د. صالح العبد الله الهذلول
يعمد بعضٌ لتسويغ تقصيرهم في التربية أو الدعوة والإصلاح إلى رمي التهم على المجتمع، أو على بعض دوائره الرسمية أو الأهلية، أو القائمين عليها، والتقليل من شأن الفرص التي تلوح بين فينة وأخرى؛ فيسارع إليها أرباب الدعوات ويسعون جاهدين إلى استثمارها وتوظيفها لخدمة دعوتهم سواء كانت دعوتهم إلى خير وفضيلة أو إلى ضدها، فـ «كلٌّ يعمل على شاكلته» . يفعل ذلك هروباً من تبعة المساءلة الأدبية أو الضميرية؛ ليوهم نفسه ـ بل يغشها ـ أنه إنما أحجم عن الإقدام؛ لأنه لا فائدة تعود من وراء ذلك.
يبدأ بتجهيز أو تصنيع التهم استعداداً لتوزيعها بدون غلاف على المصلحين والمربين وكافة العاملين بمصالح المجتمع، كلٌّ بالمقاس الذي يناسبه من التهم والشكوك وزرع الإحباط.
وهذه الإضاءة لا تتناول نقد ولومَ من في قلوبهم مرض، ولا يدخل في معناها أعداء الدين والمنافقون، وإنما أعني بها أناساً سيماهم الصلاح، واختاروا التدين عنواناً لهويتهم، لكنه العجز والكسل، وربما الهوى أحياناً يلقي بظله الثقيل عليهم، ليظهروا في الغالب سلبيين في ميدان الدعوة والإصلاح، وعوناً لأعداء الدين والمجتمع في التخذيل. غفلوا عن معنى حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إذا قال الرجل: هلك الناس؛ فهو أهلكهم» . قال أبو إسحاق ـ أحد رجال السند ـ لا أدري أهلَكَهم أو أهلَكُهُم» (?) ، فرُوي بلفظ: أهلَكَهم: أي جعلهم هالكين، لا أنهم هلكوا في الحقيقة، ورُوي بلفظ: أهلَكُهم: أي أشدهم هلاكاً.
قال النووي ـ رحمه الله ـ: «اتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، وتقبيح أحوالهم؛ لأنه لا يعلم سر الله في خلقه، وقال الخطابي: معناه: لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم، ويقول: فسد الناس وهلكوا، ونحو ذلك؛ فإذا فعل ذلك، فهو أهلكهم؛ أي أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم، والوقيعة فيهم، وربما أدَّاه ذلك إلى العُجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم» (?) .
فمثلاً:
1 - الذين يرون التفجير في المجتمعات الإسلامية أسلوباً أمثل للإصلاح، إنما هو تعبير عن العجز عن طلب العلم والتربية والدعوة، والصبر على ما يلاقي في سبيلها.
2 - ومن يختارون الفرار إلى الاستراحات «البريئة» ، وإمضاء الوقت في النقد والتجريح، والقيل والقال، إنما هو فرارٌ من الصبر على تربية الزوجة والأولاد، ومعايشة همومهم، وتعليمهم، وحمايتهم من الانزلاق في وديان الشبهات، أو مستنقعات الشهوات.
3 - الذين يقللون من شأن العلم والتعلُّم، وأنه لا يسمن ولا يغني من جوع في عصر غلبت فيه المادة، وقيمة الإنسان تصعد وتهبط بما يملك من مال، نسوا أن العلم نور، والجهل ضلال وظلام.
4 - إذا علم أن مسؤولاً تولى ولاية معينة، أجهد نفسه في البحث عن معايبه، وغلّب جانب التشاؤم في تعيينه، وربما ضرب أمثلة على أخطاء وقعت من ذلك المسؤول أيام صباه ليستدل بها على عدم كفاءته بعد أربعين أو خمسين سنة من التعلم والتجارب، أو استشهد بموقف حدث بينه وبين ذلك المتولي قبل سنين لم يوافقه هذا الناقد عليه، وغفل عن ملابسات يلزم استيعابها وفهمها لمن أراد إصدار حكم أو تقييم شخص.
5 - يُفتح للناس فرصة من فرص الإصلاح، فلا تعجب ذلك العاجز؛ جرياً على عادته في التشاؤم من كل ما يطرح، ومن ذلكم مثلاً:
أ - الانتخابات البلدية: نظرته إليها: أن المجالس البلدية لا تقدم ولا تؤخر؛ فمن العبث المشاركة فيها، هكذا يظن.
ب - التدابير الأمنية في بعض المواقع، أو على الطرق، أو في ظرف من الظروف، ونحو ذلك، يتسخَّط منها، واصفاً إياها بالتعقيد، وتعطيل مصالح الناس. وجَهِل ما يترتب على إهمال الأمن أو ضعفه، غير مقدر ولا متفهم ما تتطلبه العملية الأمنية من إجراءات وتدابير في مثل هذا العصر المتلاطم بالفتن والمكائد والمؤامرات.
إن الأوْلى إذاً بمن يسلك هذا المسلك، أو يعتمد هذا المنهج المغلِّب لإبراز السلبيات؛ تبريراً لقعوده عن الإصلاح، أن يعيد النظر في هذه المنهجية، وليتذكر أن ليس ثمة خيرٌ محضٌ، ولا شرٌّ محض، كما لا يوجد معصوم سوى الأنبياء.
أوَ ليس كل إنسان فيه نوازع متعددة، وله ميول وشهواتٌ وهذه كافية أن تضعفه عن الاحتفاظ بالتوازن السليم دائماً، فكيف تجهل هذا؟! أو: لماذا تتجاهله؟!
وقديماً قيل:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرءَ نبلاً أن تُعَدَّ معايبه