عبد الله بن نافع الدعجاني
ما زالت الأمة الإسلامية تعاني تراجعاً حضارياً ونكوصاً فكرياً بَالغَيْن، مما تسبب في انحسار مد حضارتها، وضعف سياستها، وتمزق جماعاتها وتربُّص أعدائها بها.
ومن أعظم أسباب هذا التراجع وذلك النكوص قيامُ المتعالمين الجهلة والمتطببين المتهورين بزرع أنسجة قذرة في فكر الأمة وثقافتها، أنسجة أجنبية عن جسد الأمة ونافرة عن روحها. ومن عجائب أمر هؤلاء المتطببين والمتعالمين الأدعياء إصرارهم ـ مع طول عمر الأمة ـ على حقنها في غالب مراحل حياتها بتلك الأنسجة الفاسدة، مما زاد في نموها وترعرعها حتى كادت أن تغدو خلايا وأوراماً سرطانية، تعبث بحياة الأمة الفكرية وثقافتها، ولكن الله لطيف بعباده.
إن تلك الأنسجة الفاسدة ما هي إلا تلك المناهج الفكرية المنكرة القديمة والمعاصرة، التي تسعى جاهدة ـ عبثاً ـ في التوفيق بين دين الأمة وهويتها وخصوصيتها وبين ما يناقض دينها ويصادم هويتها وينتهك خصوصيتها؛ إذ لما تعذر على أولئك مطلبهم وعز عليهم مرامهم بالنيل من الإسلام ـ لأنه بعيد المرام أبيُّ الزمام منيع الجانب صعب المراس ـ انثنوا لعطفهم ولوَّوا رؤوسهم إلى حيلة التوفيق اليائسة؛ لكن هيهات هيهات، فلكأنهم يريدون بذلك أن يوفقوا بين الظلام وبدر الدجى، أو يجمعوا بين الخنفساء وقطر الندى، أو يلفقوا بين الخنزير وشمس الضحى، وصدق المثل القائل «ما يجمع بين الأروى والنعام؟» .
فقد أخفقت تلك المناهج الدخيلة ـ وبحمد الله ـ في مغزاها، وخابت في مرادها، لأنها سألت مستحيلاً فحُرمت، وطلبت ممتنعاً فمُنعت، إذ بمحاولتها الجمع بين المتناقضين والضم بين الضدين صادمت العقول البشرية وصادرت المبادئ الضرورية الأولية؛ وإلا فكيف يلتقي السكون والحركة؟ أم كيف يستوي النور والظلمة؟ أم كيف يتجانس الإسلام بالكفر؟ يقول الأستاذ (صاحب الظلال) ـ رحمه الله ـ عن منهج الإسلام ومنهج الكفر: «.. لا يمكن التعايش بين منهجين للحياة بينهما هذا الاختلاف الجذري العميق البعيد المدى الشامل لكل جزئية من جزئيات الاعتقاد والتصور والخلق والسلوك، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ـ والإنساني ـ وهو الاختلاف الذي لابد أن ينشأ من اختلاف الاعتقاد والتصور» (?) .
ولا غرو فإن الله ـ تعالى ـ فضح أسلاف دعاة هذه المناهج المشبوهة وهتك سترهم بقوله: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 150 - 151] .
وحسبك أن تكون هذه التوفيقية المتلونة منهج الكافرين حقاً؛ لأنها مناهج لا تُعْرفُ مواردها، ولا تبين مصادرها ولا يهتدى لمسالكها، ولا يتخلص من مهالكها؛ فطريقها مظلم وبابها مبهم ودليلها أبكم، ليس في نتائجها ما يستحسن إلا كما قال العرب قديماً: (كُسيرٌ وعُويرٌ وكل غير خير) ؛ إذ لا تنتج إلا التناقض والاضطراب والحيرة والارتباك، وهذه ـ لعمر الله ـ ثمرات الكفر بالله والإشراك.
- الجذور التاريخية للمناهج التوفيقية:
ومما يؤسف له أن لهذه المناهج الدخيلة جذوراً غليظة، غاص في جوف الحضارة جذمُها، واشتد في ثرى الثقافة عرقُها، وقد تمثلت تلك الجذور في دعوات ومناهج تنادي بالتوفيق بين الشريعة الغراء والمناهج الفلسفية النكراء؛ وذلك في خلال مراحل عمر الأمة منذ أن عُرِّبت الفلسفة اليونانية.
وأبرز المحاولات التوفيقية التي تمثل الجذور التاريخية للمناهج التوفيقية المعاصرة مشروعان:
الأول: ما قام به «الكندي» و «الفارابي» و «ابن سينا» غير أن أخطر من دعا لهذا المنهج وقعّد له ونظّر هو «ابن رشد» ، فقد أفرد لهذا المشروع كتاباً وسمه بـ «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» ، وقد انتهى فيه إلى نتائج ماحقة للحقيقة الشرعية، ومن أبرزها:
1 ـ تفسير الحقائق الدينية بالآراء الفلسفية.
2 ـ التأول الباطن للحقائق الدينية بما يتفق مع الآراء الفلسفية.
وقد بنى منهجه التوفيقي على نظرية الطبقات؛ إذ قسم الناس تجاه الأدلة الشرعية إلى خاصة وهم أهل البرهان أي الفلاسفة، وعامة وهم ما عدا الفلاسفة ولكل أن يأخذ من الأدلة الشرعية بما يناسب حاله؛ فالفلاسفة لهم الباطن، والعامة لهم الظاهر، ولكن آراءهم ـ وإن تناقضت في الظاهر ـ فهي متوافقة في الباطن!! (?) .
وقد تصدى لهذه المشاريع المغرضة علماء الشريعة وحفاظها ومن أبرزهم شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد كشف عوارها وأبدى تناقضها في مواضع من كتبه أبرزها كتابه الموسوم بـ «السبعينية» (?) .
الثاني: ما قام به لفيف من الزنادقة الباطنية فيما يسمى بـ «رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا» حاولوا فيها وضع رؤية جديدة ملفقة من تصور الشريعة السماوية المطهرة ومن رؤية الفلسفات الوضعية والدينية المحرفة، قاصدين بذلك مزاحمة الشريعة الإسلامية النقية واستبدالها بها.
وقد انطوت تلك الرؤية الفلسفية الجديدة على تناقضات شرعية ومصادمات لضرورات الشرع والواقع؛ وذلك من خلال المنهج التوفيقي؛ ولا أدل على ذلك من قولهم في رسائلهم:
«الرجل الكامل يكون فارسي النسب، عربي الدين، عراقي الأدب، عبراني المخبر، مسيحي النهج، شامي النسك، يوناني العلم، هندي البصيرة، صوفي السيرة، ملكي الأخلاق» (?) .
وقد كشف العلماء زيف تلك الرسائل وأظهروا عوارها. ومن تلك الكلمات المأثورة في نقدها قول الذهبي: «هي داء عضال وجرب مُرْدٍ، وسُم قاتل» (?) ، وما أجمل ما نقله أبو حيان التوحيدي عن شيخه أبي سليمان المنطقي السجستاني؛ إذ قال ناقداً لأصحاب هذه الرسائل المشؤومة: «تعبوا وما أغنوا، ونصَبوا وما أجدوا، وحاموا وما وردوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا ... حصلوا على لوثات قبيحة، ولطخات فاضحة، وألقاب موحشة، وعواقب مخزية، وأوزار مثقلة» (?) .
- إخوان الصفا الجدد:
وما زالت تلك المناهج المشبوهة تتابع وتتجدد حتى أصبحت لنا محنة ثقافية ننتظر زوالها، وغمّة فكرية منهجية نتأهب لكشفها؛ فقد ابتلي حاضر العالم الإسلامي بـ (إخوان الصفا) الجدد، وبمناهجهم ومشاريعهم التوفيقية المعاصرة، التي جاءت لتشيد ما أسسه «ابن رشد» ولتثمر ما غرسه «إخوان الصفا» ، يقود دفة هذه المشاريع والمناهج التوفيقية تيار عريض وُسِمَ في أوساط الثقافة العربية بـ «العصرانيين» وهم وإن نطقوا بنغمة أسلافهم ووافقوهم في أصل منهاجهم إلا أنهم كانوا طرائق قدداً؛ فمنهم المسلمون القاسطون، ومنهم العلمانيون الحداثيون، ومنهم أهل الأهواء العقليون، ومنهم دون ذلك، لكنهم متفقون على مبدأ واحد يمثل محور مشاريعهم التوفيقية وهو محاولة التوفيق بين الدين الإسلامي والفكر الغربي.
ومن أبرز مشاريعهم التوفيقية الخطرة على ثقافة الأمة وفكرها وهويتها ثلاثة مشاريع:
الأول: محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والمبادئ العلمانية:
ومع إيماننا بأن الشريعة الإسلامية والعلمانية نقيضان من حيث المبدأ والتصورات، ومن جهة الجوهر والمظهر، إلا أن «إخوان الصفا الجدد» ـ لما ثقلت عليهم وطأة الشريعة ـ أرادوا أن يركبوا كل صعب وذلول لمحاولة عسف مبادئ الإسلام لتوافق دينهم الجديد «العلمانية» فصادموا بذلك المبادئ العقلية وصادروا الضرورات الشرعية.
وما أكثر ضجيجهم ومزاعمهم حول تقرير هذا المشروع؛ إذ قد تنوع إصدارهم الثقافي في نصرتهم لهذا المشروع ما بين عمل فني درامي، وعقد مؤتمرات وندوات، إلى تأليف كتاب تأصيلي. ومع تنوع الصور التي يعرضونها في سبل تعزيز هذا المشروع ما بين التصريح والتلميح إلا أنه تجمعهم حقيقة واحدة وهي تصورهم الكهنوتي للدين الإسلامي.
ومن أول وأخطر ما كتب في هذا الصدد كتاب «الإسلام وأصول الحكم» (?) لعلي عبد الرازق؛ وذلك في عام 1925م؛ فقد انطلق لعرض مشروعه التوفيقي من النظرة الكنسية للحكم والولاية؛ وفي ذلك يقول: «ولقد كان عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ رسول الدعوة المسيحية وزعيم المسيحيين، وكان مع هذا يدعو إلى الإذعان لقيصر ويؤمن بسلطانه، وهو الذي أرسل بين أتباعه تلك الكلمة البالغة: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» (?) ، ثم حاول المؤلف أن يقيس مفهوم الإسلام للحكم والحكومة على مفهوم الكنيسة؛ فيقول: «لم يبق أمامك ـ بعد الذي سبق ـ إلا مذهب واحد؛ ذلك أن محمداً -صلى الله عليه وسلم - ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك ولا حكومة، وأنه -صلى الله عليه وسلم - لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يفهم «سياسة» من هذه الكلمة ومرادفاتها» (?) .
ويرى أن ما جرى زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم - من مظاهر الحكم، إنما هو من قبيل «الزعامة النبوية» على عهده. وهذا الوصف أعني به «الزعامة النبوية» وصف مستحدث مبتدَع لا سيما إذا تضمن سُمّاً ناقعاً ومعنى منكراً كما يريده «إخوان الصفا الجدد» ، ولذلك يقول علي عبد الرازق في تفسيره لهذا الوصف: «تلك زعامة كانت لمحمد بن عبد الله، فهي ليست لشخصه ولا نسبه؛ ولكن لأنه رسول الله ... فإذا ما لحق ـ عليه السلام ـ بالملأ الأعلى لم يكن لأحد أن يقوم من بعده ذلك المقام الديني» (?) يريد بذلك أن تكون الأحكام الشرعية خاصة بزمن الرسول -صلى الله عليه وسلم - ومتعلقة بوصفه نبياً؛ وإذ قد مات النبي -صلى الله عليه وسلم - فالأحكام الشرعية غير ملزمة من بعده، وهو بهذا التقرير يخدم هدفه الرئيس ألا وهو فصل الدين عن الدولة.
وقد استلزم في سبيل تحقيق هذا الهدف لوازم باطلة، وصادم ضرورات شرعية، وناقض مبادئ عقلية أولية، وليس هذا مقام الكشف عنها. غير أن (الدكتور محمد البهي) تعرض له ناقداً ومحللاً ومعلقاً في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» .
الثاني: محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والماركسية اليسارية:
ومن تلك المشاريع التوفيقية المعاصرة محاولة إنتاج نظام اجتماعي واقتصادي جديد يسمونه بـ «اليسار الإسلامي» وذلك بالتوفيق بين الإسلام والماركسية، يراد من هذا المولود المشوه المعاق أن يتبنى قضايا الثورة والاشتراكية والعدل الاجتماعي وغيرها من القضايا.
و «إخوان الصفا الجدد» دعاة هذا المشروع ـ لما انفض الناس عن دعوتهم الاشتراكية ونفر المسلمون من مبادئهم اليسارية ـ لجؤوا إلى حيلة التوفيق أسوة بأسلافهم من الفلاسفة والزنادقة، فألبسوا الاشتراكية الحمراء ثوباً شفافاً من الإسلام، وفصَّلوا على اليسارية النكراء قميصاً ممزقاً من الشريعة الغراء.
وقد حمل راية هذا المشروع لفيف من العصرانيين أمثال (فتحي عثمان) و (سيف الإسلام محمد) و (محمد عابد الجابري) غير أن من تولى كبره في النهوض بهذا هو (حسن حنفي) إذ قد أصدر في سبيل هذا المشروع مجلة وسمها بـ «مجلة اليسار الإسلامي» .
وهم في مشروعهم هذا يحاولون الجمع بين التيارات المتناقضة في عباءة اليسار الإسلامي؛ وفي ذلك يقول حسن حنفي: «ولا يرى اليسار الإسلامي أي حرج في أن يعتبر نفسه إسلامياً أو عربياً أو عالمياً أو قومياً دينياً أم علمانياً ... كل ذلك من أجل تجاوز التناقضات ووحدة الأهداف وتكامل الأبعاد بعيداً عن الصراعات» (?) .
وقارن ـ أخي القارئ ـ بين ما قرره حسن حنفي هنا وبين ما نقل سابقاً عن أسلافه «إخوان الصفا» في قولهم: «الرجل الكامل يكون فارسي النسب، عربي الدين، عراقي الأدب، عبراني المخبر، مسيحي النهج ... » فإنك حتماً ستجد رحماً فكرياً ووشاجاً ثقافياً بين (إخوان الصفاء القدماء) و (إخوان الصفاء الجدد) ، لا سيما إذا أدركت مدى اهتمام (إخوان الصفا الجدد) برسائل أسلافهم (إخوان الصفا القدماء) ، إذ كان على رأس المهتمين بتراث زندقتهم زعيم إخوان الصفا الجدد طه حسين.
غير أن «إخوان الصفا الجدد» بلغوا من الجرأة والطيش مبلغاً عظيماً حينما يجاهرون بإلحادهم وزندقتهم؛ من ذلك دعوة (حسن حنفي) إلى تجديد اللغة والمصطلحات، إذ يرى أن اللغة التقليدية في التراث الإسلامي قاصرة عن الدقة والوضوح مما يوجب استبدال المصطلحات الماركسية الحية بها، ويجعل على رأس عيوب اللغة التقليدية التي لا بد من محاربتها أنها لغة إلهية تدور ألفاظها حول الله ... بل يرى أن لفظ «الله» لا يعبر عن معنى معين، بل هو «صرخة وجودية» فلفظ «الله» عند الجائع تعني الرغيف، وعند المستعبد تعني الحرية، وعند المظلوم تعني العدل؛ أي أن هذا اللفظ في معظم حالاته «صرخة المضطهدين» ثم يصرح قائلاً: «لا يمكن إيصال أي معنى بلفظ «الله» لأن الله حوى كثرة من المعاني لدرجة أنه يدل على معانٍ متعارضة» (?) . سبحانك هذا بهتان عظيم.
وقد ناقش هذا المشروع التوفيقي بعض الكتاب الإسلاميين منهم (الأستاذ محسن الميلي) في كتابه (ظاهرة اليسار الإسلامي) بيَّن فيه جذور هذا المشروع ودوافعه وأهدافه وخصائصه.
الثالث: محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية عقيدة ومنهجاً والديمقراطية الغربية فلسفة:
ومن أعظم الفتن انتشاراً، وأشدها هيجاناً مفاهيم وفلسفة الديمقراطية الغربية؛ فما من ناحية إلا أثير فيها نقعها وما من صقع إلا استفتح فيها بابها حتى نفشت في المجتمعات سوامها، وفشت في العقول سمامها.
ولما كاد أن يخطف بريق بهرجها عيون المفتونين بها وأوشكت خضرة زخرفها أن تسلب عقول المشدوهين لها أرادوا التوفيق بينها وبين دين أمتهم وثقافتها وفكرها؛ لكن كيف يكون توفيقاً؛ وعقيدة الإسلام وشريعته تناقض الديمقراطية الغربية في المبادئ والتصورات؟ ذلك لأن الديمقراطية نظام يحمل بُعداً عَقَدياً ونظرة «أيديولوجية فكروية» حول الكون والحياة والإنسان تخالف المفاهيم الإسلامية حول تلك القضايا مخالفة جذرية، فـ «الديمقراطية» نظام بني على مفهوم فلسفي أيديولوجي فكروي لا كما يظنه بعض دعاتها الإسلاميين من أنها نظام إجرائي تطبيقي مجرد على فلسفته وفكره؛ وهذا فهم ساذج سطحي للنظام الديمقراطي، وهذا الفهم القاصر للديمقراطية هو ما يفسر تبني بعض الجماعات الإسلامية وبعض رموز الدعوة التوفيق بين الشريعة المطهرة والديمقراطية الغربية وهذا مما يؤسف له (?) .
ومن أعظم البراهين على مخالفة الديمقراطية الغربية الشريعةَ الإسلامية مخالفة جذرية هو نظرة كل منهما إلى مرجعية الأحكام الدنيوية والدينية؛ فالإسلام يجعل المرجعية في ذلك إلى الوحيين: الكتاب والسنة وما يتفرع عنهما. والديمقراطية تجعل المرجعية في ذلك إلى الشعب، ولا أدل على ذلك من اشتقاق كلمة «الديمقراطية» ، إذ هي مشتقة من كلمتين يونانيتين (عز وجلemos) تعني الشعب، و (Kratos) تعني «سلطة» وهاتان الكلمتان تعني «سلطة الشعب» (?) .
بمعنى آخر: أن المعبود في الإسلام هو الله، والمعبود في الديمقراطية هو الشعب، وإن المبدأ العقدي للإسلام هو التوحيد، والمبدأ العقدي للديمقراطية هو العلمانية.
بل يمكن الزعم بأن حقيقة الفلسفة الديمقراطية تشبه إلى حد كبير حقيقة فلسفة (إخوان الصفا) ، ووجه الشبه في ذلك محاولة التوفيق بين التيارات الفكرية المتصارعة والمذاهب العقدية المتناقضة؛ وفي ذلك يقول (كرن شيلدز) أحد منظِّري الديمقراطية: «فالديمقراطي ممكن أن يكون بروتستانتياً، أو يهودياً، أو ملحداً، أو مؤمناً. ففيما يتعلق بالدين يمكن القول إن الديمقراطية مذهب محايد يتمثل في مجموعة من المعتقدات العلمانية الصرفية؛ فالمفهومات الديمقراطية لا ترتبط بالبواعث الدينية أو المضادة للدين» (?) .
هذه لمحة وإلمامة حول وصف بعض المشاريع التوفيقية لـ (إخوان الصفا الجدد) علَّها تسهم في كشف غطائها، وإبداء سوآتها؛ لكن هذه اللمحة التي يحتويها هذا المقال لن تؤدي واجب النقد كاملاً؛ إذ مازال استنساخ المنهج التوفيقي جارياً بصور متعددة وبأغراض مختلفة وما فتئت آثارها في فكر الأمة ومناهج استدلالها قائمة.
وإليك ـ أخي القارئ ـ بعض آثارها الملموسة في حياتنا الدينية والثقافية والفكرية:
1 ـ تعكير صفو التوحيد وتدنيس صفائه عبر محاولة التوفيق بين الدين الإسلامي الحنيف والأديان المنسوخة المحرفة التي تطفح بمظاهر الشرك بالله؛ وتلك ـ لعمر الله ـ الفاقرة الصاقرة والجائحة الذابحة، وقد تولى كبر هذه الدعوة من (إخوان الصفا الجدد) جمال الدين الفارسي المعروف بالأفغاني.
2 ـ تشويه صورة الإسلام المشرقة في أحكامه، ومن مظاهر هذا التشويه تجريد الإسلام من أحكام التكفير، وتفسير التكفير الوارد في أحكامه تفسيراً باطنياً؛ وذلك بمحاولة التوفيق بين الحقائق الشرعية والمظاهر الكفرية.
3 ـ تهييج الصراع الفكري وإثارة الاحتقان السياسي الطاحن في المجتمع الواحد؛ وذلك عن طريق محاولة التوفيق بين الحقائق الشرعية الخالصة والقرارات السياسية المستبدة الجائرة. ينتج عن تلك المحاولة تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحله الله. وفي بيان هذا الأثر يعلق ابن تيمية على حديث أورده بلفظ: «يأتي على الناس زمان تُسْتَحَلُّ فيه خمسة أشياء: يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها، والسحت بالهدية، والقتل بالرهبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع» (?) .
4 ـ الهروب من ثقافة الأمة والتنكر لها، وذلك عن طريق محاولة التوفيق بين الحقائق الدينية والحقائق التاريخية للأمة، وبين ثقافة المستعمر والغازي، وأوضح مثال على ذلك تغيير المناهج الدراسية بما يتوافق مع ثقافة المستعمر.
5 ـ إضعاف الإيمان بالغيوب الشرعية في نفوس المسلمين؛ وذلك عن طريق محاولة التوفيق بين الغيوب الشرعية ومعطيات المدنية الغربية.
6 ـ قلب المفاهيم الشرعية والتلاعب بمصطلحاتها، ومن أوضح الأمثلة على ذلك تفسير الخيانة بالأمانة، والأمانة بالخيانة؛ وذلك عن طريق محاولة التوفيق بين الحقائق الشرعية والضرورات النفسية والعرفية، وبين الإدارة السياسية للمحتل الغاشم وأذنابه؛ وذلك مثل هذا المنهج التوفيقي؛ إذ يقول -صلى الله عليه وسلم -: «سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات، يصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤمَّن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» (?) .