أ. د. جعفر شيخ إدريس
كما أن هنالك خصائص بدنية تميز الناس باعتبارهم بشراً رغم اختلاف أزمانهم وأماكنهم وبيئاتهم، فهنالك أيضاً خصائص روحية تميزهم باعتبارهم بشراً رغم كل تلك الاختلافات الزمانية والمكانية والبيئية. فالناس ليسوا إذن كما تصورهم بعض النظريات الغربية سجناء في خلايا ثقافية هي التي تحتم عليهم كيف يفكرون وماذا يختارون. كلاَّ؛ بل إن ثقافات الناس المختلفة التي تشمل بالمعنى الحديث عقائدهم وتصوراتهم وقيمهم أشبه ما تكون بالمدن الحديثة. فكل مدينة لها خصائصها وطابعها، لكنها مرتبطة بالمدن الأخرى بشوارع معبدة وهواتف وغير ذلك من وسائل المواصلات والاتصالات. لو أن الناس كانوا كما تُصَوِّرهم أمثال هذه النظريات لما استطاعوا أن يتفاهموا ولا أن يغيروا من عقائدهم أو تصوراتهم التي أورثتهم إياها ثقافاتهم.
إن هذا ما كان ليمكن لولا وجود تلك الخصائص الروحية المشتركة والتي من أهمها ما يمكن تسميته بـ (المعايير العقلانية) التي يقر بها كل الناس باعتبارها معايير صحيحة وإن لم يلتزموا باستعمالها أو قبول نتائجها في كل وقت.
بعض الناس ينظر إلى خلافات الناس فيصيبه اليأس والقنوط: هذا مؤمن وذاك ملحد. هذا مسلم وذاك نصراني أو يهودي أو بوذي. هذا سني وذاك شيعي. هذا من جماعة كذا وحزب كذا وذاك من جماعة أخرى وحزب آخر. لو أن هذا اليائس البائس تذكر أن له عقلاً وأن له معايير يقيس بها ما يقبل وما يرفض لما أصابه هذا اليأس.
نذكر فيما يلي على وجه الاختصار شيئاً من هذه المعايير، ونبين أنها كلها مما افترض القرآن في الناس معرفته، ولذلك حاكمهم إليه. وهذا من أقوى الأدلة على أن هذا الدين هو بلا شك دين الفطرة التي تخاطب الناس باعتبارهم بشراً لا باعتبارهم أصحاب ثقافة محدودة بزمان أو مكان معين.
من هذه المعايير المشتركة بين جميع العقلاء من البشر:
1 - القوانين المنطقية:
أعني القوانين التي ننتقل بها من المقدمات إلى نتائجها اللازمة عنها، والتي نعرف بها أن كل كلام يخالفها لا بد أن يكون كلاماً باطلاً. من هذه القوانين، بل أهمها وجوهرها ما يسمى بـ (قانون الاتساق) أو (عدم التناقض) . فكل الناس، بل حتى الأطفال يدركون أن الكلام المتناقض كلام باطل. فحتى الطفل يدرك أن قولك له: «لقد جئتك اليوم بهدية جميلة، لكنني لم آتك اليوم بهدية» كلام لا معنى له. وكل إنسان حتى الأطفال يدركون أن قولك اشتريت سيارة غداً أو سأشتري سيارة بالأمس، كلام متناقض لا معنى له. لكن ما كل الكلام المتناقض يكون بهذه البساطة والوضوح، بل قد يكون غامضاً يحتاج إلى نظر وتدقيق. من ذلك مثلاً أن المعتزلة كانوا يقولون إن الإنسان خالق أفعاله. لكن هذا معناه أن بعض الأشياء لا يخلقها الله تعالى، وهذا يعني أن الله ليس بخالق لكل شيء وهذا معناه تكذيب القرآن الذي يقرر {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] ، وتكذيب القرآن كفر. فهل نقول لكل من قال ذلك القول إنك كافر؟ كلاَّ؛ فقد كان من إنصاف أهل السنة قولهم إنَّ لازم القول ليس بقول، أي إن القول الذي يلزم منطقاً وعقلاً عن كلام تقوله لا ينسب إليك قوله؛ لأنك قد تكون جاهلاً بلزومه عن قولك. لكن بيان هذا اللزوم من أحسن الوسائل التي يبين بها بطلان الكلام. من أمثلة ذلك في كتاب الله أن اليهود عندما أرادوا أن ينكروا رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم - جعلوا إنكارهم هذا تحت قاعدة عامة هي قولهم: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91] لكن الذي يلزم عن هذه القاعدة العامة أن الله ـ تعالى ـ لم ينزل التوراة على موسى. لكن اليهود يؤمنون بأن التوراة كلام الله؛ ولذلك سألهم القرآن الكريم سؤالاً استنكارياً، فقال ـ تعالى ـ: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] ؟
لعل أعظم موضع استعمل فيه القرآن الكريم هذا المعيار هو في قوله ـ تعالى ـ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .
فهذه الآية لا تقول فقط إن القرآن الكريم لا تناقُض فيه، بل تجعل عدم هذا التناقض دليلاً على كونه من عند الله تعالى؛ لأنه لا يمكن لمخلوق أن يكتب كتاباً في حجم القرآن الكريم وتعدد موضوعاته وخطورتها والمدة الطويلة التي نزل فيها، ثم لا يكون في ما قال تناقض. ولكي تعرف مصداق ذلك انظر في أي كلام كتبه بشر على مدى بعض الأعوام فستجده هو نفسه يعترف لك بأن ما قاله في سنة كذا أو شهر كذا ينقض ما قاله بعد ذلك في سنة كذا وشهر كذا. وانظر أيضاً إلى النظريات البشرية كالديمقراطية والرأسمالية والاشتراكية وغيرها تجد فيها من التناقض ما الله به عليم. وقد كان وجود مثل هذا التناقض السبب المهم والأساس في إنكار بعض النصارى ـ النصارى المسمون بالليبراليين ـ أن يكون ما يسمونه بالكتاب المقدس هو كله من عند الله تعالى. وكان أيضاً سبباً في إنكار الكثيرين منهم لهذا الدين.
ولأن هذا المعيار مما فطر الله ـ تعالى ـ عليه البشر قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن علم المنطق اليوناني إنه علم لا يحتاج إليه الذكي، ولا يستفيد منه البليد. ولو أن الشيخ قال: لا يحتاج إليه العاقل لكان أحسن؛ لأن الإنسان مهما كانت درجته في البلادة لا بد أن يكون له إلمام بهذا المعيار، ولا بد له من استعماله في حياته اليومية.
ولذلك فإنني كنت أعجب من قول بعض الغربيين: إن المنطق شيء خاص بثقافتهم، وأن أمماً أخرى لا تعرفه. بل إن أحد المستشرقين المشاهير تلقَّف هذا القول الظاهر بطلانه فزعم أنه يصدق على العرب، فقال متحدثاً باسمهم.
والذي ينتج عن هذا أننا إذا اكتشفنا شيئاً من التناقض في القرآن؛ فإن هذا يكون دليلاً على غناه وتجاوزه المثمر للفكر التجريدي المجدب. يمكن الاحتفاظ بعبارتين متناقضتين؛ لأن كل واحدة منهما تكشف جانباً من الحقيقة تهمله الأخرى؛ وعليه فإن العبارتين وإن لم يمكن الجمع بينهما منطقياً تعطياننا معاً صورة أكمل للحقيقة (?) .
أقول بل إن العرب شأنهم في ذلك شأن سائر البشر لا بد لهم من إدراك بطلان الكلام المتناقض، وفي كلامهم من الشهود على ذلك ما لا يحصى. وعليه فكما أن هذه المعايير ليست من خصائص الأوروبيين فهي كذلك ليست من خصائص العرب. يدلك على ذلك أن كل أمة من الناس لا بد لها من لغة يتفاهم بها أفرادها، ولا بد أن يكون في هذه اللغة نفي وإثبات، ولا بد للمتكلمين بها من أن يعرفوا أن الشيء لا يمكن أن يثبت وينفى في وقت واحد؛ وهذا هو قانون الاتساق.
وهذا يدلك على خطأ الذين قالوا بتعدد الحق من الأصوليين إذا عنوا به أن يكون الأمر الواحد مُثْبَتاً ومنفياً، أو حلالاً وحراماً أو جائزاً وممنوعاً. ما أروع ما قال الإمام الشاطبي: الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك لا يصلح فيها غير ذلك؛ والدليل عليه أمور ... (?) .
لكن ما زال بعض الناس يستدلون على وجود مثل هذا التعدد المتناقض بقصة اختلاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في فهمهم لقول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلِّيَنَّ العصر إلا في بني قريظة» . فيزعمون أن الرسول -صلى الله عليه وسلم - أقر الفريقين رغم تناقض موقفيهم. وحاشاه -صلى الله عليه وسلم - أن يفعل. إنه -صلى الله عليه وسلم - إنما أقر كل فريق على ما فعل، وهذا يتضمن عدم إقراره له على ما أنكر. فالذين صلوا قبل بلوغ بني قريظة كانوا يرون أن تأخيرها خطأ. والذين أخروها كانوا يرون أن تأجيلها خطأ. فالرسول -صلى الله عليه وسلم - بيَّن لهم أن كِلا الأمرين جائز وهما أمران لا تناقض بينهما؛ فكما أنه لا تناقض بين أن تقول لإنسان إن الصلاة في أول الوقت جائزة وفي آخره جائزة، فكذلك لا تناقض في أن تكون الصلاة قبل بلوغ بني قريظة جائزة وبعد بلوغها جائزة.
وللحديث بقية.