسسات العلمية والثقافية لأطروحاته، بل تأخذنا الدهشة إذا علمنا أن هناك دولاً وحكومات في الوطن العربي تروِّج لهذا الفكر المتمرد على دينه وثقافته وحضارته، كما أدعو علماء الأمة ومثقفيها إلى إقامة المشاريع العلمية النقدية لنقض هذا الفكر وكشف عُواره وإبداء سوآته؛ حفظاً لعقيدة الأمة وثقافتها وهويتها من أيدي العابثين بها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015