-1-
د. مصطفى السيد
ما كنت أحسب -وأنا أضع عصا الترحال- في رحلة من مواسم الهجرة
نحو الخليج، في مطالع التسعينيات من القرن الرابع عشر الهجري ما كنت أحسب
أني سأستقر مجاوراً لمرابع (تميم) وفي مدينة من مدن القصيم [1] ، وما دار بخلدي
أن للتاريخ حضورًا في (نجد) يتجاوز الكتب الراقدة فوق رفوف المكتبات، أو
المحفوظات الرسمية في صدور الرجال.
إن هذا الجحود لعبقرية المكان وما أكنَّته (الكثبان) كأنه أمر متوارث، وكأن
الأدباء تواصوا به، فاضطربت أقوالهم في مواطن الأيام ومواضع الوديان وأماكن
المياه في مهبط إلهام الشعر العربي في (نجد) فتقاذفوا وديانها بين جنوب وشمال،
ويمان وشآم.
إن (عزرا باوند) [2] (1885-1972) قد ذرع بحر (إيجه) جيئة وذهاباً،
ويستلهم كل حجر ومدر ويستنطق كل واد وجبل عن أخبار القوم في الإغريق،
ولقيت اليونان من عشاق حضارتها ما لم تبلغ نجد مده ولا نصيفه.
نجد في الأدب العربي معادل موضوعي لليونان في الآداب الغربية فهي خزانة
الأدب وعتائد [3] الهوى، استضاءت بنور الوحي، ثم كبت كبوة كأداء - الردة -
ثم وثبت تختزن في وعيها دواوين الفصاحة وتراث الأيام، فلم تهن اللغة ولم يغب
الشعر، بل أطل جذعاً فوق منابر الشام والعراقين وخراسان ومصر، مفعماً بالقوة
مترعاً بالمروءة، لم تزور عنه (حداثة) قصور الشام، ولم تقصه بلاد الرافدين فلم
يلق جحوداً ولا كنوداً كالذي يقنّع به الآن.
-2-
قاتل الله شيطان الشعر، فقد استهدفت بحديثي أرض تميم، وما رميت إلى
استنطاق كل حجر ومدر في نجد، فلذلك الأمر أهله، لقد أوسعتني النوى شسوعاً،
وقذفت بي المطامع لأفتح عيني حين أفتحها في قلب نجد، دار الزمان دورته،
وعادت نجد مهجراً ومهاجراً، تؤمها رحلة الشتاء والصيف.
من القاهرة وبيروت إلى (هجرة) [4] تمثلت في بضعة بيوت، إنها مأساة،
فزعت منها إلى مملكة الخيال لأجبه جحافل الواقع، لقد أسبلت عيناي معاً، وتلفت
القلب إلى قريتي في البقاع والأشجار التي اصطفت على مداخلها كأنها حرس شرف.
كيف الشجيرات التي على طريق البلد؟
طويلة أم انحنت حزينة في كمد؟
تزورها بلابل من الشمال تغتدي
أم أنها عارية الأعراف في توجد؟
أية عبقرية للشاعر الجاهلي التي جعلته يتجاوز الفناء المفروض على الأرض
إلى البناء الذي أقامه في عالم الكلمة، لقد وجد في (أبيات) القصيدة عوضاً عن
(الأبيات) التي جدت يد الفناء في هدمها، حتى باتت مسكونة بعويل الريح،
مقطونة برماد التذكر، ليت نقادنا يخبروننا عن الوشائج بين بيت الشِّعر وبيت
الشَّعر، الذي لم تطق ميسون بنت بحدل الكلبية أن تغادره عندما انطلقت بهذا
الحوار الداخلي:
لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلي من قصر منيف
كل هذا الحوار يقول إن الوطن ليس شملة يسهل خلعها كما لا يصعب ارتداء
غيرها.
في تلك (الهجرة) قرأت كتاباً لحسن عبد الله القرشي عن عنترة لأقف من
خلاله على المعالم الخفية للمكان، لم يكن ذاك اختياراً، بل كان الكتاب الوحيد
الموجود في مكتبة المدرسة عن الأدب الجاهلي، ولكن لحسن الحظ فإن (نجد آل
الشيخ) قد استهوتني أكثر من نجد الجاهلية، لقد لفت نظري تغلغل فكر الشيخ محمد
بن عبد الوهاب وحضوره على كافة المستويات العوام والمتعلمين، ولا تكاد تجد لهم
ثقافة غيره في مكتبة مطوع الهجرة، وجدت فيها طائفة صالحة من الكتب: زاد
المعاد، البداية والنهاية، كتب آل الشيخ، ارتحلت بخيالي إلى بلدي لأقارن بين
مكتبة إمام المسجد في هذه القرية ومثيلاتها عندنا حيث تجد غالباً (مولد العروس)
و (دلائل الخيرات) وكتب تفسير الأحلام، وبقية المخدرات الفكرية من مصنفات أهل
التصوف.
-3-
كنت ملول الطبع ولا سيما إذا أكرهت على جُلاس لا يفيدون علماً، ولا
ينشرون من التاريخ عبراً، هذه النماذج البشرية التي لا نجد في كلماتها إلا لكمات
للحياة الجادة، يجرجر أحدهم عمره في سوح العجز، يموت أسى، ويقضي كمداً
إن خسر بضع دريهمات في صفقة عقدها، أو وقعة اقتصادية شهدها، ولكن خسارة
عمره لم ترفع منه رأساً، ولم تعل صوتاً، وأنى يرفع رأسه وهو لم يتعهد إلا فراغ
جيوبه، ولم يدر بخلده أن في رأسه، بل في قلبه أوعية بملئها يتميز البشر
ويتفاضل الخلق، لأشد ما تألمت على هؤلاء الذين يصرفون أعمارهم في هروب
منظم، ولا تبخل عليهم ذاكرة العجز باسم مهذب لهذا الفرار، وما أكثر الأسماء
(المرفوعة) والمسميا ت (المخفوضة) .
ومن فضل الله علي أن انتقلت بعد تلك القرية (التي ليس بها أنيس إلا اليعافير
وإلا العيس) إلى ماء لتميم، إلى وادي الرس، فأرشفنا على ظمأ زلالاً، أسرتني
حلاوة ذاك الماء، وكثيراً ما استحضرت وفاء السموأل واسترجعت كرم حاتم، بل
إن صاحب الماء تجاوز بسمو الإسلام وشعب الإيمان هذه الرموز الجاهلية، وصدق
رسول الله-صلى الله عليه وسلم- القائل: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام
إذا فقهوا) ، ولم يكن الماء التميمي في جو نجد اللاهب يزيل جفاف الفم فحسب بل
يزيل أيضاً جفاء القلب، وما أن تضيء أنوار الحديث حتى أشعر أننا في غير
زماننا وخارج مكاننا نستفتي ابن منظور، ونراجع (المغني) ولا يحسم الجدل إلا
(بالفتاوى) ولا نغيب عن العصر أو يغيب عنا وحول الماء الندي والخلق تمثل بفتية
أقصوا الدنيا وإن لم تقصهم، وفارقوها وإن لم تبرح لهم مغازلة وإليهم متشوفة.
-4-
كان صاحب الماء يطربه الحديث، ويعجبه هذا المعرض التاريخي الدائم،
قناة للتواصل، يسع مرتادي هذا الماء بحلمه ويغضي عن بعض التجاوزات
بابتسامة طبعت على شفتيه، وكان الطعام والإكرام أقل ما يجده الناس في هذا
المورد التميمي، وإذا ذكر أحد الحاضرين حاجة إلى مال أو افتقار إلى جاه - أسر
صاحب الماء ذلك في نفسه ولم يبده - ليندفع بعد ذلك بسرور غامر يسد الخلة
ويستشفع لأصحاب الحاجات.
لقد تواضع شيخ تميم، الأحنف بن قيس واصفاً نفسه بالتحالم ليقر لقيس بن
عاصم بالحلم ولم أر في صاحبنا التميمي - على ما فيه من الشمائل - أظهر من
التواضع وحرصاً نادراً على كتمان معروفه وإظهاره عيوب نفسه، وما إن يسمع
من أحد المختلفين إلى مجلسه، حديثاً عن مسلم يخرج بماله أو نفسه ثم لا يعود
بشيء من ذلك إلا وتجده يغالب دموعه متسائلاً عن مدى استحقاقنا لهوية الإنسان بله
الإسلام، ثم يردد (الله يرحم الحال) .
ولئن فارقنا هذا الماء فهو لم يفارقنا، وعندما يرتد البصر حسيراً، يتلفت
القلب، ويسعف العقل باستحضار شريط الأطلال ليبدأ الحوار الداخلي إذا تعذر
الحديث الخارجي.
-5-
لم تكن هذه الكلمات انعكاساً لكل ما انطبع على صفحات المرايا النفسية، بل
هي بعض الوفاء وأنى لمثلي أن يؤدي حقاً لأقوام درست في (مجالسهم) أبجدية
(الفلاح) ، وكان ممن حملت معي بعد النأي والبعد صوتاً قرآنياً يتغنى بالمصحف
ويحبر الآي تحبيراً.
ومن تمام الرواية، أن رواد الماء التميمي لم يتفرقوا قبل تلاوة كفارة المجلس.
«سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» .
ما أجمل الصحراء التي تمضي فيها القوافل
وتتلى الصلوات، وتساق المحامل،
فاسجد على رمالها المحرقة
واحرق الجبين حتى يبقى عليه الأثر.
محمد إقبال