د. محمد صالح الشنطي
قد يبدو هذا العنوان مستغرباً مثيراً للتساؤل؛ لأن الأدب رؤية تتشكل في فضاء الكلمة، وتنبثق من صميم الوجدان؛ حيث تتواشج التجربة الحية في نسيج خاص مع نبض القلب ووجيب الفكر. والعمل الأدبي لا يدخل إلى مختبر التصميم ومعمل الذهن ليخضع لجملة من المواصفات والمعايير ليتم إنتاجه وفقاً لها، ثمَّة دوافع داخلية حميمة هي التي تحفز الكاتب إلى إبداع النص فيتشكل بعيداً عن التجريد، لذا يبدو الأمر أبعد ما يكون عن الوصفات الجاهزة والخرائط المعدّة.
من هنا كان العنوان متجاوزاً للحدود الظاهرة على سطح الدلالات المباشرة للكلمات إلى ما هو أعمق وأبعد غوراً. ونحن حين نتحدث عن الأدب الذي نريد إنما نعني البُنية الثقافية الأساسية لمن يبتكر ويكتب ويبدع هذا الأدب، بعيداً عن المفاهيم التي تنظر إلى الإبداع الأدبي على أنه انحراف عن الفطرة وإيغال في تيه التجريب، وامتياح من سراديب اللاوعي وشطحات اللامعقول وخروج على مواضعات المنطق.
إننا حينما نتكلم عن الأدب ندرك إدراكاً كاملاً أننا نتحدث عن الرؤية التي تتبلور على قاعدة فكرية ووجدانية وإنسانية ملتزمة نافذة متمكنة من اللغة التي هي مادتها الأساسية، بما تختزنه من ثراء جمالي ودلالي سَرَى في عروق كلماتها على مدى العصور والأزمان، وترسّب في قرارات تراكيبها وفي مجالها الحيوي، ففهم اللغة والإحساس بنبضها واختراق غلافها الخارجي وملامسة باطنها ومعانقة ما يختمر في داخلها من خفقات إيمانية مذخورة ومعايشة ما توحي بها عبر تاريخها الممتد وعبر النسيج المعجز لبلاغتها، كما تجلّى في القرآن الكريم، ثم في روائع الكلم وشوارد القول، كل ذلك أساس في فهم الأدب الذي نريد؛ فاللغة ليس مجرد مفردات متراكمة، بل هي روح وثقافة وحياة.
إن الأديب يعمل داخل اللغة ويمخر عبابها ويغترف من بحرها المحيط الذي يغوص إلى أعماقه ولا يكتفي باللهو على شاطئه، ويتعرف على ما يدخره من وهج وثراء وأصداف مكنونة، إننا في حديثنا عن الأدب الذي نريد إنما نمضي في رحلة طويلة وعرة المسلك، هذه الرحلة التي نتطلّع فيها إلى بناء الفكر والوجدان. ولما كان الأساس هو الذي يصون البناء من الانهيار؛ فإن ضرورة الاطمئنان إلى سلامة الفطرة وسواء الطبيعة الإنسانية وصيانتها وصمودها أمام عواصف الفكر وأعاصير الثقافات الزاحفة في إرهاب العولمة وتحت لافتة التحديث والتطوير متوشِّحة بمختلف الشعارات ومتزجلة بألوان الزيف في عملية خداع ضخمة تخاتل الذوق وتصادي الوجدان أمر مهمٌّ. إننا نريد أدباً ملتزماً منبثقاً من صميم التجربة الإنسانية الحية، بازغاً من اقتناعات محفوفة بدفء العاطفة التي تختلج في دماء القلب، ولا تسترق الكلمات أو تلوي أعناق الدلالات أو تعبث بسياقات اللغة وتطرح بالمفردات في فضاءات عبثية.
والالتزام المطلوب ليس التزاماً (سارترياً) مقدوداً من لحم فكر ملحد أو ضال، وإنما التزام نابض من محب إنساني يحترم الطبيعة البشرية ولا يتركها نهباً للضلالات والرؤى الغائمة، ويخذلها لتبقى في صقيع الغربة الروحية والنفسية.
نريد أدباً يستفيد من منجزات الغير في مجال الجماليات، ولكن برؤى إنسانية إسلامية غير مكدّرة ولا مُهجّنة، نريده صافياً من شوائب التيه ومخرجات الانحلال، بعيداً عن الادّعاء والزيف والتمرّد الأهوج والتطرف الأعمى، والنرجسية الجوفاء.
نريد أدباً تخصبه الروح، وتدفئه التقوى من غير تعاظم أو مباهاة، ننشد فيه واحة تستروح فيها النفوس راحة القلب وسكينة الجوارح، نريده مضمخاً بنزف واقعنا ساعياً إلى التئام جروحنا، وقبل ذلك كله نريد أدباً غنيّ النفس شفيف الروح.