محمد بن عبد الله السحيم
خلق الله الإنسان ظلوماًَ جهولاً، ونوّر بصيرة من شاء بالعلم والعدل، وقضى عليهم بسنته أن يخالط بعضهم بعضاً؛ تسخيراً لهم، وابتلى بعضهم ببعض، ليمتحن صبرهم {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] ؛ فأضحى ميزان القسط الضابط لعلاقتهم مطلباً ملحّاً؛ ليسلم المرء من ظلمه وجهله.
هذا، وإن من أبرز معالم ذلكم الميزان مَعْلَم الحكم على الآخر، فرداً كان أو جماعة؛ إذ به يُعْطِي المرء ما عليه من الحق، ولا يُمنع مما يستحق. وفي هذا المقال سأتناول ما يخص الحكم على المسلم فرداً أو جماعة، سالكاً درب الاختصار، ومتطفلاً على موائد أهل العلم الأخيار، سائلاً ربي المعونة والادِّكار. وقد انتظم عقد المقال في ثلاث مسائل وخاتمة، بيانها التالي:
- المسألة الأولى: خطورة الحكم على الآخرين:
تكمن خلف الحكم على الآخر مخاطر عدة، تجعل المرء يستأني في الإقدام عليه، ويتوخى الحذر منه، وذلك لمخالفته الأصول العظيمة المراعاة في الشريعة، وخاصة في أحكام الثلب. فمن هذه الأصول:
1 - أن الأصل في دم وعرض المسلم العصمة إلا ما استثناه الدليل؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم -: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله» (?) .
2 - أن الأصل في المسلم السلامة، ولا محيد عن هذا الأصل إلا بدليل.
3 - أن الأصل عدم صدور الأفعال والأقوال ـ مناط الحكم ـ من الأشخاص إلا إن ثبت بالدليل خلافه.
ولا بد في مخالفة هذه الأصول من معارض راجح يسوغ الكلام في المحكوم عليه.
ومما يزيد في خطورة الأمر أنه متعلق بحق آدمي، وحقه مبني على المشاحَّة، ولا يسقط إلا بالاستيفاء أو المسامحة، إضافة إلى ورود نصوص زاجرة محذرة من إيذاء المسلم ورميه بما هو بريء منه. قال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58] «ولهذا كان سب آحاد المؤمنين موجباً للتعزير، بحسب حالته وعلو مرتبته؛ فتعزير من سب الصحابة أبلغ، وتعزير من سب العلماء وأهل الدين أعظم من غيرهم» (?) ، وقال -صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» (?) . وقال -صلى الله عليه وسلم -: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك» (?) ، وقال: «إن أربَى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه» (?) . قال ابن دقيق العيد: «أعراض الناس حفرة من حفر النار وقف عليها المحدثون والحكام» (?) . ويزداد الأمر خطورة بمآلاته ـ خاصة إن صدر من مُتَّبَع ـ فكم من آصرة قُطعت، ومشاريع عطلت، ودماء سفكت، وخيرات ذهبت، وصفوف تخلخلت، وقيادات هُمشت، ورويبضة سودت، وفتن أوقظت، وأعداء سلطت! إلى غيرها من المصائب الناجمة عن هذه الأحكام العوراء.
فإذا كان الأمر مُكتنَفاً بهذه المخاطر؛ وجب على المرء ألا يُقْدِمَ عليه إلا بمسوِّغ شرعي مضبوط بشروط الحكم وهو ما سنتناوله في المسألة الثانية.
- المسألة الثانية: شروط الحكم على المسلم:
لا بد من معرفة شروط الحكم ليقام على أساس صحيح؛ فإن اختل منها شرط اختل الحكم. والشروط خمسة، بيانها ما يلي:
1 - التجرُّد والإخلاص:
وهو من أبرز أسباب التوفيق، بل هو أساسه، وسبيل تحصيل الثواب؛ فلو أصاب الحكم بلا نية فلا ثواب له (?) ؛ وعليه فليكن القصد موافقة الحق من إصابته ابتغاء مرضاة الله؛ وطلب ثوابه؛ لا نفوذ فيه لهوى أو سمعة أو رياء.
فإن قلت: ما السبيل للتجرد؟ وما منهجية تطبيقه؟ فالجواب ـ كما قال ابن القيم ـ: «فإذا أردت الاطلاع على كُنه المعني: هل هو حق أو باطل؛ فجرده من لباس العبارة، وجرد قلبك عن النفرة والميل، ثم أعطِ النظر حقه ناظراً بعين الإنصاف ... » (?) . هكذا يكون التجرد، ويسلم الأساس الأول؛ فإذا تحقق أتى الشرط الثاني.
2 - وجود المسوّغ:
فإن انعدم المسوغ ـ وهو الأصل إلا إذا عورض براجح ـ كان خوضاً فيما لا يعني. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (?) ، وإن كان الكلام بالقدح؛ صار ولوغاً في الحرام ووقوعاً في الآثام؛ فإن استوى وجود المسوغ وعدمه، فالأصل انتفاء الحاجة؛ والسلامة لا يعدلها شيء. وضابط الحاجة: أن تتعلق العناية بهذا الأمر بحكم الشارع، لا بالهوى وطلب النفس (?) .
قال الحسن: «من علامة إعراض الله - تعالى - عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه» (?) ، وقال سهل التستري: «من تكلم فيما لا يعنيه؛ حُرِم الصدق» (?) ، وقال معروف: «كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله، عز وجل؛ ولا أدل على هذا الخذلان من ضياع أوقات وقدرات وفرص ومكاسب من ابتلي بالكلام في الناس بلا حاجة (?) . والله المستعان.
3 - العلم: وله شقان (?) :
أ - العلم بالواقع:
والمراد به: العلم بصدور مناط الأحكام، وهي الأفعال والأقوال، ممن يحكم عليه؛ إذ الميزان هي الأفعال والأقوال. ويقوم هذا العلم على أسس لا بد من سلامتها لسلامة النتيجة، وهي ما يلي:
(?) التأني والتثبت:
والعمدة في ذلك قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] ، قال الحسن: «المؤمن وقَّاف حتى يتبين» ؛ فلا تَحِدْ عن هذا الأصل، خاصة في هذا الزمن الذي تعددت فيه قنوات المعلومة، وكثرت فيها الشائعات، وعم الفسق كثيرها، وطمَّت جهالةُ الحال أكثر نقالها؛ فوجب التثبت، حتى تدل الدلائل والقرائن على صدقها، وإلا ردت (?) ، فإن ثبتت المعلومة بقي معرفة بساط حالها.
(?) معرفة بساط الحال:
وهي معرفة ظروف وملابسات الفعل والقول: ممن صدر؟ ولماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟ فلربما أفاد القول أو الفعل بملابساته معنى غير المعنى المجرد عن معرفة الحال. ومن الأمثلة على ذلك كلام الأقران في بعضهم، والتفريق بين حال الإلزام والمناظرة وبين التقرير، والإكراه والاختيار، والعلم والجهل، وهكذا حال تغير الأعراف؛ إلى غير ذلك من العوامل المؤثرة المعتبرة.
(?) الحمل على أحسن المحامل:
قال سعيد بن المسيب: «كتب إليّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «أن ضع أخاك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً» (?) . هذا هو منهج الشرع الذي أرشد الله إليه بقوله: {لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] ، وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات: 12] ، كل هذا ليعيش المسلمون في وئام ونقاء؛ إذ أغلب الأمور ظنون، والشيطان متربص، والنفوس مجبولة على الضعف.
ب - العلم بحكم الشرع المطابق للواقعة:
فلا بد لكل نازلة من حكم في ساح الشرع متوافر الشروط، سالم من الموانع؛ كالتفسيق، والتبديع، والتكفير، والكفارات، والتوبة، والقضاء، والاستيفاء؛ فإن لاح الحكم للناظر، وإلا فلا يحل له أن يحكم، بل يسأل أهل العلم بعد ذكر الواقعة وافية دون وكس أو شطط.
4 - العدل:
وهو ميزان القسط الذي أمر الله ـ سبحانه ـ به. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، وقال: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل: 90] ، وللعدل في الحكم على المسلم علائم يجب ألا تُغفَل، منها:
1 - الموازنة بيد الإيجابيات والسلبيات: كما هو ميزان العدل؛ إذ من الظلم المقيت نسف جهود أشخاص وجماعات بأخطاء ما وزنت بإزائها، ولم يرجح بينها، كما قال محمد بن سيرين: «ظلمٌ لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره» (?) ؛ فالعبرة بالكثرة، ولا يعني هذا إقرار الخطأ؛ فالخطأ يصوّب وإن عُذِرَ فاعله، كما صوّب النبي -صلى الله عليه وسلم - خطأ الأعرابي الذي بال في المسجد، مع أنه قد عذره ولم يعاقبه، بل أنكر على من همّ بمعاقبته (?) .
2 - ترك المبالغة في الثناء والثلب: بل يُعطَى الحكم حجمه بلا تهويل أو تهوين؛ إذ ربما راج حكم خطل ببريق عبارة، وتحسين إشارة.
3 - جمع النصوص والأحوال: كما هو المنهج المعتمد في أحكام الشرع؛ فرب إطلاق قد قُيّد، أو إجمال قد بُيّن، أو تعميم قد خصص، أو مفهوم قد رده منطوق، أو اعتراه نسخ. وهذا المَعْلَم من أبرز دلائل إنصاف الحاكم.
4 - خطأ الفرد لا ينسب للجماعة: فمن الظلم اطِّراح جهود جماعة وتسفيه رؤاها بخطأ بعض أفرادها؛ إذ الأصل أن الفرد في تصرفه لا يمثل إلا نفسه ما لم يدل الدليل على غيره، «ولأجل هذا لا يصلح أن ننتقد جماعة لخطأ وقع فيه بعض من ينتمي إليها، حتى ولو كان هذا الخطأ صدر عن رئيسها؛ إذ ليست كل أقواله وأفعاله تنسب إلى الجماعة وتتحمل تبعتها، وإن من يعيب جماعة من الجماعات الإسلامية لخطأ بعض أفرادها، فمثله كمثل من يعيب الإسلام جهلاً وظلماً؛ ألسنا نقول للناس: لا تنظروا إلى الأفراد، ولكن انظروا إلى الإسلام بصفته وحياً في القرآن والسُّنة، وعندها ستجدونه شرعاً فريداً» (?) .
هذه خلاصة الشروط، وهي ترجع إلى أصل العلم والعدل. قال شيخ الإسلام: «والكلام في الناس لا بد أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع» (?) .
- المسألة الثالثة: أمور ينبغي مراعاتها في الحكم:
إن استكمل المناظر شروط الحكم، ولاحت له علاماته، بقي عليه أن يجيل نظره في أمور لا غنى عنها لسلامة حكمه، وهي كما يلي:
1 - اعتبار المآل: فالأحكام لها متعلقات ومآلات، «والنظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً» (?) ، ودور ذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جارٍ على مقاصد الشريعة» (?) .
2 - الاستشارة: وهي من الفقه العظيم، ذات الأثر الخيري الجسيم، ولذلك أمر الله نبيه بها، فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] . قال الأحنف: «اضربوا الرأي بعضه ببعض يتولد منه الصواب» (?) ، وكان يقال: «بإحالة الفكرة يبتدر الرأي المصيب» (?) ، وقال عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ: «ما نزلت بي قط عظيمة فأبرمتها حتى أشاور عشرة من قريش مرتين؛ فإن أصبت كان لي الحظ دونهم، وإن أخطأت لم أرجع على نفسي بلائمة» (?) ، وحسبك بأعراض المسلمين عظيمة؛ وتزداد التبعة إن عظم المتعلق.
3 - احذر أن تصاب بوهم (الحق معي) : لأن الحكم ظني غالياً؛ فالمعلومات يشوبها ما يشوبها، وهكذا النية والنظر؛ فاجعل للرأي الآخر مكاناً عندك، كما قال الأحنف: «اضربوا الرأي بعضه ببعض يتولد منه الصواب، وتجنبوا منه شدة الحزم، واتهموا عقولكم؛ فإن فيها نتائج الخطأ، وذم العاقبة» (?) .
4 - عفة اللسان: فـ «من لوازم الورع: أن يكون الناقد عفيف اللسان، يكسو ألفاظه بأحسن الأدب، ويختار أدلها على المقصود بألطف عبارة، ويربأ بنفسه عن الفظاظة والغلظة، ووضيع الكلام؛ فما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا متفحشاً ولا بالبذيء» (?) . قال المزني: «سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول: فلان كذاب، فقال لي: يا إبراهيم! اكسُ ألفاظك! أحْسِنْها! لا تقل: كذاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء» (?) .
هذا؛ وإن لعفة اللسان أثراً في قبول الحق، والرجوع إليه، وإصلاح الزلل، فقديماً قيل: «قبل أن تُغضب أحداً فليسمع منك!» ، وخاصة أن المقصود حاصل بالكلام العف. هذا منهج الشرع، وهو الأصل إلا لمعارض راجح، وإن شك فيه؛ فالأصل عدمه، واليقين لا يزول بالشك.
وبعد أيها الحبيب: فالموضع كما رأيت مزلة قدم؛ أنت محفوف فيه بين الغيبة، وحقوق الآدميين، والنفس الظلومة الجهولة، والتجرد عزيز، والعاقبة وخيمة؛ فحذارِ حذارِ أن تريق حسناتك بفلتات لسانك؛ فإن الطالب شحيح، والشهود الأعضاء، والحَكَم العليم الخبير. رزقنا الله ـ سبحانه ـ الفقه في دينه، وثبتنا عليه، والله أعلم.