د. عبد الكريم بكار
يمكن القول: إن التربية السياسية تعد بين الأمور التي لا تلقى إلا القليل من الاهتمام في البيوت وفي المدارس وفي وسائل الإعلام. وربما كان هذا امتداداً لرؤية أسلافنا للدولة؛ حيث كان السائد أن الدولة المسلمة عبارة عن كيان يجسد المبادئ الإسلامية بشكل آلي وبدهي، أو أنها على أقل تقدير عبارة عن أداة تنفيذية بيد المبادئ والأخلاق الإسلامية، ومن ثم فإن تحسُّن التدين في المجتمع سيعني بصورة تلقائية تحسُّن أداء الدولة، وتحسُّن التعامل معها إلى جانب تحسُّن تعاملها مع الناس.
وقد تبين من خلال تجربتنا التاريخية أن هذه النظرة مفرطة في التبسيط والتفاؤل؛ حيث ظهر لنا ولغيرنا من أبناء الأمم الأخرى أن الدولة كيان مستقل، له طبيعته وخصائصه، وهو يتمفصل مع المجتمع في معظم الأحيان، ويلتقي معه في أحيان أخرى. ومن وجه آخر فإن شيئاً آخر في هذا السياق يحتاج أيضاً إلى تقييد، وهو الرؤية التقليدية للإنسان والتي كانت تقوم على افتراض أن الإنسان يولد سيداً حراً كريماً عقلانياً في ممارساته ومواقفه.
إن هذه المعاني الجليلة تُغرس في نفوس الناس وعقولهم من خلال التربية ومن خلال استهداف السياسات الإدارية والقانونية لتكوين المواطن الصالح المدرك لمسؤولياته وحقوقه.
لا يكمن جوهر التربية السياسية في حث الناس على ألاَّ يسكتوا على الظلم، وألاَّ يعبروا عن نزعاتهم الفردية بطريقة غير مسؤولة أو حثهم على اتباع القوانين والنظم السارية ... إنما يكمن في تعميق بعض المفاهيم الأساسية عبر ممارسة رجال الدولة، وعبر البيئة التربوية التي توفرها البيوت والمدارس.
ولعل من أهم تلك المفاهيم الآتي:
1 ـ التمسك بالحق القطعي الواضح والمنافحة عنه وحمايته والتضحية من أجله، والاستمرار في محاصرة الشر والباطل الصريح بالطرق المشروعة وفي إطار الآداب الإسلامية السامية.
2 ـ التسامح تجاه الأمور الخلافية، واحترام التعددية في الرأي، ما دام التباين في وجهات النظر في إطار المدلول العام للثوابت والقطعيات.
3 ـ تعزيز روح الحوار والتفاوض والمجادلة بالتي هي أحسن، واعتماد النقاش في بث الوعي أساساً في تغيير الموقف والأوضاع والاتجاهات بعيداً عن القسر والتخويف والإكراه.
4 ـ حين يختلف أهل العلم في مسألة من المسائل؛ فإن للحاكم المسلم أن يختار القول الذي يرى فيه ما يحقق المصلحة العامة في مرحلة من المراحل، واختياره يقطع النزاع على المستوى العملي التنفيذي. أما على المستوى العلمي؛ فإن لكل عالم ولكل فرد الاحتفاظ بما أوصله إليه اجتهاده.
5 ـ لا تستطيع الدولة أن تعمل وفق آراء كل الناس، وإلاَّ فإنها لا تكون مركزاً للتسويات وتنظيم الأولويات وتوازن المصالح.
6 ـ لا يمكن للدولة أن تلبي حاجات كل الناس مهما استهدفت ذلك وعملت من أجله؛ وذلك لأن إمكانات الدولة ـ مهما كانت قدراتها عظيمة ـ تظل في نهاية الأمر محدودة، وطموحات الناس غير محدودة. وقد تعوَّد الناس على مدار التاريخ أن يعملوا باستمرار على تحويل المرفهات والثانويات إلى حاجات أساسية عبر الإغراق في التنعم. لكن الذي يجب على الدولة النهوض له، ومن حق المواطنين المطالبة به هو العدل والإنصاف والنزاهة وتحقيق أكبر قدر من تكافؤ الفرص بين الناس.
7 ـ لا تستطيع أية دولة أن تقطع الجدل حول بعض تصرفات رجالها وحول بعض سلوكهم الشخصي. ومن واجب الناس في هذه الحالة التثبت والتبين، وعدم المسارعة إلى تصديق كل ما يشاع. وعلى القضاء أن يمارس دوره في الحفاظ على المصلحة العامة والبت فيما هو موضع نزاع.
8 ـ يجب على الفرد الامتثال للتنظيمات والقوانين التي تسعى إلى تحقيق الخير العام، ما دامت في إطار المباح والمشروع.
9 ـ حفظُ المال العام وصيانةُ المرافق العامة، وتكثيرُ الأطر التي تقدم خدمة عامة للناس مسؤوليةٌ أخلاقيةٌ وحضاريةٌ في ذمة الدولة والمجتمع.
10 ـ للدولة حقوق على المواطن، وللمواطن حقوق على الدولة، حقوق الدولة واجبات على المواطن، وحقوق المواطن واجبات على الدولة. ويجب على كل طرف أن يؤدي ما عليه إذا أراد أن ينال ما يعده حقاً له.
11 ـ في إطار الدولة الواحدة لا يصح لأي شخص أن يتصرف على هواه فيما يعدّ شأناً اجتماعياً عاماً، وينبغي أن تضاف الحقوق المشروعة للأقلية، كما ينبغي عليها أن تنزل على حكم الأكثرية. وعن طريق الحجة والبرهان والنقاش الحر، يمكن لكل جهة أن تقنع الجهات الأخرى بوجهة نظرها.
12 ـ التشاور واستمزاج الآراء واكتشاف المواقف والتوجهات، والعمل على الاستفادة منها ومراعاتها، هو العمل الذي يبدأ، ولا ينتهي؛ لأنه يشكل حجر الزاوية في الممارسة السياسية.
إن التربية على هذه المبادئ والمفاهيم ـ ومبادئ أخرى على شاكلتها ـ سوف يخفف من حدة ثنائية الدولة/ المواطن، ويوسع أرضية التبادل، ويساعد على تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح المشتركة، كما يساعد على نهوض المجتمع المسلم واستقراره؛ لكن التربية حتى تؤتي ثمارها تحتاج إلى صبر ومثابرة، وتحتاج قبل ذلك إلى البذل والتضحية.