د. حمدي شعيب
«لما فُتِحَت قبرص، فُرِّقَ بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيتُ أبا الدرداء جالساً وحده يبكي.
فقلت: يا أبا الدرداء ما يُبكيك في يومٍ أعزَ اللهُ فيه الإسلام وأهله؟
فقال: ويحك يا جُبَيْر! ما أهونَ الخلق على اللهِ ـ عز وجل ـ إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمةٌ قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمرَ اللهِ فصاروا إلى ما ترى» (?) .
حادثة غريبة رواها عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن والده رضي الله عنهما، وهو يستغرب موقف أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ الباكي الوحيد، ويستغرب تفاعل مشاعره المناقضة لمعظم مشاعر من حضروا فتح قبرص.
وهو الموقف الذي يذكرنا بموقف مؤمن آل فرعون، عندما وقف وحده، لينصح قومه المعرضين عن رسالة موسى ـ عليه السلام ـ إليهم، لعلهم يفيقون ولا يغترون وينخدعون بحاضر ينذر بمستقبلٍ مغاير: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا} [غافر: 29] .
ثم كانت فراسته التي تدل على عمق دراسته للتاريخ البشري؛ إذا تأملنا تحذيره: {يَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر: 30] .
وهو نفس شعور وتخوُّف خبير الفتن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ عندما خالف غيره؛ ووقف وحده، ولم يسأل عن الخير؛ بل سأل -صلى الله عليه وسلم - عن أسباب الشر والفتن مخافة تداول الأيام، فتدركه وتهدد أمته.
عن أَبي إِدْرِيس الْخَوْلَانِي أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: «كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - عَنِ الخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟
قَال: َ نَعَمْ!
قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟
قَالَ: نَعَمْ! وَفِيهِ دَخَنٌ.
قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟
قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ.
قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟
قَالَ: نَعَمْ! دُعَاةٌ إلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا!
فَقَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا.
قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟
قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإمَامَهُمْ.
قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إمَامٌ؟
قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» (?) .
ولا تستغرب رهبة حذيفة ـ رضوان الله عليه ـ وقلقه من خطر تداول الأيام! إذا تدبرت ذلك التحذير من خطر المداولة؛ والذي جاء في سياق خطاب معلمه -صلى الله عليه وسلم -، وهو يحاور مندوب قريش؛ عتبة بن ربيعة، أثناء الجلسة التفاوضية، فأنذرهم: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] .
وهي كذلك؛ رؤية الرجل المؤمن في حواره مع صاحبه الكافر؛ وتدبر أهم وأبرز مفردات خطابه الديني الهادئ الراقي: {وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ إن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 39 - 42] .
ولقد ارتكزت أهم نقطتين في هذا الخطاب الديني الرائد على قاعدة فقه الرجل المؤمن لسننه ـ سبحانه ـ الإلهية:
فالنقطة الأولى: تبين فقهه لسنة الله في بطر النعمة وتغييرها، أو قانون النعم وتغييرها، أو الرؤية الإسلامية للتعامل مع النعم:
لقد «أرشد الرجل المؤمن صاحبه الكافر، وهو يحاوره إلى التصرف اللائق الصحيح، الذي يشكر فيه ربه، ويعمل على دوام نعمة الله عليه. وطالبه بأن يلجأ إلى الله، وأن يعلِّق الأمر على مشيئته، ويجعله مرهوناً بقدرته، وأن يستمد قوته من قوة الله سبحانه» (?) .
وهي رؤية خطاب التيار الإسلامي نفسها، في كل عصر؛ الذي يعبر عن رؤية أمة، اكتسبت خيريتها من الخروج إلى الناس، كل الناس، لتقودهم إلى خَيْرَي الدنيا والآخرة،؛ أمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، منطلقة من قاعدتها الإيمانية، ولتكون شهيدة عليهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] .
النقطة الثانية: تبين فقهه للسنن الإلهية في الذنوب؛ والظلم، والطغاة، والابتلاء؛ وهي القوانين الربانية التي من ثمار فقهها ومعرفتها؛ الرؤية العميقة لقراءة مصير الأمم والجماعات والمؤسسات والأفراد.
وتدبر كيف ختم الرجل المؤمن حواره الهادئ، محذراً صاحبه من الخطر القادم من قِبَلِهِ سبحانه؛ ذلك الخطر الذي يأتي دوماً نتيجة لمقدمات معروفة، وحصاد لأسباب معلومة: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 40 - 41] .
هكذا ختم حواره، بنبره تحذير وإنذار، معلناً في ثقة: إن الله عز وجل المعز المذل، قادر على أن يوكلك إلى سبب عزتك وبطرك وغرورك، ولن ينفعك عندما يرسل ما لم تحسب له حساباً؛ إن الله قادر على أن يهلك جنتيك ويدمرهما. فتوقع يا صاحبي صاعقة مدمرة، تدمر جنتيك، وتزيل ما فيهما، فتصبح كل واحدة منهما تراباً أملس أجرد. أو توقع أن يذهب النهر الذي بين الجنتين، وأن يغور في باطن الأرض بأمره سبحانه، ولن تستطيع أن تعيده!
وهي نظرة مستقبلية استشرافية، لا يدَّعي فيها الرجل المؤمن علمه بالغيب، ولكنها مبنية على قراءة تاريخية ماضوية، واستقراءٍ لحاضر تشهد مسبباته بالمصير المستقبلي المتوقع.
فلمسنا كم كانت دراية ووعي الرجل المؤمن، بكل شهود التاريخ البشري، وبكل سنن الله ـ عز وجل ـ الإلهية في الأنفس أي في عالم الأحياء؛ وهي السنن الإلهية الاجتماعية، وفي الآفاق أي في عالم المادة؛ وهي السنن الإلهية الكونية.
وتوقع لصاحبه الكافر مصيراً، يفسره ويدركه كل من فقه السنن الإلهية المختلفة؛ والتي تعين على قراءة المستقبل من خلال استقراء الحاضر.
- فراسة يصنعها فقه حضاري:
ولو تدبرنا المواقف الراقية لهؤلاء الرواد العظام؛ لوجدنا الكثير من الملامح التربوية الطيبة:
1 - قليلٌ هم أولئك الذين يفكرون عكس التيار؛ فيقرؤون المستقبل المغاير للحاضر، فيكون تفاعلهم مع الأحداث مختلفاً عن غيرهم.
2 - قليلٌ هم كذلك الذين يفقهون سننه سبحانه الإلهية؛ لأن هذا الفقه يهبه الله لمن يستجيب لندائه ـ سبحانه ـ: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ}
[غافر: 21] .
أي يقرؤون التاريخ فيتدبرون عوامل سقوط ونهوض الحضارات والأمم والمؤسسات بل الأفراد.
وعندما نقول إنهم فقهوا السنن الإلهية، فإننا نقصد أنهم عرفوا القوانين الربانية، والقواعد الإلهية الثابتة، وهي التي تؤدي إلى نتائج معينة، لوجود أسباب بشرية وزمانية ومكانية معينة، انطبقت عليها هذه القوانين الإلهية فكان الجزاء أو النتيجة من جنس السبب أو العمل.
وهذه السنن الإلهية تتميز بسمات ثلاث هي: العموم، والثبات، والاطراد أي التكرار إن وجدت الظروف البشرية والمكانية والزمانية.
ونذكر أن السنن الإلهية هي:
أولاً: سنن إلهية كونية تنظم عالم المادة في الآفاق.
ثانياً: سنن إلهية اجتماعية تنظم عالم الأحياء أو الأنفس خاصة البشر.
والقسم الثاني هو الذي يهمنا؛ وهو ما يعرف بالفقه الحضاري.
وهو الفقه الذي يستمد مادته من قراءة التاريخ، ومن التدبر في القصص القرآني.
فكل حدث تاريخي أو بشري فردي أم جماعي، إنما له أسباب أوجدته.
وهذه الأسباب أوجدت خللاً.
وهذا الخلل أوجب العقاب الإلهي، أو الجزاء.
وهذا العقاب أو الجزاء تحكمه قوانين؛ تُعرف بالسنن الإلهية الاجتماعية.
والمعادلة أو القانون أو سلسلة تتابع هذه السنة الإلهية هي كما يلي:
(أسباب تعود إلى العبد، خلل تربوي، عقاب إلهي على هيئة جزاء من جنس العمل) .
3 - ومن هذه السنن الإلهية الاجتماعية التي فقهها هؤلاء الرواد (سنة الله في الأسباب والمسببات؛ أو قانون السببية: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] .
ومنها سنة الله في الفتنة، أو قانون الابتلاء: {إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] .
ومنها سنة الله في الظلم والظالمين، أو قانون الظلم: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس: 13] .
ومنها سنة الله في الطغيان والطغاة، أو قانون الطغاة: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 11 - 14] .
ومنها سنة الله في بطر النعمة وتغييرها؛ أو قانون النعم وتغييرها: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] .
ومنها سنة الله في الذنوب والسيئات؛ أو قانون الذنوب والسيئات: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنفال: 52] .
ومنها سنة الله في الاستدراج؛ أو قانون الاستدراج: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44 - 45] (?) .
ومنها أيضاً: سنة المدافعة أو قانون التدافع الحضاري: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] .
وهو القانون الإلهي أو السنة الإلهية التي تفرز الأصوب والأبقى والأصلح في كل شيء؛ سواء كانت أفكاراً أو آراء أو أفراداً أو أمماً، فإذا توقفت تلك العملية التدافعية الحضارية المختلفة الصور لكان الفساد؛ وهذا من فضله ـ سبحانه ـ من أجل ديمومة واستمرارية العملية الاستخلافية الإعمارية في الأرض.
ومنها سنة المداولة أو قانون التداول الحضاري: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] .
وكذلك سنة أو قانون الاستبدال: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] .
4 - الفراسة الإيمانية إنما تستمد من واقع الخبرة، والدراسة العميقة للفقه الحضاري.
وهؤلاء الرواد كانت لهم خبرة ودراية بعوامل السقوط والنهوض والتداول؛ فلم يغرهم الحاضر، وقرؤوا الأسباب الحاضرة المؤدية للمستقبل المغاير؛ فأنذروا قومهم لعلهم يحذرون أو يرجعون.
وتدبر هذا البكاء المر والعجيب لأبي الدرداء رضي الله عنه!
وتذكر خوف ورهبة حذيفة رضوان الله عليه!
وتذكر، أيضاً، عرضه -صلى الله عليه وسلم -، لصفحات معينة من ملفات عاد وثمود التاريخية!
وتأمل أيضاً فقرة الختام في حوار الرجل المؤمن، وهو يرسم صورة دقيقة لمصير الرجل الكافر، والتي صدَّقتها حوادث القصة بعدها، ولهذا تعتبر أخطر ركائز الخطاب الديني، في كل عصر، بل وتُعتبر حجر الزاوية.
تلك الركيزة التي تفسر لنا أن من بعض أسرار وأسباب وصف المؤمن بالفراسة، وأنه يرى بنور الله سبحانه؛ ذلك لأنه يفقه سننه ـ سبحانه ـ الإلهية؛ ومن خلال هذا الفقه فإنه يستطيع أن يمتلك الرؤية المستقبلية الاستشرافية؛ وذلك باستقراء حوادث الماضي، ومن خلال فقه الواقع والأسباب الحاضرة.
5 - المؤمن، والمؤمن وحده؛ يحتكر (ظاهرة الأنس الكوني) ؛ وهي سمة التناسق والتوافق والتعاون والأنس مع الوجود.
ويستشعر جنديته، وجندية جميع الخلائق، بل الوجود كله للخالق سبحانه.
ويشعر المؤمن أنه والوجود، والوجود كله عبارة عن ستار لقدر الله؛ يتم بهم على الأرض قدر الله وحركة السنن الإلهية، وأنه كأحد الخلائق التي يجري بهم الخالق سبحانه سننه وأقداره، وبحركتهم تتم العملية التغييرية.
وتدبر كيف أن الرجل المؤمن، قد أخبر صاحبه أن السماء وكذلك الأرض، ستشاركان في عملية التغيير والهدم لملكه!
وتأمل كلماته -صلى الله عليه وسلم -، وهو يستقرئ المستقبل والمصير؛ عندما يتم قدر الله بقوم عاد ثمود المارقين عن لحن الوجود المؤمن، على يد الصواعق؛ وكأنها جند رباني تنفذِّ سننه سبحانه.
أما غيرُ المؤمن؛ فإنه يتعامى عن هذه الرؤية؛ لأنه ينتسب إلى تيارٍ، قد وصفه ـ سبحانه ـ بعدم الفقه؛ أي بعدم فقه سننه ـ سبحانه ـ في الكون والحياة: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] .
- شهداء على عصرهم وأممهم:
ولو حاولنا ربط مواقف هؤلاء الرواد؛ لوجدنا سمات عامة تجمع خطابهم، سواء من الجانب التربوي أو الإداري؛ فمنها:
1 - الفراسة الإيمانية أو (الرؤية المستقبلية) .
2 - الرؤية البصيرة المميزة للأشخاص والأشياء والأحداث (مهارة التحليل) .
3 - القدرة على الحوار، وقوة الحجة والمنطق أو (مهارة التفاوض والاتصال) .
4 - الثبات على المبدأ، أو (الشجاعة الأدبية) .
5 - الدراية بالواقع وأخباره، أو (مهارة إدارة المعلومات) .
6 - المبادرة، أو (الإيجابية) .
7 - حب الخير، أو (نظرية اربح وربِّح، أي التوازن في العلاقات والإنجاز) .
8 - الدراية بالتاريخ وأحداثه، أو (الفقه الحضاري) .
9 - الرجولة، وتحمل تبعات الموقف، أو (القيادية) .
وهذه السمات كلها تندرج تحت معنى شامل لها؛ وهي صفة الرائد الذي لا يكذب أهله.
ونقصد بهذه السمات؛ أنها ركائز شخصية الشهيد؛ الذي يتحمل تبعات مقام الشهادة على الواقع وأحداثه وأشخاصه وأشيائه، كما تحدث عنها القرآن الكريم.
ولقد صدق كل منهم في شهادته، وصدَّقه الحق سبحانه.
لذا يمكننا اعتبار كل منهم شاهداً على عصره.
وتأمل كيف ذكرت صفة (الشهيد) ، و (مقام الشهادة) في السياق القرآني؛ في موقف يوم القيامة عندما يبعث الحق ـ سبحانه ـ من كل أمة شهيداً عليها، وهو رسول كل أمة: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}
[النساء: 41] .
فإن المؤمن أيضاً من هذه الأمة القوّامة الراشدة، يستشعر أنه مُكرَّم من قِبَل الحق ـ سبحانه ـ بوضعه في المكانة الرائدة؛ بجعله من الشهداء على الناس: {وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] . فالرسول -صلى الله عليه وسلم - يشهد على هذه الأمة، ويحدد نهجها واتجاهها، ويقرر صوابها وخطأها، وهي تشهد على الناس بمثل هذا، فهي القوّامة على البشرية بعد نبيها؛ وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة. ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج، المختار من الله. ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي وطبقته في حياتها الواقعية؛ حتى إذا انحرفت عنه، وتخلت عن تكاليفه، ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة. وما تزال. ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله) (?) .
ولهذا فإن حملة التيار الديني، يجب أن يستشعروا دورهم القيادي الريادي، وتبعاته الشاقة؛ لأنهم يمثلون الأمة التي جعلها الله من الشهداء على الناس؛ وذلك بشرط الالتزام بالمنهج والجهاد في سبيله.
- المدمرات ... المغيّرات ... الساحقات ... الماحقات:
وسنختزل قضية فقه السنن الإلهية، أو قضية الفقه الحضاري، من خلال المنظور التربوي، إلى قضية هذه الدراسة المتواضعة؛ وهي فقه سنة الله في الذنوب والسيئات، أو قانون الذنوب والسيئات: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنفال: 52] .
حتى نتبين آثار الذنوب والسيئات على الفرد والمؤسسات والجماعات والأمم.
وقد تكون المحصلة النهائية واحدة، وهي التغيير والتدمير سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.
وسنخلص إلى حقيقة ثابتة؛ هي: أن الذنوب مغيِّرات للنعم والخيرات، مدمرات للفرد والمجتمعات، ساحقات للحضارات، وماحقات للبركات، سوس الحضارات.
أما على المستوى الجماعي، أي على مستوى الجماعات والمؤسسات والأمم؛ فإن الذنوب ما هي إلا قوارض أو سوس ينخر في عظام الحضارات، حتى يسقطها.
ويؤيد ذلك الكثير من الشواهد القرآنية والنبوية والتاريخية والواقعية.
والشواهد القرآنية؛ تعلمنا الخطوات المنهجية لدراسة الفقه الحضاري:
1 - وتبدأ الخطوة الأولى: فيأمرنا ـ سبحانه ـ بقراءة التاريخ البشري، والتدبر العميق في ناموسية التغيير الحضاري:
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] .
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
[الأنعام: 11] .
2 - ويقرر ـ سبحانه ـ أن الذنوب والمعاصي هي سبب عملية التغيير الحضاري:
« {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [غافر: 21] ، يقول - تعالى -: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا} هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد {فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ} أي من الأمم المكذبة بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ما حل بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة {وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} أي أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديارات ما لا يقدر هؤلاء عليه كما قال ـ عز وجل ـ: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9] أي مع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أخذهم الله بذنوبهم وهي كفرهم برسلهم {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} أي وما دفع عنهم عذاب الله أحد ولا رده، عنهم راد ولا وقاهم واق، ثم ذكر علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها» (?) .
3 - ويخبرنا ـ سبحانه ـ أن الكوارث والزلازل، إنما تأتي نتيجة لِمَا اقترفته أيدي البشر، لعلهم يدركون هذه السنة الإلهية الاجتماعية؛ وهي سنة الله في الذنوب والسيئات؛ أو قانون الذنوب والسيئات، فيرجعون ويتوبون: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] .
4 - ثم يبين الحق ـ سبحانه ـ كيف تتم عملية التغيير والتبديل الحضاري، وكيف تعمل ناموسية التاريخ في الأمم؟!
وتدبر كيف تحدث عملية التسوس الحضاري، وكيف تهلك الذنوب أصحابها؟!
وتأمل أيضاً؛ كيف تعمل السنن الإلهية الثابتة العامة والمتكررة؟!
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6] .
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} ، أي من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسعة والجنود؛ ولهذا قال: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا} أي شيئاً بعد شيء {وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} أي كثَّرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض أي استدراجاً وإملاءً لهم {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} أي بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترموها {وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} أي فذهب الأولون كأمسٍ الذاهب وجعلناهم أحاديث {وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} أي جيلاً آخر لنختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم فأُهلكوا كإهلاكهم؛ فاحذروا أيها المخاطَبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم؛ فما أنتم بأعز على الله منهم» (?) .
وهكذا تسير سلسلة التغيير:
قانون الابتلاء، نعم ربانية، بطر إنساني، قانون السببية، قانون النعم، قانون الاستدراج، قانون الذنوب والسيئات + قانون الظلم + قانون الطغاة + قانون الاستبدال + قانون التداول الحضاري، قانون التدافع الحضاري.
- الأَكَلَة:
أما على المستوى الفردي؛ فإن الذنوب تسبب خللاً في توازن التركيبة الثلاثية للإنسان التي هي: البدن، والعقل، والروح.
وتبدأ الذنوب عملها في الجانب الروحي، فتؤدي إلى حدوث تصدعات روحية وشروخ نفسية.
وهذه التصدعات والشروخ قسمان:
القسم الأول: التصدعات الظاهرة: وهي الآثار المعلومة، وهي كثيرة؛ فمنها:
1 - الذنوب سبب المصائب:
{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] .
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] .
2 - الذنوب تضعف مقاومة الشيطان:
{إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155] .
3 - المحقرات ... المهلكات!
وصغار الذنوب لها آثارها التراكمية المهلكة: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ضرب لهن مثلاً وكمثل القوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالبعرة، حتى جمعوا سواداً وأججوا النار، وأنضجوا ما قذفوا فيها» (?) .
وتكون النتيجة سقوطاً في حبائل (سلسلة الذنوب) وحلقاتها المتتابعة التي تبدأ بذنب، يتبعه ذنب، ثم يتبعه آخر، حتى يؤدي إلى تغطية القلب بالران، والذي ينتج حجاباً مهلكاً، والعياذ بالله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 14 - 15] .
4 - ثمانية العجز ... ورباعية الابتلاءات:
«فالذنب إما أن يميت القلب، أو يمرضه مرضاً مخوفاً، أو يضعف قوته ولا بد، حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ منها النبي -صلى الله عليه وسلم -؛ وهي: «الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال» .
وكل أثنين منها قرينان:
فالهم والحزن قرينان؛ فإن المكروه الوارد على القلب إن كان من أمر مستقبل يتوقعه أحدث الهم. وإن كان من أمر ماض قد وقع أحدث الحزن.
والعجز والكسل قرينان؛ فإن تخلف العبد عن أسباب الخير والفلاح، إن كان لعدم قدرته فهو العجز، وإن كان لعدم إرادته فهو الكسل.
والجبن والبخل قرينان؛ فإن عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن، وإن كان بماله فهو البخل.
وضلع الدين وقهر الرجال قرينان؛ فإن استعلاء ـ أي استيلاء ـ الغير عليه إن كان بحق فهو من ضلع الدين، وإن كان بباطل فهو قهر الرجال.
والمقصود أن الذنوب من أقوى الأسباب الجالبة لهذه الثمانية، كما أنها من أقوى الأسباب الجالبة: «لجهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء» .
ومن أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله، وتحوَّل عافيته إلى نقمته، وتجلب جمع سخطه» (?) .
5 - ناسفات الجبال:
وهناك من الذنوب ما لها القدرة على نسف جبال من الحسنات؛ وهي التي تتم بعيداً عن أعين الناس.
عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَال: َ لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ هَبَاءً مَنْثُورًا. قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ! قَالَ: أَمَا إنَّهُمْ إخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» (?) .
وما تجرؤوا على هذا إلا أنهم {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108] .
و «هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها؛ لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم، ولهذا قال: {وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} . تهديد لهم ووعيد) (?) .
القسم الثاني: التصدعات الباطنة:
وهي الآثار النفسية الخفية، والروحية الباطنة.
حيث تعمل الذنوب عملها في تركيبة الإنسان الثلاثية دون استشعار العبد لها، خاصة الجانب الروحي؛ فتؤدي إلى حدوث تآكلات روحية، وكأنها قوارض أو آكلة.
وينتج عن ذلك ظاهرة اعتلالية تربوية وروحية؛ تسمى (ظاهرة التآكل الروحي) .
1 - فما معنى ظاهرة التآكل الروحي؟
وهي ظاهرة تنشأ من خلل في التوازن التربوي بين طاقات العبد الثلاثة، وهي: طاقة العقل، وطاقة البدن، وطاقة الروح. حيث يقل حظ الجانب الروحي في أعمال العبد، مثل التفريط في بعض الفرائض، وغيرها من أعمال اليوم والليلة من السنن، مثل الذكر والدعاء والاستغفار، وتلاوة القرآن.
وينشأ نوع من الخلل أو الانفصام المركب:
أولاً: داخلياً يستشعر العبد قسوةً وجفاء مع نفسه.
ثانياً: خارجياً يستشعر العبد قسوةً وجفاءً مع الوجود كله.
والنتيجة هي الشعور بأن النفس والوجود يتنكران له؛ فما هي بالنفس، وما هو بالوجود الذي يعرفهما.
وبمعنى آخر؛ هي الظاهرة التي تبحث في حالة صدأ القلب، أو حالة الجفاء الروحي، التي يستشعرها العبد المؤمن، عندما يقصر في طاعته سبحانه؛ فلا يستشعر للعبادة حلاوة، ولا للطاعة لذة، ويقاسي ألم البعد عنه عز وجل، ويتحول هذا إلى شعور بوحدة قاسية، ومسافات شاسعة، وحواجز نفسية تفصل بينه وبين الخلائق، خاصة الصالحين.
ويسير في الأرض ـ والعياذ بالله ـ كالحيران الذي تتقاذفه عوامل الجذب في كل اتجاه، ويصبح كحلبة يلتقي عليها المتصارعون؛ أو يكون نقطة التقاء للصراع عليه بين استهواء وإغواء شياطين الإنس والجن، وبين رفقة الخير من الدعاة المصلحين: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71] .
ويمتد هذا الشعور بغياب لذة الطاعة وألم البعد عنه ـ سبحانه ـ إلى حالة من غياب الرغبة في الحياة عموماً، وضياع اللذة في المعيشة في الدنيا، ثم فوق ذلك؛ استشعار خيبة الأمل في النجاة في الآخرة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] .
وهو تحذير إلهي، لكل من «خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه؛ فإن له معيشة ضنكاً؛ أي ضنك في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله؛ وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى؛ فهو في قلق وحيرة وشك؛ فلا يزال في ريبة يتردد؛ فهذا من ضنك المعيشة. عن أبي سعيد في قوله {مَعِيشَةً ضَنكًا} قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه. وقال عكرمة: عَمِيَ عليه كل شيء إلا جهنم، ويحتمل أن يكون المراد أنه يُبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة» (?) .
وهذا الشعور ما هو إلا نتيجة لعقاب الله ـ عز وجل ـ للعاصي والمسرف المقصر في طاعته سبحانه.
2 - هل ظاهرة التآكل الروحي سنة إلهية؟
وعندما نقول إنها سنة إلهية، فإننا نقصد أن هذه الظاهرة هي محصلة لفعل قوانين ربانية، وقواعد إلهية ثابتة، أو هي نتيجة لوجود أسباب بشرية وزمانية ومكانية انطبقت عليها القوانين الإلهية فكان الجزاء في صورة تلك الظاهرة.
إذن هذا الجفاء الروحي نتيجة لخلل ترتب على وجود أسباب بشرية من فعل العبد.
وعندما نقول إن ظاهرة التآكل الروحي سنة إلهية اجتماعية؛ فإننا نقصد أنها من القوانين الربانية والقواعد الإلهية المنظمة لعالم الأحياء، أو الأنفس، وخاصةً البشر.
أي أن لها أسباباً أوجدتها.
وهذه الأسباب أوجدت خللاً.
وهذا الخلل أوجب العقاب الإلهي؛ أو الجزاء.
وهذا العقاب تحكمه قوانين؛ تعرف بالسنن الإلهية الاجتماعية.
والأسباب أو الظروف البشرية هنا هي التقصير بكل درجاته.
والنتيجة المترتبة هي حالة القسوة القلبية والانفصال عن المنظومة الكونية العابدة.
والمعادلة أو القانون أو سلسلة تتابع هذه السنة الإلهية؛ هي كما يلي:
(أسباب تعود إلى العبد، خلل تربوي، عقاب إلهي على هيئة جزاء من جنس العمل) .
وبمعنى أبسط: هذه الظاهرة، أو هذا الشعور ما هو إلا نتيجة لعقاب الله ـ عز وجل ـ للعاصي والمسرف المقصر في طاعته سبحانه.
أي إذا قصر العبد في طاعته ـ سبحانه ـ فإنه يترتب على ذلك خلل داخل العبد مع نفسه، وخارجه؛ أي مع المجتمع ومع الوجود العابد لربه، وهنا تأتي السنة الإلهية في هيئة عقاب من نفس نوع الأسباب التي عملها العبد؛ أي يزيده بعداً وجفاءً مع نفسه ومع الوجود من حوله.
وتدبر هذا الحوار بين العبد وربه؛ فلقد تساءل العبد ما جرمه وما سبب هذا العقاب، وكانت الإجابة منه ـ عز وجل ـ حيث يبين الحق سبحانه هذا القانون القرآني العام، أو السنة الإلهية الاجتماعية التي تنطبق على كل من أسرف في الذنوب، وقصر في الطاعة.
«ولهذا يقول: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه: 125] ؛ أي في الدنيا. {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 126] ؛ أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها؛ كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51] ؛ فإن الجزاء من جنس العمل» (?) .
ثم يبين الحق ـ سبحانه ـ هذا القانون القرآني العام، أو السنة الإلهية الاجتماعية؛ والتي تنطبق على كل من أسرف في غيه وكذب بآياته سبحانه:
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127] .
«يقول ـ تعالى ـ: وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. لهم عذاب في الحياة الدنيا {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [الرعد: 34] ، ولهذا قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} ؛ أي أشد ألماً من عذاب الدنيا وأدوم عليهم؛ فهم مخلدون فيه، ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين: «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» (?) .
وللمزيد من تحليل هذه الظاهرة؛ من حيث الأعراض العامة والخاصة، وكذلك سبل العلاج؛ والتي منها العام ومنها الخاص؛ فتراجع (ظاهرة التآكل الروحي) عند المسلمين عامة، وعند الدعاة خاصة (?) .
- حذارِ ... من المثيرات ... والقوادح!
وأخيراً؛ إذا كانت السنن الإلهية ما هي إلا سلسلة أو متوالية من التفاعلات يحكمها قانون رباني ثابت وعام ومتكرر إن وجدت ظروفه البشرية والمكانية والزمانية، وكأنها معادلة كيمائية تحتاج إلى ظروف معينة وعامل مساعد؛ يحركها أو يقدح شرارة التفاعل.
فعلى العبد دوماً أن يخشى أي عامل إثارة يقدح زناد معادلات القوانين الربانية؛ فتعمل عملها فيه كفرد وفي مؤسسته التي ينتمي إليها، ثم في أمته.
وهذه تسمى أيضاً مثيرات السنن الإلهية.
وتسمى أيضاً قوادح السنن الإلهية.
وإذا كانت الدموع المرة التي سكبها أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ عند أسوار قبرص في يوم من أيام الله؛ وذلك لخشيته من خطر الذنوب على الفرد والأمم؛ كان برؤيته هذه ينبه إلى أخطر قادح أو مثير من مثيرات السنن؛ ألا وهي الذنوب.
فإن أفتك ما يتعرض له العبد والأمم أيضاً؛ من مثيرات للسنن الإلهية بعد الذنوب؛ هي سهام الليل التي يرسلها المظلومون.
لذا ينبغي للعبد ألا يعرض نفسه لهذه الأنات المكبوتة:
ألا أقولُ لشخصٍ قد تَقَوَّى على ضعفي ولم يخشَ رقيبَهْ
خبأتُ له سهاماً في الليالي وأرجو أن تكونَ له مصيبَهْ