فيصل بن سعود الحليبي
تصغي القلوب بكل شغف وإنصات لكل وعظٍ نديٍ شفاف، يأسر لبابها، ويشد فكرها، بل ربما لا تملك العيون دمعها حينما تأتي الكلمات صادقة العبارات، شجية النبرات.
وكلما سلّم الناس أفئدتهم لهذا الواعظ، يغسلون درنها بدموع الخشية، ويرفعون عنها ران الغفلة، كانت المسؤولية عليه تجاههم أكبر؛ فإذا كان الوعظ فيه إيقاظ للقلوب بعد سباتها؛ فإننا نريدها أن تستيقظ على شمس واضحة، وجادَّة سوية، وهدف مرسوم.
ولهذا جاءت هذه الوقفات السريعة؛
الوقفة الأولى:
أن يذكِّر الواعظ نفسه بالإخلاص في وعظه؛ لأن عمله هذا عبادة، والعبادة لا بد فيها من الإخلاص. قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] .
الوقفة الثانية:
أن يتحرّى الواعظ لوعظه الزمان والمكان المناسبين؛ فإنه كما قيل: لكل مقام مقال؛ فالمساجد وحِلَق الذكر والتعليم، واللقاءات الأخوية والأسرية أجدها مناسبة لشيء من التذكير والتنبيه من غفلات القلوب وانشغالها بالدنيا، حتى تتحول هذه المجالس إلى شحنات إيمانية يعود المؤمن منها بعطاء أوفر، وبقاء على علو الإيمان أكثر؛ فالنفس بطبيعتها وما يحوم حولها من دواعي الشهوات تميل إلى الفتور والدَّعَة، فتحتاج إلى مثل هذه الجرعات التي تتخلل جدول المرء الوظيفي أو الاجتماعي أو العلمي.
عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيْدِيِّ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ ـ رضي الله عنه ـ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ!! قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيراً! قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ! إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيراً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الملائكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ! سَاعَةً وَسَاعَةً ـ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) (?) .
الوقفة الثالثة:
أن يحرص الواعظ على صحة لغته وبلاغة حديثه؛ بحيث لا يكون كلامه متكسر الشكل، أو مبتذلاً خالياً من جودة الكلمات ورصانة التعبير؛ فإنَّ أبلغ ما وعظ به هو القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وقد جاءا بأبلغ أسلوب عرفته البشرية، ولقد أوصى الله ـ سبحانه وتعالى ـ رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم - أن يختار من وعظه أبلغه فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} [النساء: 63] .
وتأمل وصف الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ ـ رضي الله عنه ـ موعظةَ النبي -صلى الله عليه وسلم - بالبلاغة وما تركته من تأثير بيّن على نفوسهم حيث قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - يَوْماً بَعْدَ صَلاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ» (?) .
وليس هذا فحسب بل سمى النبي -صلى الله عليه وسلم - حٍُسن التعبير وجودة الأسلوب في الخطبة سحراً فقال -صلى الله عليه وسلم -: «وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْراً» (?) .
وتتفاوت هذه البلاغة من جمهور لآخر؛ لأن الهدف هو إيصال الموعظة للقلوب، لا الاستمتاع بألفاظها دون التأثر بها؛ فالمبالغة في تحسين الكلام وانتقائه إذا تعدّى فهم المتحدّث إليهم، كان عيباً في الاختيار، وقد قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ! أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟» (?) .
الوقفة الرابعة:
ألا يكرر الوعظ في زمانين متقاربين؛ فإن النفوس تكل من تكرار الكلام ولو كان جيداً، وهي إذا كلّت عميت، وإنما الوعظ لإحيائها، ويكفي في ذلك قول ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رضي الله عنه ـ حيث قال: «كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا» (?) .
الوقفة الخامسة:
عدم إطالة الوعظ والتذكير، حتى يتسنى للسامع فهم وإدراك ما قيل منه، وحتى لا تستثقله النفوس حينما تدعى إليه مرة أخرى، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم - قد نبّه إليه في خطبة الجمعة؛ فهو في غيرها أوْلى؛ فقد روى مسلم بسنده عَنْ وَاصِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ، قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ! لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ! فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاةَ وَاقْصُرُوا الخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْراً» (?) .
غير أن الواعظ إذا رأى حاجة ظاهرة في الإطالة ولم تكن له عادة يدوم عليها أو يُكثر منها فلا بأس في ذلك، ولعلك تلمح هذا في حديث عَمْرو بْن أَخْطَبَ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - الْفَجْرَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا» (?) .
الوقفة السادسة:
أن يعتني الواعظ في استشهاده بالحديث النبوي بالصحيح منه أو الحسن؛ فما أجمل أن يعلق الواعظ الناس في خطبه بما صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - من أحاديث، وإن فيها لكفاية عما يستأنس به عدد من الوعاظ من أحاديث ضعيفة، وكلما كان الواعظ واضحاً في ذكره لأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم - بذكر حكمها من حيث الصحة بإيجاز كان أقرب في إيقاع التأثير في قلوبهم.
الوقفة السابعة:
أن يتحرّى الواعظ الصدق فيما ينقله من قصص وأخبار؛ فإن الواقعية والمعقولية في ذكر القصص لعامة الناس طريقان سريعان للتقبل والعمل ليس على الأمد القريب فحسب، بل حتى البعيد أيضاً، وانظر إلى وصف الله ـ تعالى ـ قصصه في القرآن بقوله: {إنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62] ، متأملاً أثرها الخالد إلى يوم القيامة، وعليه فمن الخطأ أن ينظر الواعظ ما سيحصل بين يديه من التأثر بما لم يثق فيه من القصص المؤثرة، مقابل أن يهمل مصداقيته المستقبلية في وعظه.
وليس هذا فحسب، بل إن الواعظ حتى لو تأكد من صدق قصته أو خبره، لكنه إن رأى أن فيها من الغرائب ما لا يصدقه عامة الناس، فالأوْلى ألا يحدِّث بها حتى لا تنعدم ثقة الناس فيه وفي علمه، ولقد كان سلف الأمة يفرون من غرائب الأخبار، ومن ذلك قول أيوب السختياني ـ رحمه الله ـ: «إِنَّمَا نَفِرُّ أَوْ نَفْرَقُ مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِبِ» كما أورد ذلك عنه مسلم في صحيحه، بل كانوا يقرنونها بالمناكير من الأحاديث، ومن ذلك قول الترمذي ـ رحمه الله ـ: «زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَثِيرُ الْغَرَائِبِ وَالْمَنَاكِيرِ» .
الوقفة الثامنة:
لا يشك أحدنا أن حكايات السلف ـ رحمهم الله ـ في زهدهم وورعهم وتعاملهم مع الله ـ تعالى ـ وخلْقِه فيها من كنوز الوعظ والتذكير ما تطرب له القلوب، وتهتز له المشاعر، ولكن لما كان في المجتمع فئة تستبعد الوصول إلى حالهم، كان على الواعظ أن يذكر صفحات مضيئة من أحوال الأتقياء والعاملين المخلصين في هذا الزمان، حتى يقْرُبَ المثال، ويُتصور التطبيق.
الوقفة التاسعة:
أن يسلك الواعظ مسلك التفاؤل وفتح طرق التوبة وتسهيلها على الناس، مبتعداً عن أسلوب التيئيس والقنوط، وليتأمل الواعظ أسلوب القرآن في الوعظ في هذه الآية الكريمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] ، وليتأمل أيضاً كيف فتح النبي -صلى الله عليه وسلم - بوعظه آفاقاً مديدة في التوبة والرجوع مهما عظم الذنب أو تفاقم في قصة من قتل مائة نفس، فقد جاء فيها: «ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ! وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟! انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ؛ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ» (?) .
فمن الخطأ أن يهوِّل الواعظ على السائل وقوعه في معصية من صغائر الذنوب بغية تحذيره منها ليدعها ويقلع عنها بوصفه أنه قد وقع في جرم عظيم وأنه بعيد كل البعد عن الهداية ودائرة الالتزام بدين الله؛ لأن هذا يبعده فعلاً عنها، ويقنطه من السير في طريقها، والثبات على أمرها.
ولعل من الجميل أن يضع الواعظ هذا الحديث نصب عينيه حينما يأتيه صاحب الذنب متأملاً فيه أن يدله على طريق التوبة وقد أسرّ له ببعض ذنوبه؛ فقد «جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه، فقال: يا رسول الله! رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه، لو قُسِمَتْ خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم؛ فهل له من توبة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: أأسلمتَ؟ فقال: أمَّا أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: فإن الله غافرٌ لك ما كنت كذلك، ومبدلٌ سيئاتك حسنات، فقال: يا رسول الله! وغدراتي وفجراتي؟ فقال: وغدراتك وفجراتك. فولَّى الرجل يكبِّر ويهلِّل» (?) .
الوقفة العاشرة:
أن يتعلم الواعظ فنَّ الإلقاء؛ لأنه القالَب الذي يصب فيه كلماته، متوخياً في ذلك سنن النبي -صلى الله عليه وسلم - وهديه في هذا الشأن، ومستفيداً من طرائق البلغاء والفصحاء من بعده، ومتزوداً ممن لهم اهتمام بهذا الفن؛ فكم تتحسّر أحياناً وأنت تسمع كلمات رائعة في سبكها، متدفقة في أسلوبها، غير أن خطيبها قد شوهها بصراخٍ لم يكن في محله، أو أماتها بهدوءٍ لم يقع موقعه. يقع ذلك كثيراً حينما يجهل الواعظ مناسبة درجة الصوت وطريقة التحكم فيه لما ينطق به من عبارات وجمل.
الوقفة الحادية عشرة:
أن يخلص الواعظ في نهاية وعظه بنتيجة مختصرة تبقى في ذهن المستمع وتكون له بمثابة قاعدة يسهل عليه تذكرها لنفسه وذكرها لغيره.
الوقفة الثانية عشرة:
أن يستفيد الواعظ من توجيه المستمعين الناصحين له؛ فإن المستمع يدرك من الخلل في مبنى كلام الواعظ ومعناه ما لا يدركه المتحدث نفسه؛ فالمستمع الناصح الأمين كالمرآة، تكشف للواعظ من المثالب ما لا يكشفه بنفسه، ولا ريب أن في المراجعة والتصحيح ارتقاء بالقدرات، وسبيل لنتاج أكثر وأينع.
وأخيراً:
فليتذكر الواعظ المبارك أن أول نفس ينبغي أن يعظها هي نفسه التي بين جوانحه؛ فليكن الوعظ معها أكثر، مُتْبِعاً ذلك بالعمل بما يعظ، فحريٌّ بمن صدق مع الله في وعظه وصدق مع نفسه أن يصدق مع الناس، وأن تنفتح له القلوب المغلقة، ويكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر.