فقه
التسعير في الفقه الإسلامي
عثمان جمعة ضميرية
ما حكم التسعير، وهل هو جائز إطلاقاً، أو محرم إطلاقاً، أو يجوز في حين
دون آخر، ومتى يجوز ومتى لا يجوز؟ هذا ما سنبحثه بشيء من الإيجاز، نبين
فيه آراء العلماء ومستندهم، ليظهر الرأي الراجح، بتوفيق الله تعالى.
-1-
التسعير في اللغة هو: تقدير السعر، أو هو الذي يقوم عليه الثمن، وجمعه:
أسعار، وقد أسعروا وسعَّروا بمعنى واحد، أي: اتفقوا على سعر.
وقال الفيومي في المصباح المنير: سعَّرت الشيء (تسعيراً) : جعلت له
(سعراً) معلوماً ينتهي إليه، و (أسْعَرته) بالألف، لغة، وله (سعر) إذا زادت قيمته، وليس له (سِعْر) إذا أفرط رخصه [1] .
وفي الاصطلاح الفقهي: اختلفت عبارات الفقهاء في تعريفه، وفيما يلي
بعض تعريفاتهم:
1- عرف القاضي البيضاوي السعر بأنه: القيمة التي يشيع البيع عليها في
الأسواق، والتسعير: تقدير هذه القيمة [2] .
2 - وبين ابن القيم حقيقة التسعير، فقال: إنه إلزام بالعدل ومنع عن الظلم،
وهو يشمل تسعير السلع والأعمال، ويتفق في هذا مع شيخه ابن تيمية رحمه
الله [3] .
3 - وعرف الشوكاني التسعير بأنه: أمر السلطان ونوابه، أو كل من ولي
من أمور المسلمين شيئاً، أهل السوق ألا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا، فيمنعون من
الزيادة أو النقصان لمصلحة [4] .
-2-
وقد ذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة والشافعي وأحمد، إلى أنه لا يجوز
للحاكم أن يسعر على الناس مطلقاً، وإن فعل ذلك يكون فعله هذا إكراهاً يكره معه
البيع والشراء، ويمنع صحة البيع عند بعضهم.
وذهب المالكية إلى جواز التسعير في الأقوات مع الغلاء، وقالوا: ليس لمن
أتى السوق، من أهله أو من غير أهله، أن يبيع السلعة بأقل من سعرها، ويمنع
من ذلك. وله أن يبيع بأكثر.
وذهب بعض العلماء، كسعيد بن المسيب، وربيعة بن عبد الرحمن: إلى
جواز التسعير مطلقاً.
وذهب كثير من العلماء، كمتأخري الحنفية وبعض الحنابلة، كابن تيمية وابن
القيم إلى جواز التسعير في أحوال خاصة، بل وإلى وجوبه أحياناً أخرى [5] .
ويمكن تصنيف هذه المذاهب والأقوال ورجعها إلى مذهبين اثنين: مذهب
القائلين بتحريم التسعير ومنعه، ومذهب القائلين بجوازه.
-3-
استدل المانعون للتسعير بأدلة، منها ما يأتي:
1 - حديث أنس رضي الله عنه، قال: غلا السعر في المدينة على عهد
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال الناس: يا رسول الله غلا السعر، فسعر لنا: فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (إن الله هو المسعِّر، القابض الباسط
الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في
دم ولا مال) [7] .
وجه الدلالة في هذا الحديث من وجهين:
أحدهما: أنه لم يسعر وقد سألوه ذلك، ولو جاز لأجابهم إليه.
الثاني: أنه علل الامتناع عن التسعير بكونه مظلمة، والظلم حرام (?) .
2 - ما رواه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه مر بحاطب بن أبي بلتعة، وهو يبيع زبيباً له في السوق، فقال له
عمر: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا [8] . فلما رجع عمر
حاسب نفسه، ثم أتى حاطباً في داره، فقال: إن الذي قلت لك ليس عزمة مني ولا
قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت
فبع.
وقال مالك: لو أن رجلاً أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس، لرأيت أن
يقال له: إما لحقت بسعر الناس، وإما رفعت، وأما أن يقال للناس كلهم - يعني لا
تبيعوا إلا بسعر كذا - فليس ذلك بالصواب [9] ..
3 - قال الشافعى رحمه الله: إن الناس مسلطون على أموالهم، ليس لأحد أن
يأخذها، أو شيئاً منها؛ بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي يلزمهم الأخذ فيها،
وهذا ليس منها. والله تعالى يقول: [لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِل إلاَّ أَن تَكُونَ
تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ] [النساء: 29] [10] .
وقال قاضي زاده الحنفي: إن الثمن حق العاقد، فإليه تقديره، فلا ينبغي
للإمام أن يتعرض لحقه، إلا إذا تعلق به دفع ضرر العامة [11] .
4 - التسعير سبب الغلاء، لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلداً
يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون، ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها
ويكتمها، ويطلبها أهل الحاجة إليها فلا يجدونها إلا قليلاً، فيرفعون في ثمنها
ليصلوا إليها، فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين: جانب الْمُلاك، في
منعهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه،
فيكون حراماً [12] .
-4-
وبالنظر في هذه الأدلة التي سبقت يتبين أنها لا تدل على المنع من التسعير
كقاعدة عامة في كل الأحوال والظروف، ولكنها تدل على المنع من التسعير في
الأحوال العادية التي يكون التسعير فيها مجحفاً بحق البائع أو العامل الذي يقوم بما
يجب عليه من امتناع عن الاحتكار أو التواطؤ لإغلاء الأسعار ورفعها، وذلك أن
الامتناع عن التسعير جاء معللاً، والأحكام تدور مع العلة وجوداً وعدماً.
فالحديث الشريف يبين أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- امتنع عن التسعير
نظراً لأن فيه مظلمة، وذلك لأنه لم يكن هناك ما يقتضي التسعير في ذلك الوقت.
لأن ارتفاع الأسعار لم يكن بفعل التجار واحتكارهم، وإنما كان ذلك نتيجة لعوامل
أخرى لا دخل فيها لهم [13] .
وقد رد شيخ الإسلام احتجاجهم بالحديث وبين علة امتناع النبي -صلى الله
عليه وسلم- عن التسعير فقال: (وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي -صلى الله
عليه وسلم- بالمدينة؛ لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء (أجرة) ، ولا
من يبيع طحيناً وخبزاً، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم،
وكان من قدم بالحب لا يتلقاه أحد، بل يشتريه الناس من الجلابين، ولهذا جاء في
الحديث: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون» [14] ?وكذلك لم يكن في المدينة
حائك، بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما، فيشترونها
ويلبسونها) [15] .
وقال أيضاً: (من احتج على منع التسعير مطلقاً بقول النبى -صلى الله عليه
وسلم- «إن الله هو المسعر ... » قيل له: هذه قضية معينة، وليست لفظاً عاماً،
وليس فيها أن أحداً امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه، ومعلوم أن الشيء إذا قل
رغب الناس في المزايدة فيه، فإذا بذله صاحبه، كما جرت به العادة، ولكن الناس
تزايدوا فيه - فهنا لا يسعر عليهم.
ثم ضرب أمثلة على جواز إخراج الشيء عن يد مالكه بعوض المثل،
وقال: والمقصود أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه
بعوض المثل لمصلحة تكميل العتق، ولم يُمَّكن المالك من المطالبة بالزيادة على
القيمة، فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم وهم إليها أضر؟ مثل
حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره [16] .
وقال الإمام أبو بكر بن العربي في شرحه لجامع الترمذي: (وقال سائر
العلماء بظاهر الحديث، لا يسعر على أحد. والحق: التسعير، وضبط الأمر على
قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، وذلك قانون لا يعرف إلا
بالضبط للأوقاف ومقادير الأموال. وما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- حق وما
فعله حكم، لكن على قوم صح ثباتهم، واستسلموا إلى ربهم. وأما قوم قصدوا أكل
أموال الناس والتضييق، فباب الله أوسع وحكمه أمضى) [17] .
وأما ما رواه الإمام مالك في الموطأ، من قصة عمر بن الخطاب مع حاطب
بن أبي بلتعة فيرى بعضهم: أنه يتعلق بالبيع بأقل من ثمن المثل، وعندئذ فلا
يجوز للحاكم أن يتدخل في تحديد السعر، لأنه إنما يتدخل بالتسعير إذا عرضت
السلعة بأكثر من ثمن المثل لما في هذا العرض من استغلال لحاجة الناس، وأما إن
عرضت بأقل من السعر فلا يجوز التدخل.
فإن قيل: في هذا ضرر على أهل السوق فالجواب: أن هذا باطل، بل في
قولكم أنتم الضرر على أهل البلد كلهم، وعلى المساكين، وعلى هذا المحسن إلى
الناس، ولا ضرر في ذلك على أهل السوق، لأنهم إن شاءوا أن يرخصوا كما فعل
هذا فليفعلوا، وإلا فهم أملك بأموالهم، كما أن هذا أملك بماله [18] .
وقال ابن رشد في البيان والتحصيل: لا يلام أحد على المسامحة في البيع
والحطيطة فيه، بل يشكر على ذلك إن فعله لوجه الناس، ويؤجر إن فعله لوجه الله
تعالى [19] .
وأما أن الناس مسلطون على أموالهم، فهذا صحيح، ولكنه ليس على إطلاقه، إذ هناك قواعد أخرى تحكم على هذا الأصل، كقاعدة رفع الضرر، وقاعدة
المصلحة العامة ووجوب تقديمها على المصلحة الخاصة، كما أن الرضا لا يعتبر
في بعض الحالات التي يتعارض فيها هذا مع مصلحة عامة. كما أن التسعير لا
يخالف آية الرضا في التعامل.
الخلاصة: وبهذا تبين أن التسعير ليس فيه مخالفة للحديث الشريف ولا للآية
الكريمة التي استدل بها المانعون للتسعير، كما أن فيه مصلحة عندما تدعو الحاجة
إليه، لذلك أجازه الحنفية أيضاً: (إذا تعلق به رفع ضرر العامة، فإذا كان أرباب
الطعام يتحكمون ويتعدون عن القيمة تعدياً فاحشاً كالبيع بضعف القيمة، وعجز
القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فحينئذ لا بأس بمشورة من أهل
الرأي والبصيرة، إذا تعدى أرباب القوانين وظلموا العامة، فيسعر عليهم الحاكم
دفعاً للضرر عن المسلمين، بناء على ما قاله أبو يوسف، فإنه اعتبر حقيقة الضرر، إذ هو المؤثر في الكراه) [20] .
كما أجازه الشافعية أيضاً عند الاضطرار، كما نقل ذلك عنهم ابن تيمية وابن
القيم، حيث يقول ابن القيم رحمه الله: (وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة
وتقديرها هو الشافعي، مع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن
يبذله بثمن المثل، وتنازع أصحابه في جواز تسعير الطعام إذا كان بالناس حاجة
إليه، ولهم فيه وجهان) [21] .
-5-
وبهذا أصبح التقارب حاصلاً بين المجيزين للتسعير والمانعين، لأن التسعير
إذا كان ظلماً، والحاجة لا تدعو إليه فهو غير جائز، ولا ينبغي لولي الأمر أن
يفعله. وإن كان فيه مصلحة ورفع ضرر عن العامة جاز لولي الأمر، بل وجب
عليه ذلك إن تعين طريقاً لتحقيق المصلحة.
وهذا هو ما حرره ابن القيم وبسطه وأقام الأدلة عليه حيث قال: (.. وأما
التسعير؛ فمنه ما هو محرم ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس،
وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم فهو
حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من ...
المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل
فهو جائز، بل واجب.
فأما القسم الأول: فمثل ما روي عن أنس: غلا السعر على عهد رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ... ? فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف
من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر - إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق - فهذا إلى
الله، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بحق.
وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها - مع ضرورة الناس إليها
-إلا بزيادة على القيمة المعروفة؛ فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى
للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، والتسعير هاهنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به،
فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته إلزام بالعدل ومنع من الظلم، وهذا
كما أنه لا يجوز الإكراه على البيع بغير حق، فيجوز أو يجب الإكراه عليه بحق.
-6-
إلا أن التسعير ليس قاعدة عامة في المعاملات المالية - كما سبق - فلا يلجأ
إليه ولي الأمر إلا إذا دعت الحاجة، وقد ذكر بعض الباحثين. أربع حالات تتدخل
فيها الدولة بتسعير السلع، بل بإجبار أصحابها على بيعها، وهي نموذج لحالات
أخرى تتحقق المصلحة فيها بالتسعير:
1 - حاجة الناس إلى السلعة.
2 - الاحتكار.
3 - حالة الحصر (حصر البيع بأناس مخصوصين) .
4 - حالة تواطؤ البائعين [22] .
-7-
فإذا اقتضت المصلحة والعدل التسعير، فإن واجب ولي الأمر أن يفعل ذلك،
ولكن يجب أن يحقق هذا السعر العدالة، وأن لا يكون مجحفاً بأحد الطرفين: البائع
والمشتري، وأن لا يدخل على أحدهما الضرر، وبذلك يتحقق السعر الصالح الذي
يسمح بعلاقات أخوية بين البائع والمشتري [23] ، ولتحقيق ذلك يستعين بأهل
الخبرة والرأي.
وقال ابن حبيب من فقهاء المالكية، في صفة التسعير: (ينبغي للإمام أن
يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم استظهاراً على صدقهم، فيسألهم: كيف يشترون؟ وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى
يرضوا به ... وعلى هذا أجازه من أجازه. ووجه ذلك: أن بهذا يتوصل إلى
معرفة مصالح الباعة والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ولا
يكون فيه إجحاف بالناس ... ) [24] .
وجماع الأمر:
أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم تسعير عدل، لا وَكْس
فيه ولا شطط - لا نقصان ولا زيادة - وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه
لم يفعل. وبالله التوفيق.