مجله البيان (صفحة 5468)

أمريكا الرومانية ومقدمات الانهيار

د. باسم خفاجي

تقدم هذه المقالة مراجعة للعلاقة بين انهيار المدن بسبب الكوارث الطبيعية، وبين تهاوي الإمبراطوريات عندما تفقد عوامل البقاء الأخلاقية، وينهار البناء الاجتماعي الذي يحفظ تماسك المدن وعلاقة الأغنياء مع الفقراء، والأقوياء مع الضعفاء، وهو ما تظهره الكوارث الطبيعية بشكل سريع ومفاجئ. تقدم الدراسة رؤية عن تداعيات إعصاري «كاترينا» و «ريتا» على الجنوب الأمريكي وخصوصاً مدينة «نيو أورلينز» بصفتها نموذجاً صارخاً لعدم المساواة في المجتمع الأمريكي من ناحية، وانتشار الفساد والجريمة من ناحية أخرى، وأخيراً المفارقة المرتبطة بتركيز المنشآت النفطية في المنطقة التي تعرضت للإعصارين وارتباط ذلك باهتمام أمريكا الخارجي للسيطرة على النفط، والعجز الداخلي عن تأمين المصافي في مواجهة الأعاصير. تبحث الدراسة أيضاً كيف ستؤثر هذه الكارثة الطبيعية على مستقبل المشروع الأمريكي في قيادة العالم.

- انهيار المدن وتهاوي الإمبراطوريات:

لكي تعرف حقيقة ما حدث في مدينة «نيو أورلينز» بسبب إعصار «كاترينا» فقد يكون من المهم العودة بالتاريخ طويلاً إلى بدايات التاريخ الميلادي عندما دمر بركان ثائر مدينة رومانية وهي «بومبيي» .. الفارق بين الحدثين أن الدمار الذي حدث هناك قد اختفى عن الأعين لقرون طويلة؛ أما دمار «كاترينا» وما تبعه من إعصار «ريتا» أيضاً فهو مشاهَد للعالم على الهواء مباشرة على شاشات الفضائيات وفي مواقع الإنترنت، ويا له من دمار!

«بومبيي» مدينة رومانية قديمة دمرها بركان ثائر منذ ما يقارب ألفي عام، و «نيو أورلينز» مدينة أمريكية تعرضت للتدمير بسبب كارثة طبيعية أخرى وهي إعصار «كاترينا» .. وبين المدينتين الكثير من أوجه الشبه، وبين الواقع الأمريكي المعاصر وماضي الإمبراطورية الرومانية التي جمعت بين عناصر القوة وبين مسببات الانهيار أوجه تشابه كثيرة أيضاً.

أما عن أهمية المقارنة بين المدينتين فسببها أن كلتيهما تمثلان اجتماع عناصر القوة والانهيار معاً لكل من الإمبراطورية الرومانية في القديم والأمريكية في هذا الزمان. وكذلك فقد اشتهرت المدينتان بأنواع مشتركة من أشكال الفساد والرذيلة التي تهدد البنى الاجتماعية للحضارات وتُؤْذِن بزوالها.

«بومبيي» مدينة إيطالية حفظتها الحمم البركانية كاملة بواقعها وفسادها وعهرها تحت الرماد لقرون طويلة ليعرف العالم بعد اكتشافها كيف كانت الأمبراطورية الرومانية تعيش. أما «نيو أورلينز» فستدخل التاريخ كمدينة دمرت بسبب الظلم الأمريكي الذي تجاوز الاعتداءات على شعوب العالم ليجمع معه إهمال وتجاهل معاناة أبناء أمريكا أنفسهم، وسيحتفظ التاريخ أيضاً بتوثيق ذلك من خلال عدسات الكاميرات وما دُوِّن عن هذه الكارثة في الصحف والمجلات والمواقع الإليكترونية.

ستدخل «نيو أورلينز» تاريخ العالم كشاهد على العار الذي يلحق الإمبراطوريات عندما تبدأ في مسيرة الانزواء إلى الأزقة الخلفية في مقابر التاريخ. إن كلمة «كاترينا» ترجع إلى أصول لغوية يونانية تعني «النقاء أو الطهارة» فهل نحن نشهد عقاب الخالق وتطهيره لتلك البقعة من بقع الفساد؟ ستجيب الأيام عن ذلك السؤال فيما يتعلق بمدينة «نيو أورلينز» وبالولايات المتحدة الأمريكية نفسها، ولكن تبقى «بومبيي» وزوال الإمبراطورية الرومانية بعد زوال تلك المدينة واندثارها شاهدة على شدة ذلك العقاب وقسوته.. وحقاً {إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12] .

- بين «بومبيي» الرومانية و «نيو أورلينز» الأمريكية:

في دقائق معدودة من يوم 24/8/79م دمر بركان ضخم مدينة «بومبيي» Pompeii الرومانية. انطلقت الغازات السامة من فوهة البركان لتقتل السكان في الوقت نفسه الذي اندفعت فيه الحمم البركانية لتوقف الحياة في المدينة، وتجمِّد كل ما كان يحدث بها من فعاليات الحياة اليومية ليبقى شاهداً تاريخياً على حياة تلك المدينة (?) .

كانت «بومبيي» مدينة تزهو بالأغنياء والترف والمجون والرفاهية من ناحية، ويكثر فيها الفقر والعبودية من ناحية أخرى. كانت تلك المدينة تمثل الإمبراطورية الرومانية بكل تناقضاتها وقوتها وموبقاتها قبل أن تزول تلك الحضارة وتنزوي في عالم النسيان. حفظت الحمم البركانية المدينة بحالها لحظة انفجار البركان لتصبح بعد اكتشافها مرة أخرى في القرن السادس عشر شاهداً على نمط الحياة في ذلك الوقت، وكيف اجتمع للرومان عناصر القوة ومظاهر الانحطاط والانهيار في مجتمع واحد وفي مدينة واحدة.

كانت منازل تلك المدينة مزينة بصور إباحية تعبر عن أنواع من الفساد والمجون شديدة الانحطاط. وكانت تلك الصور تمثل إحدى صور الحياة في المدينة وفي الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت. ولم تكن هذه الصور والرسومات الفاضحة في الملاهي أو محلات بيع الرذيلة فقط، بل إنها كانت أيضاً مرسومة على حوائط بعض منازل العامة. ولشدة فساد هذه الصور والرسومات وكثرتها فقد رفض معظم حكام تلك المنطقة طوال القرون الماضية وحتى أعوام قليلة مضت أن توضع هذه الصور والرسوم في متاحف عامة، ولم يسمح بذلك إلا في فترات محدودة للغاية طوال تلك القرون (?) . حفظت الحمم البركانية صور الحياة الداعرة والممارسات الشاذة لسكان تلك المدينة كما هي بكل بشاعتها وقذارتها لتصبح مزاراً سياحياً ضخماً يفد إليه ملايين البشر في كل عام للتعرف على نمط الحياة في تلك الإمبراطورية التي زالت.

وفي يوم 29/8/2005م، أي بعد ما يزيد عن ألف وتسعمائة عام من ذلك التاريخ البعيد، قام إعصار بتدمير مدينة أمريكية تسمى «نيو أورلينز» . كانت المدينة أيضاً تجمع بين معالم الحضارة الأمريكية اليوم وبين علامات الانحطاط. لم تجمِّد المياه الجارفة الواقع الأمريكي في تلك اللحظات، ولكن عدسات الكاميرات قامت بنفس الدور الذي قامت به الحمم البركانية منذ ما يقارب ألفي عام. قامت العدسات التلفزيونية في حالة «نيو أورلينز» بتوثيق حي ومباشر ودائم للتدهور الأخلاقي للفرد الأمريكي من ناحية، ولتقاعس الدولة الإمبراطورية من ناحية أخرى عن حماية أبنائها والانشغال عن ذلك بمعارك خارجية من أجل المزيد من السيطرة.

لقد ضرب إعصار «كاترينا» منطقة تبلغ مساحتها نحو 235 ألف كم2 أي ما يوازي مساحة رومانيا ونصف مساحة فرنسا. وامتدت الأضرار بطول ما بين 40 إلى 50 كم على شواطىء ولاية ميسيسبي، في حين غمرت المياه 80% من مدينة «نيو أورلينز» . واعتبر الخبراء هذا الإعصار أسوأ الكوارث الطبيعية التي عرفتها الولايات المتحدة منذ نشأتها قبل 230 عاماً، وقد قدر الخبراء حجم الدمار الذي حدث بـ 100 مليار دولار. وأعقب ذلك الإعصار، إعصار آخر هو إعصار «ريتا» الذي هاجم المصافي ومعامل التكرير بولاية تكساس إضافة إلى لويزيانا.

وبين «نيو أورلينز» و «بومبيي» أوجه شبه كثيرة ومفارقات عجيبة. «بومبيي» كانت ميناء تجارياً هاماً في شمال إيطاليا على ضفاف نهر «السامو» ، وكذلك كانت «نيو أورلينز» ميناء تجارياً هاماً على ضفاف نهر «الميسيسبي» وسواحل خليج المكسيك.

قُتل الفقراء في «بومبيي» ، بينما فر الأغنياء مبكراً؛ لأنهم عرفوا من جفاف الآبار أن البركان سينفجر، وكانوا أيضاً يملكون وسائل الانتقال التي مكنتهم من مغادرة «بومبيي» إلى القصور والمنتجعات المحيطة بتلك التلال الإيطالية بعيداً عن مسار الحمم البركانية، وتركوا خلفهم الفقراء والعبيد ليكونوا فريسة للبركان (?) . وفي «نيو أورلينز» نجح الأغنياء أيضاً في مغادرة المدينة بهدوء على متن السيارات الرياضية والفارهة التي تحمل ما خف وزنه وغلا ثمنه، وتركوا خلفهم الآلاف من الفقراء.. من السود.. من عبيد الأمس كما يقولون.

أظهرت لنا الصور ورسومات الحوائط في منازل «بومبيي» درجة الانحطاط الأخلاقي التي بلغها أهل هذه المدينة. وفي المقابل - ومع انتقالة تاريخية وزمنية تقارب 19 قرناً ـ تظهر لنا شاشات الفضائيات صورة أخرى من صور الانحطاط الأخلاقي لإمبراطورية أخرى وهي الإمبراطورية الأمريكية عندما تناقلت تلك الشاشات مشاهد السرقات والاعتداء على المنازل والمتاجر من قِبَل رجال الشرطة إضافة إلى جموع من المواطنين.

- ثلاثية نيو أورلينز: الفساد - الجريمة - النفط:

في سنة 1719م، بعد عام من تأسيس «جون بابتيست لو موين» مدينة «نيو أورلينز» لتكون عاصمة مستعمرة لويزيانا الفرنسية الناشئة، أباد إعصار مجموعة الأكواخ المصنوعة من سعف النخيل التي كانت تتكون منها المدينة ... وبعد ذلك بعامين، جاء إعصار آخر ليبيدها مرة أخرى. من مفارقات هذه المدينة أن أول مؤسسة تجارية أقيمت فيها كانت عبارة عن متجر للنبيذ (?) .

لقد اشتهرت مدينة «نيو أورلينز» عبر تاريخها بثلاثة أمور ميزتها عن كثير من المدن الأخرى. وهذه الأمور تشكل ما يمكن أن يسمى «ثلاثية نيو أورلينز» وهي: الفساد، والجريمة، والنفط. ولا تكاد توجد في أمريكا أية مدينة أخرى تجمع هذه الثلاثية معاً بدرجة الوضوح التي تظهر في «نيو أورلينز» . ولعل هذه الثلاثية تقدم تفسيراً مقبولاً لمن يعتقدون أن ما حدث بسبب إعصار «كاترينا» هو عقاب إلهي.

لقد عُرفت المدينة بانتشار الفساد الأخلاقي فيها، وتميزت عن كثير من المدن الأمريكية الأخرى بالدعوة إليه من خلال المهرجانات العامة والاحتفالات المستمرة. كما أن معدلات الجريمة والقتل في المدينة هي الأعلى في الولايات المتحدة وبين كثير من مدن العالم. وأخيراً عرفت المدينة أنها أحد أهم مراكز الصناعات النفطية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما تحارب أمريكا العالم اليوم من أجل السيطرة على منابعه والتحكم في مخزونه الاستراتيجي من خلال خطط أمريكا الخاصة بالشرق الأوسط ومأساة احتلال العراق.

إن مدينة «نيو أورلينز» هي مدينة هامة للحياة الأمريكية؛ فأكثر من 20% من تجارة أمريكا تمر عبر موانئ هذه المدينة، و25% من المنتجات البترولية الأمريكية تتدفق عبر خطوط الأنانيب التي تمر خلالها، ومحطات التنقية والتصفية وتصنيع المنتجات البترولية التي تنتشر حول المدينة. ويبلغ سكان منطقة «نيو أورلينز» نحو 1.4 مليون شخص، بينما يسكن المدينة نفسها حوالي نصف مليون نسمة، وتبلغ نسبة السود من بينهم 67% من إجمالي عدد السكان، ويعيش 30% منهم تحت خط الفقر.

1 - الفساد:

«نيو أورلينز» هي إحدى مدن اللهو والمجون الأمريكي، وتعرف بكازينوهات القمار المنتشرة في المراكب التي تبحر في نهر الميسيسبي الذي يخترق المدينة إلى شارع «بوربون» الذي اشتهر بمحلات بيع الهوى والرذيلة.

ومن المفارقات الملفتة للنظر أن إعصار «كاترينا» قد دمر المدينة قبل يومين فقط من احتفال سنوي ومهرجان عام للشواذ في أمريكا يسمى «الانحلال الجنوبي» Southern عز وجلecadence، وهو مهرجان بدأ منذ عام 1997م تدعو فيه المدينة الشواذ من مختلف أنحاء الولايات المتحدة لتمضية عدد من الأيام للاحتفال وممارسة الأفعال الفاحشة في شوارع المدينة وطرقاتها طوال أيام المهرجان. وقد كان الموعد المقرر لمهرجان هذا العام هو من 31 أغسطس إلى 5 سبتمبر (أي بعد يومين فقط من الإعصار) ، وكان من المتوقع أن يحضره 125.000 ألف شاذ من كافة أنحاء أمريكا وخارجها (?) .

كما اشتهرت «نيو أورلينز» باحتفال ومهرجان صاخب آخر منذ عام 1837م، تنتهك فيه الكثير من القواعد الأخلاقية كل عام يسمى ماردي جرا (Mardi Gras) وهي كلمة فرنسية تعني الثلاثاء المتخم أو السمين. كان هذا المهرجان يقام في المدينة في نهاية شهر فبراير من كل عام. وأصبح مما يميز هذا الاحتفال الماجن انتشار الخمور وممارسة الرذائل علناً بين الرجال والنساء.

واشتهر هذا المهرجان بشيء خاص به، وهو عادة قبيحة انتشرت في الأعوام الأخيرة، حيث تقوم النساء بكشف الجزء الأعلى من أجسادهن من أجل أن يراه المارة ويلتقطون له الصور. وللأسف فالأمر ليس منتشراً بين الساقطات أو الداعرات فقط من النساء، ولكن الأمر تخطى ذلك في الأعوام الأخيرة ليشمل الكثير من زوار المدينة أيضاً، وأصبحت هذه الظاهرة سمة مميزة للمهرجان وللمدينة أيضاً، وأصبح هناك مصطلح خاص باللغة الإنجليزية بتلك الظاهرة أيضاً، وهو «فلاشنج» Flashing.

2 - الجريمة:

عُرفت مدينة «نيو أورلينز» بأنها إحدى عواصم الجريمة في الولايات المتحدة. فالفساد المالي كان منتشراً بين قيادات المدينة، ومعدلات القتل فيها تزيد عن عشرة أضعاف متوسط معدلات القتل في الولايات المتحدة الأمريكية. ففي العام الماضي كان عدد القتلى في «نيو أورلينز» يساوي نصف عدد القتلى في مدينة نيويورك رغم أن نيويورك يقطنها 8 ملايين شخص مقارنة بمدينة «نيو أورلينز» التي يبلغ عدد سكانها (بدون الضواحي) نصف مليون فقط. وقد تعود سكان المدينة على إطلاق الرصاص وممارسة القتل في مدينتهم لدرجة أن عدداً من الباحثين قاموا بإطلاق أكثر من 700 طلقة نارية فارغة في أحد أحياء المدينة، ولم يهتم أي من سكانها بإبلاغ الشرطة أن هناك طلقات نارية في الحي، وكأن الأمر معتاد عليه (?) .

كما أن المدينة عُرفت بالمخدرات وجرائم الاغتصاب والسرقات، وطائفة أخرى من الجرائم التي ارتبطت بالفقر والفساد الأخلاقي معاً. وفي آخر إحصاء أجرته الولاية عن سوء حال المدارس وجد أن 55 مدرسة من أسوأ 87 مدرسة على مستوى الولاية هي مدارس في مدينة «نيو أورلينز» .

وفي دراسة أجراها مكتب التحقيقات الفيدرالي عن معدل الجرائم في المدينة، وجد أن المدينة تتجاوز معدلات معظم الجرائم في الولايات المتحدة الأمريكية. ففي عام واحد وهو العام الماضي (2004م) كان بالمدينة أكثر من 274 حادثة قتل، و 213 اغتصاباً، 2071 سرقة بالإكراه، 2038 هجوماً مسلحاً، و6872 حادثة سرقة سيارة، وأكثر من 12726 حادثة سرقة (?) ، وتعد كل هذه الأرقام أعلى بكثير من المعدلات الأمريكية للمدن الشبيهة بهذه المدينة.

والغريب أن كارثة «كاترينا» لم تخفف من حدة النزوع إلى الجريمة في المدينة؛ فعندما لجأ سكان المدينة إلى الملعب الرياضي Superdome هروباً من الفيضان الذي اجتاح المدينة، وتمهيداً للخروج منها، حدثت 6 جرائم قتل في ذلك المكان، وأكثر من 12 حالة اغتصاب تم الإبلاغ عنها لسلطات الأمن خلال تلك الأيام القليلة. وذكرت إحدى الناجيات وهي (إفريكا برومفيلد) أن: «هناك عمليات اغتصاب تتم هنا. النساء لا يمكنهن الذهاب الى المرحاض بدون الرجال. إنهم يغتصبونهن ويقطعون رقابهن وهم يقولون لنا إن الحافلات قادمة ولكنها لا تغادر أبداً» .

3 - النفط:

لقد أدى الإعصار إلى إقفال 711 منصة أو بئراً نفطية في خليج المكسيك. وبعد خمسة أيام على مرور الإعصار على منطقة جنوب الولايات المتحدة توقف إنتاج 88.53% من النفط الخام في منطقة خليج المكسيك، وهو ما يمثل ربع الإنتاج العام للبلاد. وقد تتجاوز قيمة الأضرار المئة مليار دولار حسب تقديرات شركة «ريسك مناجمنت سولوشنز» المتخصصة. أما وقف العمل فيعني خسارة ما يزيد عن 100 مليون دولار يومياً من الأرباح.

«فإنتاج النفط في خليج المكسيك يشكل نحو 30%، وإنتاج الغاز الطبيعي يقارب 20% من إجمالي إنتاج الولايات المتحدة. ونحو 60% من واردات أمريكا النفطية تصل إلى موانئ خليج المكسيك. وما يقارب نصف مصافي النفط الأمريكية موجود هناك. وقد ضرب إعصار كاترينا هذا النظام الضخم بقوة، وبينما اقترب إعصار كاترينا، جرى إخلاء المئات من منصات الإنتاج في المنطقة، بحيث أغلقت 95% من إنتاجه النفطي و88% من إنتاجه من الغاز الطبيعي. والمصافي التي تمثل ثُمْنَ إجمالي عدد المصافي في الولايات المتحدة إما أنها توقفت، وإما أنها خفضت من تشغيلها» (?) .

إن أمريكا التي تسعى للسيطرة على منابع النفط العالمية، وتدفع بأبنائها وشعوب العالم الأخرى إلى حروب دموية من أجل الحصول على المزيد من النفط، لا تستطيع أن توقف إعصاراً ربانياً يهدد البنية التحتية النفطية في الدولة بأكملها، ويجبر الولايات المتحدة على البدء في استهلاك المخزون الاستراتيجي من النفط الأمريكي، وهو ما لم يحدث طوال أكثر من ثلاثين عاماً. ولذلك ليس من الغريب أن يتبع إعصار «كاترينا» إعصار آخر وهو «ريتا» ليهاجم معقلاً آخر من معاقل المصافي البترولية ليوقفه أيضاً في جنوب تكساس في كل من مدينة جالفستون وكذلك مدينة هيوستن، ولله ـ تعالى ـ في هذا الكون تدبير عجيب. والرسم المرفق يوضح درجة التطابق بين مسار إعصار «ريتا» وبين مواقع مصافي البترول ومعامل التكرير الأمريكية في تلك المنطقة التي أصابها الإعصار.

إن هذه الثلاثية ـ التي تميز مدينة «نيو أورلينز» ، والتي تجمع بين انتشار الفساد الشخصي والجرائم المنظمة العامة في المدينة، وبين وجود النفط الذي ترتكب بسببه أمريكا الكثير من الجرائم في العالم ـ قد تقدم تفسيراً مقبولاً لمن يعتقدون أن ما حدث بسبب إعصار «كاترينا» هو عقاب إلهي. ولهذا حديث آخر في هذه الدراسة، ولكن المفارقة ملفتة للنظر بلا شك. أما المفارقة الأخرى فهي المقارنة الحضارية بين تصرفات الشعب الأمريكي عندما أصابته كارثة الإعصار مع شعوب آسيا التي أصيبت بكارثة التسونامي، وأعقبها مؤخراً الزلزال الكبير الذي أصاب الهند وباكستان في أكتوبر من عام 2005م.

- الفوارق الحضارية بين أمريكا وآسيا:

ما حدث بسبب إعصار «كاترينا» كان غريباً في نظر الكثير من أبناء العالم. كان الجميع يشارك في نهب «نيو أورلينز» بينما العاصفة تقتل المئات من سكان المدينة، والرئيس الأمريكي يرفض أن يقطع إجازته السنوية.. ويعزف الموسيقى في وقت سقوط الكارثة على سماء «نيو أورلينز» وهو يستلم هدية عبارة عن جيتار موسيقي يقوم بالعزف عليه في مرح وتكلف ظاهرين بينما يموت أبناء «نيو أورلينز» في اللحظات نفسها بتأثير الإعصار والفقر معاً.

لا يستطيع الإنسان أن يتجاهل الفوارق الحضارية التي أظهرتها المقارنة مع كارثة التسونامي التي عصفت بأكثر من 11 دولة من دول جنوب آسيا، وتسببت في كارثة تفوق مرات عديدة حجم كارثة «كاترينا» و «ريتا» ، وحتى ما حدث مؤخراً في زلزال باكستان. لقد ظهرت الشعوب الآسيوية بشكل أكثر حضارة وتماسكاً رغم الفقر الشديد وانعدام الإمكانات التقنية أو الطبية التي كان من شأنها التخفيف من حدة الكارثة. لقد تسبب تسونامي في مقتل مئات الآلاف من البشر، ولكنه ساهم أيضاً في تحقيق الترابط والتعاطف بين الناجين. أما في أمريكا فقد تسببت الكارثة في مقتل المئات، ولكنها أثارت النزعات الفردية بين الناجين، وظهر وجه قبيح من الأنانية والفردانية والنفعية التي تسعى لاستغلال كل شيء حتى المآسي والكوارث من أجل المنفعة الفردية.

وفي مقارنة حضارية تعكس قلق المفكرين الأمريكيين من الوجه القبيح الذي أظهرته تلك الكارثة، يذكر الكاتب الأمريكي نيكولاس كريستوف تعليقاً بالغ القسوة فيقول: «إن عمليات السلب والنهب كانت واحدة من الأشياء المثيرة للإحباط وخيبة الأمل. وقد سبق لي تغطية زلزال «كوبي» باليابان عام 1995م، والذي قتل حوالي 5500 شخص. حاولت خلال تلك التغطية البحث عن أي مؤشر يدل على ارتكاب سلوك إجرامي وفي نهاية الأمر عثرت على شخص من سكان المنطقة شاهد ثلاثة أشخاص يسرقون الطعام. سألته ما إذا كان يشعر بالحرج إزاء ممارسة أشخاص يابانيين لمثل هذا السلوك، فأجابني إن الذين سرقوا لم يكونوا يابانيين وإنما أجانب» (?) .

إن المقارنة مع دول العالم الفقير كانت في غير صالح الدولة الأكثر قوة في العالم. فرغم أن سيريلانكا مثلاً كانت في حالة حرب بين الجيش الموالي للدولة، وبين «نمور التاميل» الانفصاليين، فإن الطرفين اتفقا فور حدوث كارثة التسونامي على إيقاف القتال حتى يتم إنقاذ الفقراء والضعفاء. وحدث الشيء نفسه بين الهند وباكستان مؤخراً من جراء الزلزال الذي أصاب منطقة كشمير.

وعند مقارنة التصرفات على مستوى القيادات المدنية بتلك المدن التي أصابها التسونامي مع تصرفات قادة أمريكا يظهر أن ردة فعل هؤلاء القادة الآسيويين كانت أفضل بمراحل من رد فعل قيادات مدينة «نيو أورلينز» . فقد اقتحم «ماورادي نور الدين» وهو عمدة مدينة «باندا أخيه» الإندونيسية أحد محلات البقالة عقب كارثة التسونامي لا ليسرق أو ينهب كما حدث في لويزيانا، وإنما ليوفر الطعام لسكان المدينة من الناجين من الكارثة.

أما في «نيو أورلينز» فقد نقلت وكالات الأنباء صور ضباط الشرطة وهم يشتركون في نهب المتاجر والمحلات، وانتشر في المدينة اغتصاب النساء والأطفال والقتل على مرأى من قوات الشرطة، بل إن محلات الأسلحة قد سرقت، واستخدمت الأسلحة التي كانت بها لإطلاق النيران على طائرات الإنقاذ القادمة لإيقاف النهب والسرقة التي كانت الشغل الشاغل لبعض من نجا من الموت في المدينة (?) . كان ما حدث في «نيو أورلينز» إدانة دامغة للثقافة النفعية الأمريكية وللغلو في الاهتمام بالفرد على حساب المجتمع.

إن ما يحدث في أمريكا من تبعات كارثة «كاترينا» و «ريتا» وما قد يتبعهما من أعاصير وكوارث طبيعية أخرى يكشف عن أمراض اجتماعية خطيرة في المجتمع الأمريكي، ويشير بما لا يدع مجالاً للشك أن الحضارة الإنسانية توشك أن تغادر الغرب في انتقالها وعودتها إلى مهدها في الشرق من جديد. وقد عبر عن ذلك أحد المفكريين الأمريكيين عندما قال: «لقد اجتاز القائمون بأعمال السلب والنهب ذلك الخط الدقيق - وإن كان أساسياً - في الفصل بين المتحضرين والهمجيين» (?) .

- وجه قبيح للحضارة:

أظهرت كارثة «كاترينا» أيضاً درجة الانقسام العرقي بين الشمال والجنوب، وبين الأبيض والأسود، وبين الفقير والغني في الولايات المتحدة الأمريكية. ويصف المفكر الأمريكي المعروف (بول كينيدي) ما حدث أنه كارثة أخلاقية فيقول: «لقد كان إعصار كاترينا كارثة وطنية، ولكن ما حدث في الواقع هو أنه ضرب الأميركيين بشكل غير متساوٍ، وحسب وضعهم في السلَّم الاجتماعي للأسف. إن المحافظين يحبون دائماً أن يكرروا مقولة «إن المد المرتفع يرفع جميع القوارب» ، ولكن المد المرتفع الذي غمر «نيو أورلينز» لم يفعل ذلك، بل إنه أغرق في الحقيقة العديد من القوارب الأكثر هشاشة» (?) .

إن العنصرية التي أظهرتها الأحداث الأخيرة في «نيو أورلينز» لم تظهر فجأة نتيجة الإعصار، ولكنها جزء لا يمكن تجاهله بعد الآن من التركيبة النفسية للمجتمع الأمريكي. وكما يذكر الكاتب الأمريكي (فيليب كينيكوت) ، فإن «هناك قضايا كامنة قام إعصار «كاترينا» بإطلاقها ليس إلا. لا أعتقد أن غالبية الأمريكيين يستطيعون تشخيص هذه الأعراض.. نعم! نحن نتحدث عن التعددية الثقافية، ولكن العنصرية الكامنة فينا منتشرة بصورة واسعة» (?) .

وحتى التغطية الإعلامية لما حدث من جراء الإعصار لم تكن عادلة، وفرقت بين الأبيض والأسود بشكل مقزز أظهر حقيقة العنصرية التي ما زالت مستشرية في المجتمع الأمريكي. وكان من أهم الأحداث التي أظهرت العنصرية في التغطية الإعلامية صورتان نشرتهما وكالات الأنباء العالمية بعد الإعصار مباشرة. في كلا الصورتين يظهر شخص يحمل معه بعض الطعام وهو يسير في الماء محاولاً النجاة من الغرق.

الفارق أنه في الصورة الأولى كان الشخص أسود، أما في الصورة الثانية فقد كان الشخص أبيض البشرة. وما لفت أنظار المراقبين الإعلاميين أن التعليق على الصورة الأولى (عن الشخص الأسود) ـ وقد صدر عن وكالة الأسوشيتد برس الأمريكية ـ كان يقول: «شخص يحاول السير في المياه إلى مستوى الصدر بعد أن سرق طعاماً من أحد المحلات..» . أما التعليق على الصورة الثانية (عن الشخص الأبيض) وقد صدر عن المكتب الأمريكي لوكالة الأنباء الفرنسية فكان يقول: «شخصان يحاولان السير في المياه إلى مستوى الصدر بعد أن وجدا خبزاً ومشروباً من أحد المحلات» .

فرغم أن الصورتين تعكسان نفس الموقف، والتعليق متشابه في معظم الكلمات، إلا أن الأسود اتهم بسرقة الطعام، بينما وصف الأبيض أنه قد وجد طعاماً. لقد أثارت الصورتان ضجة إعلامية كبيرة اضطرت وسائل الإعلام عقبها إلى الاعتذار عنها، وحذف الصور من المواقع الإليكترونية التي عرضت فيها، ولكن ذلك لن يحذف المشاعر التي تسببت في هذه العنصرية، أو المشاعر التي أوذيت بسببها.

- تقاعس الدولة.. ومؤشرات الهبوط:

تساءل عدد من المفكرين الأمريكيين والأوروبيين عن معنى ما حدث في «نيو أورلينز» وعلاقته باستمرار واستقرار الدولة الأمريكية. ويتساءل أحدهم قائلاً: «هل حقاً أن الولايات المتحدة بدأت تأخذ منحنى الهبوط؟ وإذا لم يكن باستطاعتها أن تحمي نفسها فأنَّى لها أن تتطلع إلى قيادة الآخرين؟ كتبت صحيفة لوموند اليومية الفرنسية تقول: إنه على الرغم من الإمكانيات الاقتصادية والعسكرية التي سارعت أميركا بنشرها في الخارج إلا أن القوة العظمى وقفت عاجزة عن التعامل مع كارثة داخلية بهذه الصورة. وراحت الصحيفة تستطرد متسائلة: هل يعقل أن تنفق الولايات المتحدة مئات الملايين من الدولارات على حرب العراق في الوقت الذي تعجز فيه عن توفير الحماية لمواطنيها في الداخل؟» (?) .

لقد عجزت الإدارة الأمريكية عن سرعة التعامل مع كارثة الجثث التي انتفخت وطفت على وجه الماء في شوارع «نيو أورلينز» وشاهد العالم عبر شاشات الفضائيات بعض الجثث والفئران تقضمها، وبقي أكثر من عشرين ألفاً في الأستاد الرياضيSuperdome أربعة أيام بين أكوام القذارة والرائحة النتنة دون أن تصلهم حافلات لنقلهم وإيوائهم. لقد انفعل من جراء كل ذلك رئيس بلدية «نيو أورلينز» فقال معلقاً على ولع الحكومة الفيدرالية بالتغطية الإعلامية وليس بإنقاذ المدينة: «بدل الغذاء يطعمون الشعب سطوراً من الخداع الإعلامي.. عار أمريكا أن الخبر أصبح يفوق الغذاء أهمية، وأن التسابق على الصورة يسبق التسابق على تزويد المرضى بالدواء، وتنظيم البث أسهل من ترتيب أمر الإيواء. إن هذا المشهد ليفيض حتى على الفيضان» .

- هل «كاترينا» لعنة أو عقاب إلهي؟

اهتم الكثير من المتدينين في العالم سواء من المسلمين أو من غيرهم بالإشارة إلى أن ما حدث لمدينة «نيو أورلينز» قد يكون عقاباً إلهياً بسبب فساد المدينة وانتشار الرذائل فيها من ناحية، أو عقاباً لأمريكا على عدوانها على شعوب العالم من ناحية أخرى. وأفردت لذلك الصفحات في الجرائد والمجلات والمواقع الإليكترونية. ولم يقتصر الأمر على المسلمين فقط كما يحاول أنصار التيارات العلمانية في العالم العربي تصوير الأمر، وكأنه شيء انفرد به أبناء الإسلام، وإنما انتشرت مثل هذه الكتابات والتحليلات بين التيارات المحافظة والمتدينة في أوروبا وأمريكا وحتى في الكيان الصهيوني الذي اعتبر ما حدث في «نيو أورلينز» عقاباً إلهياً على سماح أمريكا بإجلاء المستوطنين اليهود من غزة.

فقد ذكر الكاهن «أوفيدا يوسف» الزعيم الروحي لحزب «شاس» اليهودي في خطابه الأسبوعي عقب إعصار «كاترينا» أن (جورج بوش) كان وراء إجلاء 15.000 من المستوطنين [في غزة] ، وأن العقاب الإلهي جاء بإجلاء 150.000 من الشعب الأمريكي (في إشارة إلى (نيو أورلينز) . كما ذكر الكاهن أن العقاب قد حل بتلك المدينة أيضاً أو تحديداً بسبب تحلل المعايير الأخلاقية فيها (?) .

أما «مايكل ماركافاجي» وهو رئيس منظمة «توبي يا أمريكا» Repent صلى الله عليه وسلمmerica، فقد ذكر أنه «رغم الحزن الشديد لفقدان الأرواح [في كارثة «كاترينا] ، فإن الإله قد دمر مدينة فاسدة.. إن «نيو أورلينز» مدينة قد فتحت ذراعيها للاحتفال الشعبي بالمعصية. وقد يخرج من أنقاض هذا الدمار مدينة جديدة طاهرة.. ولا بد أن نصلي ونعاون ضحايا هذه الكارثة، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن سكان مدينة (نيو أورلينز) كانوا متسامحين ومرحبين بشيوع الرذائل في مدينتهم لمدة طويلة» (?) .

وأما المسلمون فهم يعلمون أن كل ما يحدث في الكون إنما يحدث بتدبير الخالق ـ جل وعلا ـ الذي يقول في كتابه الكريم: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، وأن كل قطرة ماء أو سحابة أو ريح أو ما أشبه ذلك فإنها كلها تحدث بسبب ظواهر طبيعية يمكن معرفتها علمياً، ولكنها في النهاية تخضع لأوامر الخالق جل وعلا، فتصيب من يشاء ـ سبحانه ـ بالعقاب، وتمطر الخير لمن يشاء. لذلك فلا عجب أن يكون المطر خيراً لقوم، وعقاباً لآخرين.

لا يملك أحد أن يقطع بحكمة الله فيما أصاب تلك المدينة فهذا أمر الله، وهو أعلم بحكمته، ونحن لا نستطيع أن نجزم أن هذا عقاب الله؛ فنحن لا نحيط بقدرته ولا بقوته سبحانه وتعالى، ولكننا جازمون أن كل ما يجري في هذا الكون خاضع لله القدير الحكيم، وهو الذي أخبرنا عن عقابه لمن يستكبرون في الأرض، ويظلمون الخلق: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15] .

وكما أننا لا نستطيع أن نجزم أن ما حدث كان عقاباً إلهياً، فنحن بالمقابل لا نستطيع ان نجزم أنه لم يكن كذلك. ما المانع أن يعاقب الله ـ تعالى ـ أقواماً بالريح أو ما دونها إن أراد ذلك لسبب يعلمه هو سبحانه وتعالى؟ كيف نجرؤ على القطع بمعرفتنا بحكمة الله سواء عند توقيع العقاب، أو عند ابتلاء الشعوب؟

إن من المهم أيضاً ألا يقع العقلاء فيما يحاول أنصار أمريكا ودعاة التحرر من الأديان أن يجبروا الشعوب على قبوله أو يخيفوها من الجهر بما يخالفه، ألا وهو إنكار أن ما يحدث من أحداث الكون يمكن أن يكون عقاباً أو مكافأة إلهية. يسعى هؤلاء إلى الهجوم الشديد على كل من يطرح فكرة أن أمريكا أو غيرها من الدول أو الشعوب يمكن ان تعاقَب عقاباً إلهياً بالمطر أو الريح أو البراكين أو ما أشبه ذلك. ولسان حال هؤلاء هو موقف الإنكار نفسه الذي ذكره الله ـ تعالى ـ عن قوم عاد عندما شاهدوا السحب تتجمع في السماء فلم يصدقوا أنها يمكن أن تكون عقاباً لهم: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] .

لقد كانت الريح عبارة عن عذاب أليم لهم ولغيرهم من الأمم التي خلت؛ فلماذا نستكثر على الله ـ تعالى ـ أن يعاقب شعباً ما أو دولة ما بنوع العقاب نفسه لعلهم يرجعون؟ أم أن النفوس قد انشغلت بالانبهار بأمريكا أو الخوف منها حتى أصبحت لا تقدر على تخيل أن يعاقبها الله تعالى؟ لقد جاءت الآيات التالية من السورة لتشرح أن الفهم والسمع والأبصار قد لا تعين أصحابها إذا أصروا على الاستكبار والمعاندة. فيقول الله ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26] .

- حقيقة الكارثة:

«لَكَمْ هو مفجعٌ أن نرى أميركا وقد أصبحت لا حول لها ولا قوة؛ فهي لم تعد كما كانت عليه في السابق ولا تستطيع حتى أن تنقذ أبناء شعبها؛ بينما هي تحاول من ناحية أخرى أن تقود زمام العالم؟» (?) كانت هذه هي عبارات «بولين سيكام» أحد المسؤولين في الحكومة الفلبينية في لقائه مع صحيفة «نيويورك تايمز» . إنها تلخص حقيقة الكارثة التي أسفر عنها إعصار «كاترينا» . لقد سقطت هيبة الحكم الأمريكي بسبب هذا الإعصار.

كما أن الأحداث أظهرت الخلل الكبير والكارثي الذي يمر به المجتمع الأمريكي. ويعبر عن ذلك أحد الكتاب الأمريكيين قائلاً: «هناك جميع أنواع المساومات التي يتباحث حولها الأغنياء أو ذوو النفوذ في أي مجتمع مع الفقراء.. من خلال الخبز أو السيرك أو الصدقة، أو الوعد بأن الجميع سينجون. الصفقة هي: لا تسببوا لنا أية مشاكل وسنعتني بكم. ولكن الإمبراطوريات تنهار عندما يصبح العرض خاوياً، وكأنه يقول: لن نعتني بكم، أو: لا نستطيع أن نعتني بكم.. أو: نحن لم نعد بحاجة لكم ولم نعد نخشاكم. وقد بلغنا هذه النقطة هنا» (?) .

فقد أصبح اليوم هناك أميركتان داخل الولايات المتحدة: بلد العالم الأول الذي يرفل في ثوب الرفاهية، وتلك التي تنتمي إلى العالم الثالث حيث المعاناة من شظف العيش والأوضاع المزرية التي تتوارى عن أعين وأقلام الصحفيين. وتبقى الحقيقة أن غض الطرف عن الواقع لا يعني مطلقاً أنه غير موجود وإهمال المشكلة ليس مرادفاً لحلها (?) .

- معنى انهيار المدن:

إن ما حدث لمدينة «نيو أورلينز» ليس مجرد إعصار أصاب مدينة، ولكنه إعصار أظهر للعالم أجمع مشكلات حضارة. قد لا تستطيع «نيو أورلينز» أن تعود أبداً إلى سابق عهدها رغم المليارات التي ستنفق على محاولة القيام بذلك؛ فمشكلة المدينة هي أن سكانها قد فقدوا الرغبة في العودة إليها، كما أن خبراء بناء المدن يقولون إن العامل الأهم في قدرة المدينة على أن تعيد إحياء نفسها ليس مدى الدمار الذي حاق بها، ولكنه الاتجاهات السائدة فيها من قبل الدمار.

لقد أتت النار على معظم مدينة شيكاغو عام 1871م ودمر الزلزال والحرائق مدينة سان فرانسيسكو عام 1906م، ولكن المدينتين كانتا في صعود دائم قبل الكوارث التي ألمت بهما. ولذلك ففي الوقت الذي كان الحطام فيهما لا يزال يحترق، كان المقاولون يحصلون على القروض ليعيدوا البناء.

المدن ليست أبدية؛ فهي كائنات تتطلب توازناً مناسباً من العناصر المكونة لها كما يقول الكاتب الأمريكي (جوناثان آلتر) . والتاريخ مليء بركام المدن البائدة، وإن كانت «بومبيي» الرومانية هي من بين المدن الكبرى التي زالت بفعل كارثة طبيعية، فإن أغلب هذه المدن قد فنيت؛ لأن الحضارات التي كانت تقطنها فقدت بوصلتها الأخلاقية - فقدت روحها - ومعها تلاشت قدرتها على أن تبدع وتجدد وتعيد البناء. يقول المؤرخ (لويس ممفورد) في رائعته «المدينة عبر التاريخ» The City in History إنه عندما تتراكم عوامل الفناء العفوية فإن مدينة الموتى تكون قريبة، وإن لم يسقط أي حجر (?) .

لقد لخصت الكاتبة الأمريكية (روزا بروكس) حقيقة المشكلة التي تواجه المثقفين في أمريكا عندما قالت: «إن ما حدث بسبب إعصار كاترينا هو كارثة حقيقية على مدينة «نيو أورلينز» ، ولكن الأمر الأشد خطورة ووضوحاً هي ما تقوله هذه الكارثة عن واقع ومستقبل الولايات المتحدة الأمريكية» .

واختتمت الكاتبة مقالها بعقد مقارنة أخرى بين أمريكا اليوم وبين الإمبراطورية الرومانية بالأمس.. فقالت: «كان نيرون يعزف الكمان بينما كانت روما تحترق.. ربما لم يكن الرئيس بوش، الذي ليس له ذكر كبير في الأعمال الكلاسيكية يفكر في هذا عندما وقف أمام الكاميرات يوم كانت العاصفة «كاترينا» تدمر مدينة «نيو أورلينز» وهو يعزف على جيتار قُدِّم له من المطرب الأمريكي (مارك ويللز) . وبينما كان بوش يستمتع بعطلته ويعزف على جيتاره الجديد، كانت مدينة كبيرة تدمرها المياه وليس الحرائق. إن عزف نيرون الشهير على الكمان ما زال - بعد ألفي عام من موته - حكاية لها رمزيتها ودلالتها عن القيادة اللامبالية والمتمحورة حول الذات في أوقات الأزمات. وسلوك بوش الغريب في اللعب على الجيتار في وجه دمار «نيو أورلينز» قد يحكم عليه بمصير مماثل» (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015