الجبهة الشعبية
والعبث الأمريكي بالقضية الأرترية
بلال محمد
في الوقت الذي أعلنت فيه الشيوعية إفلاسها عالمياً بدأت القوى الصليبية
بإعادة ترتيب أوراقها للوثوب على مواقع التأثير، وبالذات تلك التي كانت تأمل
العثور على متنفس من خلال وجودها داخل القفص الماركسي الحديدي.
وحيث إن النظام الإثيوبي كان أحد الذين أووا إلى الكهف الشيوعي منذ
صعوده إلى سلم القيادة قرر أن يجعل من بلاده بؤرة المد الشيوعي وموطناً لنفوذها
الأمر الذي مكنه من تلقي الدعم السوفياتي بعناية فائقة للقضاء على من أسماهم
بالانفصاليين المتمردين في شمال البلاد.
وبعد أن كان الروس في سابق عهدهم ينعتون ارتباط أرتريا بإثيوبيا فدرالياً
وأنه تم برضى أحد الطرفين، دون الالتفات إلى رغبة الآخر، غيروا من سياستهم
وأبدوا صفحة الغدر فأدانوا حركة التحرر الإرترية رغم تلويحها بالشعارات
الماركسية ووصفتها (برافدا) عام 1987 بالإمبريالية التي تهدف إلى إضعاف
إثيوبيا وحرمانها من منافذ البحر الأحمر.
وقالت: إنه في هذه الظروف تورط الانفصاليون الإرتريون في لعبة يلعبها
الآخرون وإنهم يساهمون موضوعياً في تنفيذ المخططات الإمبريالية..
إلا أن فشل نظام (الدرق) الإثيوبي في سحق المقاومة الإرترية بالسلاح
الروسي أوصل السوفيات إلى قناعة تامة بأن الحسم العسكري غير ممكن لإحلال
السلام، وإن طريق السلام في إثيوبيا سيبقى مسدوداً ما لم يتم التفاوض مع القوى
الإرترية، وعليه أظهر الروس فتورهم وهبوط حماسهم ومارس جورباتشوف
ضغوطاته على منجستو للتخلي عن عنجهيته العسكرية والنزول إلى ساحة الواقع.
وفي ذات الوقت أخذ الجيش الإثيوبي يشهد موجات من التبرم من مواصلة
الحرب في إرتريا، وصار ينادي بالبحث عن بدائل أخرى لحل الأزمات الإرترية،
وتزايدت في وسطه حركات التذمر، وخلايا المعارضة السرية حتى قام في عام
1988 بمحاولة انقلاب فاشلة على منجستو.
وإثر هذه المحاولة لم يجد قائد الدرق بداً من طرح القضية الإرترية على
بساط منظمة الوحدة الإفريقية ولأول مرة في التاريخ بعد أن ظل مجرد الحديث
حولها محرماً بوضعها تحت بند عدم التدخل في الشئون الداخلية، طالب منجستو
زعماء الكتلة الإفريقية مساعدته في حل القضية الشائكة، التي استنزفت اقتصاده،
وبهذا تكون القضية الإرترية وضعت قدميها على منعطف جديد.
إلا أن الشيء الذي يستدعي وقفة تأمل هو عودة أمريكا وللمرة الثانية إلى
العبث بالقضية الإرترية لصالح القوى الصليبية العالمية، فقد أخذت أمريكا في
الآونة الأخيرة تبدي اهتماماً بالغاً بالقضية حيث أجرت عدة اتصالات ببعض الرموز
الإرترية عبر أحد رؤسائها السابقين (جيمي كارتر) ولأمر في نفسها أناطت المهمة
برجل كامب ديفيد الذي أسعف المنطقة بزياراته المتكررة ولقاءاته العديدة التي
نظمها مع العناصر الصليبية في كل من إرتريا، والسودان، وإثيوبيا.
وهكذا ظهر كارتر فجأة ليكون وسيطاً بين نظام منجستو والجبهة الشعبية
الإرترية وبالفعل تم عقد لقاء بينه وبين الأمين العام للجبهة الشعبية إسياس أفورقي
في العاصمة السودانية الخرطوم بتاريخ 19، 22 أبريل 1989 وذلك عقب عودته
من أديس أبابا عاصمة إثيوبيا.
وبهذه السرعة انقلبت أمريكا رأساً على عقب من قمة جفائها وغلظة عدائها
للشعب الإرتري وبعد أن جعلت في أذنها وقراً عن سماع مطالبه منذ اندلاع ثورته
إلى وسيط يؤرقه مآسيه ويسعده إسداء المعروف إليه.
كما أن الجبهة الشعبية الإرترية التي عودتنا التنديد بمواقف الولايات المتحدة
وسائر القوى الإمبريالية من القضية الإرترية أصبح الوجه الأمريكي منذ حلول
الثمانينات من أحب الوجوه إليها فأخذت تتبنى مواقف سياسية مباينة بنهجها
الماركسي وهذا لا يعني إلا أن العناية الأمريكية وبعد دقة ودراسة متأنية طبعاً وقع
اختيارها بالدرجة الأولى على الجبهة الشعبية الإرترية فمنحتها المباركة الرسمية
لتلج مؤسساتها السياسية، ومن ثم سهل على قيادة الجبهة الشعبية التردد بين الحين
والآخر على الولايات المتحدة للتعبير من خلال منابرها السياسية عن آراء تنظيمها
وتوجهه الجديد.
وباتت اللقاءات التي تعقدها قيادة التنظيم تحظى بقدر كبير من اهتمام
المسئولين الأمريكان وتشهد حضورهم ومتابعتهم، ففي ظل رعاية أعضاء من
وزارتي الخارجية والدفاع بالإضافة إلى عدد من السفراء والصحفيين والكتاب
وأعضاء المؤسسات الأمريكية الكبرى عقد الأمين العام إسياس أفورقي لقاء في 3
مايو 1989 بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن، ومُكن في مدينة
سان فرنسيسكو من اللقاء بمنظمة (نادي كومنولث) حيث خاطب ما يربو على
مائتين وخمسين شخصاً بمقر النادي ونقل حديثه هذا عبر موجات الأثير إلى كل
أنحاء مدينة سان فرنسيسكو وضواحيها وعكست صداه أكثر من مائتين وتسع
وسبعين محطة إذاعية في الولايات المتحد ة [1] .
وأخيراً كلل هذا النشاط بلقاء أتلانتا [2] التمهيدي بولاية جورجيا بين وفد
الجبهة الشعبية برئاسة الأمين محمد سعيد، والوفد الإثيوبي برئاسة (أشاقري) والذي تمخض عنه لقاء نيروبي [3] وهو اللقاء الذي تم فيه الاتفاق على اختيار
نيريري رئيس تنزانيا السابق نائباً للرئيس الأمريكي جيمي كارتر في الإشراف على
سير المفاوضات.
ولكن السؤال الجدير بالطرح هنا: لماذا كانت الجبهة الشعبية هي الفصيل
الذي وقع عليه اختيار الإدارة الأمريكية دون غيره؟ .
فيما أحسب ليس لدي كثير من الإرتريين والمهتمين بأوضاع الساحة الإرترية
جواب أكثر من أن يقال: إن الثقل العسكري الذي تمثله الجبهة الشعبية في الساحة
الإرترية أهّلها لأن تتبوأ مكانها المناسب في قضية السلام الأمريكى، وهذه الرؤية
وإن كانت تمثل جزءاً من الحقيقة فإنها ليست كل الحقيقة، وحتى هذه الجزئية منها
ما كان لها أن تكون إلا بعد أن رأت القوى الصليبية العالمية أن تجعل من الجبهة
الشعبية الفصيل الذي لا منافس له، وذلك بالدعم الإعلامي والعسكري الذي أغرقت
به ساحة التنظيم [4] ، وحين انفرد لها بالساحة وخلا بها وحيداً أتته مهرولة تتكئ
عليه في تنفيذ مخططها الرامي إلى بسط الهيمنة الصليبية في البحر الأحمر، فهي
تدرك تماماً أهمية موقع إرتريا الذي يطل على قاعدة عريضة من البحر الأحمر،
ومن ثم رأت ضرورة إيجاد حليف لها يؤمن مصالحها ويتحرك وفق وحيها لا سيما
وأن المنطقة تشهد تمدداً إسلامياً، وحيث إن الهيمنة الإسلامية على إرتريا تؤكد
هوية البحر الأحمر وانتماءه الإسلامي فإن القوى الصليبية ممثلة في الولايات
المتحدة وحلفائها لن تتوانى في إقصائه عن السيطرة الإسلامية.
ولهذا كانت الجبهة الشعبية الإرترية هي اليد التي ارتضت (السي آي إيه)
مصافحتها والعمل على وضع القضية الإرترية بين فكيها، فمنذ وقت مبكر كانت
وكالة الاستخبارات الأمريكية قد زرعت رجالها في قلب الثورة الإرترية عبر
قاعدتها (قانيو ستيشن) [5] في أسمرا، وظلت تتفقد النبتة بالسقاية والحماية حتى
أينع ثمرها، وحان وقت قطافها.
وهكذا انتقلت قضية شعب مسلم إلى إدارة صليبية تتدحرج بين أقدام الثالوث
الصليبي إسياس أفورقي، وكارتر، ونيريري الذي سجل أبشع تاريخ في التنكيل
بالمسلمين العرب في زنجبار.
وكانت أمريكا على يقين من الوصول إلى هذه النتيجة وجني هذه الثمار من
خلال مراقبتها للصراعات الدائرة في القرن الأفريقي، فما انزعجت أصلاً من
التدخل الروسي في القرن الأفريقي لأنها أيقنت بأن الاتحاد السوفياتي سوف يجد
نفسه غارقاً في مشاكل لا طاقة له بها وأنه سيفشل وسيفقد موقعه في إثيوبيا كما فقده
من قبل في مصر والسودان والصومال.
ومن هنا ظلت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس كارتر تحافظ على علاقتها
بإثيوبيا وتمد نظام (الدرق) بمساعدات عسكرية حتى عام 1977 وحتى إلى ما بعد
77 بقيت العلاقات الاقتصادية بين إثيوبيا والولايات المتحدة قائمة.
وكان من حرص الإدارة الأمريكية على مصالحها في المنطقة، أن أسندت إلى
كارتر مسئولية تأكيد السيطرة الصليبية على البحر الأحمر، ومن هنا رغم إدراكها
بقصور الجبهة الشعبية وعجزها عن تمثيل الشعب الإرتري كله لما تعانيه من عزلة
جماهيرية وقع اختيارها عليها، ومحال أن يكون هذا الاختيار وليد الصدفة ومحض
العفوية بل كان لأمر قد قدر في دهاليز الاستخبارات الأمريكية، وسوف تنجاب عنا
كل غشاوة من شأنها أن تحول دون هذه الرؤية الصحيحة السليمة إذا ما استحضرنا
بيان الخارجية الأمريكية الذي صدر في 11 حزيران يونيو 1977 والذي قال فيه
كارتر نفسه: (إني ميال إلى أن أتحدى بقوة وبطريقة سلمية الاتحاد السوفياتي وآخرين من أجل النفوذ في مناطق العالم التي نشعر أنها أساسية بالنسبة لنا الآن أو أنها قد تصبح كذلك خلال خمسة عشر سنة أو عشرين سنة من الآن) .
إن هذا التحدي كفيل بأن يفسر لنا الغاية التي يهدف إليها تحرك كارتر وإنه
ليس قائماً في وجه السوفيات فحسب، وإنما يتخطاهم إلى غيرهم. ومن ثم إن
عبارة (وآخرين) هي جماع كل قوة تسول لها نفسها مزاحمة الأمريكان في مناطق
النفوذ التي قد تصبح ولو بعد عشرين سنة هامة بالنسبة للأمريكان.
واقتضت الخطة الأمريكية حالياً قص أجنحة التنظيمات الأخرى وتقليم
أظافرها فأغرت حليفها بتصفية كل القوى الإرترية المنافسة والتي تحاول الاقتراب
من الساحة فكان لها ما رأت وأرادت [6] ...
بقي أن ندرك حقيقة أخرى من وهي: إذا كانت الجبهة الشعبية هي الفصيل
الجدير باقتفاء أثر كارتر والسير على خطاه، فإن التنظيمات الأخرى جديرة أيضاً
بأن تلعب الولايات المتحدة الآن على حبالها حسب الحاجة، كما أن إثيوبيا ذاتها
رسم لها أن تستغل نفور الشعب ومعارضته للجبهة الشعبية بإيجاد شرائح من
صنائعها فاستطاعت أن توجد عدداً من رجال الطرب واللهو وطائشي الرأي أطلقت
عليهم ممثلي المنخفضات [7] واستدعت نفراً إلى كينيا لتراهن بهم على أطروحتها
وتوقع الجبهة الشعبية في مأزق حرج.
وأياً كانت الأسباب التي دفعت هذه العناصر إلى الارتماء في أحضان
المخابرات الإثيوبية فإن الأطروحات التي يتبنونها لا تمثل إلا سطراً على حقائق
التاريخ، فما كانت إرتريا يوماً من الأيام جزءاً لا يتجزأ من إثيوبيا، ولم تكن
الثورة الإرترية وليدة اضطهاد وقع وزال كما يحلو لهؤلاء الاستسلاميين أن يروجوا.
إن بروز هذه الفئة تزامن مع ظهور حركة الجهاد الإسلامي الإرترية وهذا
يوحي إلى أنه يمكن أن يستخدموا كأداة للشعب تكفه عن الالتحاق بالحركة، وذلك
أن غياب الفكر الإسلامي عن الثورة الإرترية في فجر نشوئها إذا كان من أهم
العوامل الأساسية في تحويل مسارها والتلاعب بها تارة من قوى اليسار، وأخرى
من قوى اليمين فإن وجوده الآن ممثلاً في حركة الجهاد الإسلامي الإرترية يجعل من
الصعوبة بمكان استقطاب العنصر المسلم الثائر الواعي لإسلامه والتلاعب بعواطفه. ولا يتأتى هذا في نظرهم إلا حين توضع أمامه هذه الدمى المعممة والتي تحرك
وفق الإرادة الإثيوبية وحلفائها اليهود.
والخلاصة إن منطقة القرن الأفريقي مقبلة على أمر يتعارض مع هويتها
الإسلامية، وإن عودة الولايات المتحدة إلى القضية الإرترية لا يرمي إلا إلى
تطويق الصحوة الإسلامية وإخماد جذوتها المتقدة - لا قدر الله -عبر تمكين عناصر
صليبية إرترية من التحكم بزمام القضية، وكذلك العمل على امتصاص الشعور
الإسلامي المتنامي في أوساط الارتريين بدفع بقية التنظيمات العلمانية التي يتربع
على عرشها أناس لا يحملون من الإسلام إلا اسمه إلى مائدة التفاوض مع إثيوبيا.