مجله البيان (صفحة 5382)

جعفر

أيمن درواشة

رحت أنفض الغبار عن وجهي وأنفي ناظراً إلى آخر السهل الممتد من أواخر البلاد السعيدة إلى أقاصي الجهة الشرقية حيث جبال المجوس تصفعنا بالنار حتى غدت سهولنا أفران نار ... وأنهارنا دخاناً وبركاناً ... فلا ريح تهب على ديارنا إلا ريح صرصر تنخر العظام.

كانت الأرض قد تشققت من شدة العطش؛ فمنذ زمن بعيد لم تصل إليها قطرة ماء؛ فقد شققها الظمأ حتى غدت كأنها أفواه وحوش.

أثناء حملقتي بالأرض المغبرة، لفح وجهي لفح ريح السموم، وطرق مسامعي صوت جعفر يسعل ... يسعل مرة أخرى ... فأجري إليه.

«جعفر» طفل ... ما زال يغترف البراءة من مهده جارياً نحو لحده ... يسعل الصغير مرة تلو مرة.. أسرعت نحو جرة الماء لعلي أجد فيها قطرات من الماء أو حتى قطرة واحدة، لم أتفاجأ بجفافها ... وأحسست أن كفي قد دخلت في جوف فرن مشتعل.

ويشتد السعال.

جعفر يمد يده حزيناً، ويحاول أن يتشبث بالحياة ... ويسعل مرة أخرى، وينظر في كوب الماء الفارغ حتى من قطرة واحدة.

شعرت أن «جعفر» يقفز ... يصرخ ... ثم يسكت ...

«جعفر» مات من أجل قطرة ماء ... يا أيتها الأرض التي تحاصرها المياه من أقصاها إلى أقصاها! مات طفلك الصغير شوقاً إلى جرعة من مياهك التي استباحها الأعداء ... ويدفعني الخوف إلى الهروب من منزل الموت إلى شوارع القحط، باحثاً عن دموع وأصيح لاعقاً الغبار.

مات «جعفر» .. فلا يجيبني سوى صدى الصوت: مات جعفر.. مات جعفر.

من يسمعني في هذا الوطن المثقوب؟ جعفر مات، هو ذا رجل في الشارع يجري كالمجنون مثلي ... ولكنني لما سمعت أنينه الشاكي أخفيت حزني وخبأت عبارتي وتابعته بعيني إلى آخر المنحنى.

هل أتوقف عند الحي الشعبي؟ أم أركض نحو الحي غير الشعبي أبلغ سكانه دمعتي؟ ... فلعلي أجد فيه عيوناً تحمل الهمّ ... والدمع ... فما زالت عيون أطفاله ونسائه غضّة عذبة نديّة.

شوارعهم تخلو من الهاربين ... قلت: لعلهم يعتصمون في حجراتهم احتجاجاً على مصرع «جعفر» ولعل النساء لجأن إلى مخادعهن يبكين ذلك الطفل المسكين؛ هل أطرق أبوابهم؟

افتحوا ... مات «جعفر» يشكو الظمأ.. ألم تعلموا بعد؟ ضاع صوتي في آفاق الكون.

أطرق باباً آخر.. أسمع البكاء والأنين ... لعلهم يبكون جعفر.. فهل أذاعت وسائل الإعلام هذا النبأ؟

ومن أعلمهم بالنبأ؟

نسيت أن أقفل عينَيِ الشهيد، فظلّ يحملق بالفراغ.

وفي شوارع الحي.. حيث ينام جعفر وعيناه مفتوحتان على فضاء الحي الشعبي.. سارت الدماء حتى وصلت الشارع الذي خلا من ساكنيه، وصرتَ لا تسمع في ذلك الحي صوت غناء أو عزف ... ولا قرعاً لكؤوس.. وظل القحط يأكل الشوارع والشجر.. وظلّت عيناً جعفر تمزّقان الفضاء، طالبتين قطرة دمع تعوّض قطرة الماء التي مات دونها.

أين حدب إخواني وأهل حيي في الحرص على إغاثة الملهوف والتصدق على الفقراء والمساكين ألم يقل الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم - وهو يحذر من الروح المادية التي لا تهتم بإخوانها المحتاجين بأنه لا يلوم الجائع بين المسلمين إذا لم يجد ما يغيثه أن يخرج شاهراً سيفه. حقاً إننا لم نعرف حقوق الفقراء والمساكين، أو على الأصح: إن كثيراً منا من لا يعرف حقهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015