مجله البيان (صفحة 546)

قوموا قياماً ... ثم افزعوا

قصيدة لقيط بن يعمر الإيادي

عبد الحميد إبراهيم

لقيط بن يعمر الإيادي شاعر قديم جاهلي مقل، ولا يعرف له إلا هذه القصيدة، وكانت قبيلته إياد ينزلون سواد العراق، وهي منطقة شمال شرقي الجزيرة

العربية الآن، وكان لقيط كاتباً في ديوان كسرى، ولما علم أن كسرى ينوي غزو

قبيلته إياد كتب إليهم بهذه القصيدة يحذرهم ويستنهضهم، فوقع الكتاب بيد كسرى

فقطع لسانه.

أبلغ إياداً وخلل [1] في سراتهم ... إني أرى الرأي -إن لم أعص- قد صعا

يا لهف نفسي إذا كانت أموركم ... شتّى، وأُحْكِمَ أمر الناس فاجتمعا

ألا تخافون قوماً لا أبا لكم ... أمسوْا إليكم كأمثال الدَّبَى [2] سرعا

فهم سراع إليكم؛ بين ملتقط شوكاً، وآخر يجني الصاب والسَّلعا [3]

لا الحرث [4] يشغلهم بل لا يرون لهم ... من دون بيضتكم رِيّاً ولا شبعا

وأنتم تحرثون الأرض عن سفه ... في كل معتمل [5] تبغون مُزْدَرَعا

وتلبسون ثياب الأمن ضاحيةً [6] ... لا تفزعون وهذا الليث قد جمعا

مالى أراكم نياماً في بُلَهْنيةٍ [7] ... وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا؟!

فاشفوا غليلي برأي [8] منكم حصد ... يصبح فؤادي له ريان قد نقعا

صونوا جيادكم واجْلَوا [9] سيوفكم ... وجددوا للقسي النبل والشِّرعا

لاتُثْمروا المال للأعداء؛ إنهم ... إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا [10]

هيهات لا مال للأعداء؛ إنهم ... إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا

والله ما انفكت الأموال مذ أبد ... لأهلها (إن أصيبوا مرة) تبعا

قوموا قياماً على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا، قد ينال الأمن من زعا

وقلِّدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضَّ مكروه بهخشعا

ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره [11] ... يكون متَّبِعاً طوراً ومتَّبَعا

حتى استمرت على شَزْر مريرته [12] ... مستحكم الرأي لا قحماً ولاضرعا

وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرِّفعا [13]

لقد بذلت لكم نصحي بلا دَخَل [14] ... فاستيقظوا، إن خير العلم ما نفعا

شرح القصيدة

بلِّغ ما سأقول لك قبيلة إياد، واخصص أشرافهم ورؤساهم بهذا التبليغ، فقد

أصبح الأمر واضحاً لا يحتاج إلى انتظار، ما أشد تلهفي وتوجعي إذا واجهتم

التهديد والخطر بالفرقة، واجتماع الناس عليكم بالتفرق والتشتت.!

القوم (الفرس) قد احتشدوا لكم عن آخرهم ينوون غزوكم، وهم مثل الجراد

في كثرتهم، ألا تخشون عاقبة غزوهم لكم؟ !

هاهم يسارعون إليكم، كل منهم يتجهز ويعد العدة لا ستئصالكم. ولم تشغلهم

عنكم دنيا من زراعة وتجارة، بل تركوا كل أعمالهم وشواغلهم وتفرغوا لاستباحة

ساحتكم وقهركم، هذا وأنتم مع كل هذه الأخطار المحدقة بكم لا زلتم من ضعف

عقولكم مشغولين بزراعتكم حريصين على عمل هنا وعمل هناك، آمنين حين

يخاف الناس، مستكينين حيث ينظر الناس للخطر المحدق، لا تحركون ساكناً مع

أن الخطر على مرأى البصر منكم قد تجهز واستعد لإبادتكم.

ما هذا الأمن والدعة والخمول الذي أراكم نائمين فيه، في وقت تدق حولكم

أجراس الخطر وتشتعل حولكم النيران، وقد أذنت ساعة الحرب التي لا مرد لها؟ ! فأجمعوا أمركم على رأي قوي واحد يشفي الفؤاد المتحرق الذي طال انتظاره

للنصر.

استعدوا بكل أنواع الاستعداد وتعبَّئُوا بكل أشكال التعبئة؛ من الاعتناء بالخيل

وتدريبها؛ وتجهيز عدة الحرب من سيوف وقسي، واتركوا صرف الوقت في

تثمير المال جانباً الآن، لأن الأعداء إن يتغلبوا عليكم فلن تنفعكم هذه الأموال التي

ستكونون معها ملكاً للمتغلب. وأي نفع للزرع والإبل الذي تصرفون إليه همكم الآن

إن ضربت عليكم الذلة والمسكنة؟ المال تبع لأصحابه فمن يقهر الناس يسخرهم

ومالهم لمنفعته.

هيا هبوا هبة رجل واحد فالأمر لا يحتمل التأجيل أو التقاعس، ففن لا يحس

بالفزع لن يعرف الأمن. واجتمعوا على قائد مقدام بصير بالحرب قادر على حمل

تبعاتها، لا شخصاً قتل رجولته الرخاء، واعتاد خفض العيش، واستنام إلى الدنيا

وملذاتها، وليس رجلاً ضعيف النفس، ينهار لأول مكروه يعترضه.

أسندوا أمركم لرجل عرك الأمور، وحنكته التجارب، وتقلبت عليه الأيام

بحلوها ومرها حتى اشتد أسره، واستحكمت إرادته، لا هرماً ولا ضعيفاً، ولا

يشتغل بتثمير المال وحيازته وتكديسه، ولا يهتم بأولاده يبحث لهم عن تأمين

المستقبل المادي ويترك الاهتمام بأمر الرعية.

هذا نصحي قدمته لكم مخلصاً، فأفيقوا من غفلتكم ولا تكتفوا بسماع هذه

النصيحة أو حفظها دون العمل بها، فإنه لا خير في علم لاينتفع به.

على هامش القصيدة

هذه القصيدة خطبة حماسية، تعلو نبراتها وتهبط وتتراحب موجاتها وتنقبض

بقدر ما يسمح بذلك (البحر البسيط) ، جملها مباشرة وواضحة، وعناصر الإثارة

فيها نابعة من النظر إلى مشكلة وجود الجماعة برمتها، وهذا أبلغ في التأثير.

وبما أنها من الوضوح بما لا يجعلنا بحاجة إلى الوقوف كثيراً عند التحليل

والشرح؛ فإن من المناسب إلى أن نشير على هامشها بإشارات عدة تلقي الضوء

على دلالتها المطلقة من عقال الحادثة التاريخية المحدودة.

1 - أول ما يحذر منه الشاعر، ويعبر عنه تخوفه وقلقه الشديد منه هو داء

الفرقة، وهذا الداء الذي ينجم عنه تقديم المصلحة الفردية على المصلحة الجماعية،

ويكون الباعث على تجاهل آثاره المدمرة هو قصر النظر وعدم التفكير في العواقب.

2 - الاشتغال بالكسب واستغراقه للجهود مجتمعة - دون تفكير بجانب الوقاية

من المخاطر المتوقعة، وحماية هذه المكاسب من العدو الطامع المتربص بها -أخذ

من الشاعر جهداً غير قليل في التحذير منه..

3 - القضية الثالثة قضية القيادة والريادة ومواصفاتها. فقد أبرز الشاعر

الصفات العامة للقائد المطلوب بأن يكون:

أ - واسع الأفق كريم النفس.

ب - خبير بأمور الحرب.

ج - بعيد عن الترف.

د - صبور قوي الإرادة عند الملمات.

هـ - عنده خبرة وتجربة ولم يقفز إلى القيادة قفزاً.

و غير هرم ولا ضعيف الشخصية.

ز- لا يسخر منصبه لمصلحته الخاصة ومصلحة عائلته.

هذه القضايا الثلاث، بل هذه الأمراض الثلاثة: الفرقة، وتقديم الأقل أهمية

على المهم (الخلل في ترتيب الأولويات أو إهمال بعضها) ، واستغلال المناصب

العامة من أجل الأغراض الخاصة؛ لم تزل أمراضاً قديمة - حديثة، عميقة الجذور

بين المجتمعات البشرية، وعلى الرغم أن كثيراً من الأمم قد وجدت الحلول التي

تحد من أخطار هذه الأمراض (ولا نقول: اقتلعتها من جذورها) إلا أننا - نحن

العرب من بين الأمم - لم نهتد إلى حل يجنبنا الويلات التي عانيناها من الفرقة

والجهل والطغيان والاستبداد.

إن قبيلة إياد التي يستنهضها الشاعر بقصيدته تشكل في عرف تلك الأيام

الدولة بالنسبة للفرد، وهذه الدولة الصغيرة التي كان وجودها مهدداً بتسلط كسرى

وجبروته استطاعت أن تثبت في وجهه وتهزمه عندما تنبهت إلى عوامل القوة

الكامنة، وفزعت إلى قوتها الذاتية وطاقاتها المذخورة.

ولا أريد أن أستغل حرب (ذي قار) التي كانت جواباً عملياً على التحذير في

هذه القصيدة من أجل الإشادة بالنعرة القومية والعصبية العنصرية التي لجأ إليها في

يوم من الأيام أصحاب الفكر القومي الذي قدم مقابل الفكر الإسلامي؛ بل الغرض

هو المقارنة بين حالتين تاريخيتين واستخلاص الدرس والعبرة من أولاهما للثانية

لوجود تشابه بينهما..

ف (إياد) كانت مهددة بقوة خارجية، والعرب الآن مهددون بقوى خارجية،

وإياد كانت أثناء ذلك التهديد غافلة عما يحاك لها. ونحن فينا غفلة شديدة عما يحاك

ويدبر لنا، وكان لقيط بن يعمر هو المحذر من ذلك الأمر المنذر بالخطر، وأهل

العلم والمفكرون هم اليوم الذين يقومون بهذه المهمة.

واستهلاك الجهود في الزراعة والتجارة وتثمير الأموال هو ما يجب أن

يوضع في مكانه الصحيح وأن يضاف إليه جهد آخر هو جهد الدفاع الصحيح

والحماية لهذه الجهود والأموال التي يحتال علينا العدو في اقتناصها بشتى الخدع

والأساليب، فالأموال التي تبقى بعد استهلاك الكثير منها في الفسق والفجور

والكماليات والمشاريع الديكورية، والمظاهر الخادعة وفي غير ذلك مما لا فائدة منه

على المدى الطويل؛ تستهلك عن طريق دعم مصانع الأسلحة الغربية التي تصنع

آلات الدمار والفناء للبشرية المعذبة بسيطرة مفاهيم هذه الحضارة الأوربية

المتغطرسة.

يبدو أننا أنزلقنا من حيث لا نشعر إلى الحديث عن السياسة، ونحن لا نريد

ذلك، ولكن إيحاءات هذه القصيدة دفعتنا إلى هذا الاستطراد الوبيل دفعاً.

وكلمة أخيرة: إذا نحن جردنا تاريخنا من كل ما له علاقة بالإسلام منذ موقعة

(ذي قار) إلى اليوم، واستبعدنا كل اللمعات المضيئة من ذلك التاريخ فماذا يبقى

من أشياء صالحة للاعتزاز بها؟ ! سوف نرى أن أحوالنا ما زالت في تراجع منذ

ذلك الوقت إلى الآن حيث أحيطت كل مجموعة من القبائل والأوزاع بسياج قرئت

عليه طلاسم خرافية سموها (القانون الدولي) وحفظت في أقبية لندن وباريس

ومبنى عصبة الأمم ومن بعدها هيئة الأمم! ورضينا نحن بهذه الخطوط الوهمية

المقروءة عليها تلك التهاويل الخرافية! وهاهي دول الغرب الصليبي، (والاتحاد

السوفييتي الصديق وبلدان المنظومة الاشتراكية) كلها تشارك في تجديد العهد على

إغاظتنا وإنزال الآلام في قلوبنا - بمشاركتها في جلب موجات من اليهود الجدد إلى

فلسطين بعد كل مساهماتها الماضية - على الرغم من تغزلنا بأسمائها، وتمطقنا

بذكرها في الحقبة السوداء الماضية؛ فلا ندري ماذا نفعل، ولا نقف وقفة صحيحة

لا كالمسلمين الذين يأبى عليهم دينهم قبول الضيم، والرضا بنتائج الكيد والخداع؛

بل ولا كعرب الجاهلية الذين استنهضوا فنهضوا، واستفزعوا ففزعوا! ! فهل إلى

خروج من سبيل؟ ! نرجو ذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015