يوسف العمايرة
«بوبي» ، «دودو» ، «روبي» هي أسماء ليست بعربية، وليست لأشخاص حقيقيين، بل هي (أكرمكم الله) لكلاب ذكية تابعة لما يمكن تسميته (وحدة الكلاب) في الجيش الصهيوني التي دخلت مجال الخدمة الفعلية بشكل واضح خلال انتفاضة الأقصى.
الحواجز العسكرية الصهيونية التي تقطِّع أوصال مدننا وقرانا ومخيماتنا، وعددها بالمئات في الضفة الغربية وقطاع غزة، مع التهدئة أزيل منها حواجز ثابتة كانت موضوعة على المداخل الرئيسة لتجمعاتنا السكانية، واستُبدلت بحواجز متحركة يمكنها في أية لحظة أن توضع بجوار متجرك، أو أمام مؤسستك، أو بالقرب من شرفة بيتك، ولن تتفاجأ للحظة إذا سمعت يداً غريبة تطرق بابك أو نافذتك بخفة ورشاقة، ليلاً أو نهاراً، فافتح.. فلا وقت للاستعلام عن هوية الطارق.
ضيفك لا بد من استقباله، راضياً أم مرغماً، وقد تعلمنا منذ الصغر أن نكرم ضيوفنا ولو كانوا أغراباً أو كلاباً؛ فإكرام الضيف من شيمنا الأصيلة. ومن الضروري أن تتحلى بالصبر والصبر الجميل وأنت ترى كلباً يدخل بيتك رغماً عنك ولا تستطيع أن تزجره أو تنهره. لا بد أن تستعين بالله ـ تعالى ـ إذا رأيت من ضيفك ما يضرّك؛ فهو في هذه الحالة ليس زائراً كريماً، ولا ضيفاً وقوراً، بل هو عدو يملؤه الحقد والغلّ، لن يطرح عليك السلام ولو بلغة سيئة، ولن يمد يده ليصافحك؛ فليس لديه متسع من الوقت، ربما يكون لطيفاً معك لدرجة أنه لن ينقضَّ عليك مع أول إطلالة لك من خلف الباب، فيومئ برأسه ويده أن استَدِرْ أو تنحَّ جانباً وافتح له صدر البيت، فهو لا يريد أكثر من البحث عن الأنفاس الموجودة، وعدّها روحاً روحاً، وتجميعها في ركن واحد أو طردها خارجاً، ثم يأتي بسيده المدجج، وقد أمّن له الدرب ليعيث الاثنان في بيتك أو مكتبك خراباً وإفساداً.. ولا حول لك ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ... هذه قصتنا مع كلابهم، بل هي رواية تتعدد معها فصول المعاناة يوماً إثر يوم، ولا أمل بأن تنتهي إلا أن يشاء الله.
النظرية الاحتلالية الصهيونية، تقدس منظومة الآلة العسكرية بكافة أشكالها، ابتداء من الجندي المدجج، إلى السلاح المحدَّث، مروراً بالقذائف الذكية، وليس انتهاء بكل آلات التدمير المنتشرة في البر والبحر والسماء. كيف لا؟! وكل مظاهر هذه المنظومة التي يُنفَق عليها أكثر من عشرة مليارات دولار سنوياً، تشكل الدرع الواقي للأمن «القومي» للقوم، والأمن الشخصي لكل من يحمل جنسيتهم أو «الهمَّ اليهودي» عبر العالم.
خلال انتفاضة الأقصى قام الجيش الصهيوني بتفعيل دور الكلاب كقوة احتلالية ضاربة، لمواجهة عناصر المقاومة الفلسطينية، ثم للتنكيل بالمواطن الفلسطيني لما في ذلك من محاولة للإذلال النفسي والمعنوي. ولعل هناك أسباباً تدفع جيشهم إلى إقحام هذه الحيوانات في الخدمة العسكرية، ولا ندري تحت أي مسمى أُدرجت: هل في إطار القوى البشرية في الجيش، سلاح المدفعية أو المشاة، أم الأذرع الأمنية الاستخبارية، أم الإمداد اللوجستي..؟ المهم أنها أدرجت وصنفت كقوة عسكرية فاعلة، وأهم المقاصد من ورائها، تخفيف حالة الإحباط وتقليل الإصابة بين الجنود والضباط الذين لا يقل الإنفاق عليهم لتأهيلهم في الخدمة العسكرية ذاك الإنفاق على الكلاب التي يحتاج تدريبها وتأهيلها قدرات بشرية ومادية فائقة؛ غير أنها وعند سقوطها في المعارك ليس لها من يبكيها، ولا وجود لمجموعات رأي عام تناضل من أجلها.
على معظم الحواجز العسكرية التي يتجاوزها الفلسطينيون في تحركاتهم داخل أراضيهم المحتلة، تنتشر الكلاب، ويتناقل الناس الأحاديث والنوادر عن هذه الآفة المنغصة «النجسة» ، حيث يتسلى الضباط والجنود في إطلاق العنان لها لتمارس هوايات التفتيش والإذلال في أمتعة الناس ومركباتهم؛ فإذا كنت طالباً جامعياً، أو باحثاً، أو سياسياً واقتربت من حاجز عسكري؛ فكن رابط الجأش، استرخِ على مقعدك بانتظار الوصول إلى نقطة التفتيش، ولا بأس بأن تطلق العنان لخيالك عبر النافذة، فكّر ملياً بالمستقبل، والتفوق، وواجبات يومك، وجداول أعمالك ومحاضر اجتماعاتك، ومتابعة القرارات الصادرة، وآليات بناء ذاتك، ومدى حاجة أسرتك ووطنك لك ... ولا ضير إن عاد بك الخيال إلى واقعك، لتحاوره بصوت منخفض عن التهدئة مع الاحتلال، ولماذا هذا التأخير عن جامعتك أو عملك؟ ولماذا يستمر الإذلال على الحواجز؟ ... وما أن تبدأ تراقب تلك العجوز أو ذاك الشيخ بعكازتيهما وهما يتسلقان الجبل لاجتياز نقطة التفتيش تفادياً لأوامر الاستدارة ورفع الثياب ـ خوفاً مما وراءها ـ والتدقيق في الهويات، حتى تكون مركبتك قد اقتربت وحان الدور للتفتيش.. اصمد وراقب فقط؛ فالتفتيش سيجري كما جرى في السابق، ولكن ليس على أيدي الجنود هذه المرة، سيكون بوساطة الكلاب قطعاً للنمطية المملة، ومن باب تغيير الوجوه على المواطن الفلسطيني؛ فحالة التهدئة تتطلب تغيير الوجوه والأدوار، ومن يدري؛ فلربما يكون «بوبي» أو «دودو» أو «روبي» أقل قسوة من أولئك البشر الذين فاقت همجيتهم طغيان الحيوان في غابته. لكن المشكلة هنا، أن كلابهم تربية أيديهم، ونتاج إبداعاتهم الخارقة في مجال الإذلال. سيبادرك الكلب بإيماءة، تلحظ منها أنه يأمرك بالترجل من مقعدك، وربما يكرر بأخرى، تأمرك بأن تستدير وترفع ثيابك وتكشف عن بطنك.. فمن يدري؟!! لعلك تتوشح حزاماً طبياً لعمودك الفقري، وحينها لا بد من تفتيشه، هكذا يأمرك كلبهم و «القانون» «قانون» . لا تضجر إذا تسلل «بوبي» إلى حقائبك وأجرى عملية تفتيش دقيقة لأمتعتك؛ فهو يعمل لمصلحتك، ويحرس أمنك الشخصي من نفسك التي يمكن أن تسوِّل لك في لحظة من اللحظات فعل شيء يضرك لا تشكّ بـ «دودو» وامنحه ثقتك المطلقة على كل ما يقوم به؛ فهو ذو يدٍ أمينة، ليست كتلك اليد الطويلة التي كانت تتسلل إلى جيوب محفظة نقودك بحثاً عن أسلحة، فتخرج وقد اختلست الدينار قبل «الشيكل» أو ملاحظة ما هو محظور، أو ما يسيء لدراستك وبرامجك ومحاضر اجتماعاتك.. لا تغضب! «روبي» قصدها شريف، وما في قلبها على لسانها وبين أنيابها، إنها أليفة ولو رأيت عيونها تكتحل باحمرار كلون الدم.. وإن تأخرتَ ساعات على نقطة التفتيش، أو تعطلت بعض أمتعتك؛ فكن ذا روح مرحة، وتمتع بمنظره وهو يمارس هواياته ويفرغ طاقاته الفذة بروح مفعمة بالحيوية والنشاط، وكأنه ينتظر بعد كل إنجاز إشارة تقدير أو رتبة عسكرية لائقة.
إنها كلاب طموحة، وليس من حقك أن تنغص عليها واجباتها، فأعباؤها ثقيلة. بإمكانك أن تعوض نفسك عن أية خسارة لحقت بك بسببها، لكن مهامها غير قابلة للتأخير أو التعويض.
لا تخف إن علا نباحها، أو كشفت عن أنيابها، أو حفرت بأرجلها الأرض؛ فهي لا تستطيع أكثر من إجراء بعض عمليات «التخميش» في الوجه و «التجريف» في الأطراف كما حدث مع بعض الفتية في زنازين (باسْتيلاتهم) احمَدِ الله أنها لم تمتشق السلاح بعد، وإلا كانت كارثة تذكرنا بالمجازر التي قاموا بها وكشفت تقاريرهم أن منفذيها «مجانين» .. والعذر هذه المرة ألطف وأكثر دبلوماسية؛ فالقتل سيكون ناتجاً عن رصاصة «كلب طائش» ، ليس بمقدور أحد أن يوجه له اتهاماً بالقتل أو الإرهاب، لكونه يتفيأ ظلال منظمات عالمية للرفق بالحيوان.
في عصر أحد الأيام من عام 1997م، وعلى مرأى من الأسرى الفلسطينيين في معتقل (مجدو العسكري) المطل على سهل مرج بني عامر شمال فلسطين، ضل أحد القطط طريقه، فاخترق الأسلاك الشائكة ليقع في قبضة أحد كلاب حراسة السجن الضخمة، فالتقطه الأخير بقبلة واحدة مميتة، مزقّته إرباً، ثم حفر له في الأرض ودفنه، وجلس على قبره يهز ذيله هانئاً بجولة مشهودة.
إنها رواية الفلسطيني اليومية مع الاحتلال بكل أشكاله، جيشه وجنوده وطائراته ومدافعه وبوارجه وجداره الفاصل، ثم ها هي كلابه تدخل المعمعان، وهي على مقدرة كبيرة من الحرفية في العمل، والمهنية في أداء الواجب وتنفيذ الأوامر، تتسابق في تفانيها خدمةً لسيدها المحتل مع ثلة بشرية اعتلت رقاب العباد من المحيط إلى الخليج، وأفنت أجيالاً متتابعة من الأحرار والشرفاء، كي تبقى تستظل رضا العم «سام» في محفله، والقوم في بيوتهم الملونة «أبيضها وأحمرها» والوطن والمواطن في حقبة الحُكمين يتلذذ الألم، ويتجرع الأسى، ويتدثر المعاناة.