ماجد حمد الماجد
افتراق الأمة واقع يتفطَّر له قلب كل مسلم، وحقيقة معاشة يكابد ألمها كل مصلح، واجتماع الأمة ووحدة كلمتها ماضٍ جميل لا تفتر أفواه الغيورين من ترديده والتذكير به، وحلم يتراءى لكل فرد من هذه الأمة صادق الإيمان.
وبين هذه الحقيقة المؤلمة والحلم الجميل تختلف مدارك الكثيرين وتتباين مواقفهم تجاهه.
فطائفة ركنت لهذا الواقع المؤلم واستسلمت له، ورأت الفرقة حقيقة لا يمكن الانعتاق منها، فبُليت باليأس وقنطت من زوالها، وأصبحت أمة الجسد الواحد ـ عندهم ـ حقيقة تاريخية عفا عليها الزمن، فسعت إلى تجسيد هذه الفرقة بالقول والعمل، تارة باسم العقلانية والواقعية، وتارة أخرى تحت شعار (مصالحنا أولاً) .
فقد رأت في افتراق الأمة مجالاً رحباً للبوح بأنانيتها المفرطة دون مواربة، وانفكاكاً من أداء واجباتها نحو أمتها، فلا جراح هذه الأمة المكلومة تدمي مقلتيها، ولا العوز والفاقة ـ اللذان يجثمان على صدر الكثير من أبناء أمتها ـ يحركان مكامن نفوسها، أو ينقصان من ثرائها.
فلا تعجب إذا رأيتها تصب جام غضبها على إخوانها، وتقرعهم بشديد عتابها، وتحمِّلهم تبعة كل مصيبة تحل بهم، وفي الوقت ذاته تبحث عن أسمج المعاذير وأبعدها عن العقل والدين لتدافع عن خصوم الأمة لمصالح إقليمية موهومة؛ فإن احتل العدو بعض بلاد المسلمين حمَّلت أهل تلك البلاد وزر هذا الاحتلال بأن زعمت أنهم هم من هيَّج هذا العدو لاحتلال أرضهم، وإن انتهكت أعراضهم وشردوا في مخيمات البؤس وسيموا سوء العذاب؛ انبرت لتقول إن مقاومتهم هي التي جعلت العدو يخرج عن طوره وهي لا تمثل رأي سُيَّاسه.
فذبل الولاء والبراء عندها حتى لا يكاد يبين، فلا أبغض إليها من ذكره وترديده؛ فضلاً عن أن تراه في مناهجها مسطوراً؛ لأنها علمت بتبعته عليها؛ فهو يلزمها بنصرة ضعيف بائس، وينهاها عن مصافحة من يداه ملطخة بدماء إخوانها.
ظنت أنها في غنى عن أمتها فقطعت وشائج الصلة التي أمر الله بها أن توصل، وأصبحت تعيش خصوصية إقليمية بغيضة، قد أهمتهم أنفسهم فحسب.
وطائفة أخرى وقفت على النقيض من هذه، رأت في اجترار الماضي خير وسيلة للهرب من واقعها المأزوم، تمارس أحلام اليقظة فلا يتراءى أمام ناظريها إلا الفاروق وعدله؛ والمعتصم ونخوته؛ وأن الراكب يخرج من خراسان إلى مراكش لا يخاف إلا الله، فأسكرتها نشوة الماضي عن إدراك كُنه الحاضر، فأصبحت تعيش غيبوبة لا شعورية عن واقعها المر؛ فهي تتحدث نيابة عن الجميع باسم الجميع في جميع شؤون الأمة، لا تقر بخصوصية ولا تعترف بالافتراق الحاصل فضلاً عن أن تحسن التعامل معه.
ما لا تريده من افتراق الأمة واختلاف مرجعيتها تنكره ولا تقر بوجوده، وما تحلم به تراه حقيقة تتحسسه بيديها، وتراه بكلتا مقلتيها.
ولا شك أن كلتا الطائفتين قد جانبت الصواب؛ فكِلا الأمرين ذميم؛ فالأول يتعامى عن حقائق الدين، والآخر ينكر الواقع ويدفعه.
والمتابع للمشهد الإسلامي يعلم أن الطائفتين السابقتين قليلة الحضور، قليلة التأثير، وأن الحق الذي عليه السواد الأعظم بينهما في وسطية حقة.
وسطية لم تُنْسها مرارةُ الافتراق السعيَ للذيذِ الاجتماع، رأت في وحدة أمتها في الصدر الأول شمعة تضيء لها الطريق لتحقيق هذه الوحدة مرة أخرى، وهدفاً سامياً تسعى لجعله حقيقة تتفيأ ظلاله الشعوب المسلمة، وتسلك في سبيل ذلك كل طريق رشد يوصلها إليه؛ من نشر الأخوة الإسلامية، إلى تلمُّس حاجات إخوانها ونصرة مظلومهم وإعانة ذي الحاجة الملهوف، بل ترى أن في الأمة من جوانب الوحدة الشيء الكثير الذي يحتاج إلى من يفعله ويستثمره لتحقيق الصالح العام؛ فالأمة وإن افترقت سياسياً فلا زالت عقيدة الولاء حية في نفوس الكثير من أبنائها، يؤلمهم كل مصاب يحل ببعضهم، ويؤمنون أن هناك مصالح مشتركة تؤلف بينهم.
لكنها في الوقت نفسه ترى الافتراق الواقع في الأمة حقيقة لا تنكرها كراهة له، بل تتعاطى معه بطريقة عملية تخفف من سوئه؛ لأنها تؤمن أن هناك كبير فرق بين ما تحب أن يكون وبين ما هو كائن حقيقة.
ترى في الفرقة مرضاً طارئاً على جسد الأمة يجب علاجه حتى تتعافى منه، وأولى مراحل العلاج الإقرار بوجود المرض؛ فلا تكلف الأمة حال مرضها بما لا تطيق؛ فالإسلام جعل للمريض رُخَصاً لا يقبلها من الصحيح المعافى.
فهي تدرك خصوصيات البلاد الإسلامية واختلاف الأولويات فيما بينها وتنوع المشكلات التي ينبغي أن يكون علاج الكثير منها بأيدي أهلها، ولكنها تعلم أن هناك ثوابت من مصالح الأمة ينبغي ألا تُمَسَّ باسم الخصوصيات الضيقة، ولا أن يُتلاعَب بها تحت شعار المصالح الخاصة.
ولكن هذه الوسطية لم تسلم من الدَّخَن، من أناس يتزيون بزيها وهم كلابسي ثوبَيْ زور، يريدون غنمها، ويتبرؤون من غرمها.
يعتذرون بالفرقة وأن لكل بلد خصوصيته، أو أنهم لا يرغبون في التدخل في شؤون الآخرين عندما يطالبهم إخوانهم بالنصرة وأداء واجابهم نحوهم، ولكن إن أصابتهم قارعة أو حلت بديارهم مصيبة علا هديرهم مطالباً الأمة بحقوق الأخوة، وتذكروا حين ذاك أن الافتراق صنيعة الاستعمار.
يختزلون مصالح الأمة في ذواتهم؛ فهم الأمة، والأمة هم؛ فعدوهم هو عدو الأمة التي ينبغي أن تُرْخِصَ كل غال في منازلته، وصديقهم الذي يرجون نفعه هو الصديق الذي يجب على الأمة أن تتناسى عداوته وأن تمسح عن يده القذرة آثار الدم لتقبلها.
فلا أحد يملك الحديث نيابة عن الأمة إلا هم؛ فإذا رأوا من أحد منافسة لهم على صعود هذا المنبر دوَّى صخبُهم: مَنْ خوَّله الحديث نيابة عن الأمة؟
وهم وحدهم من يقدِّر مصالح الأمة ويصون كيانها من الاستلاب، وغيرهم إن تحدث فهو جاهل لا يدرك تقدير هذه المصالح أو أحمق يشوه صورة الأمة عند الآخر.
فلا تعجب عندما تقرأ لكاتب يُصَنَّف أنه إسلامي حين يطالب شعب الشيشان أن يقبل بالاحتلال الروسي لبلاده ويغض طرفه عن فداحة الدمار الذي حل بأرضه والإبادة التي نالت أهله؛ والتبرير الذي يقدمه الكاتب سبباً لمقترحه هذا أن عداوة الأمة ليست مع الروس وإنما مع الغرب.
بل لعلك واجد من يتباكى على مصالح الأمة التي ضُيِّعت والخسارة التي نالتها؛ فإذا نقَّبت عن هذه المصالح المضاعة وجدتها مدرسة يملكها قد أُغلقت، أو صحيفة قد ضُيِّق عليها، فيطالب الأمة أن تتنازل عن حقوقها صيانة لممتلكاته.
مثلهم كمثل رجل رأى أخاً له يهرب من أسد يطارده فيطالبه بالاستسلام والتضحية بنفسه كيما تسلم حظيرة أغنامه.
أو كرجل رأى الناس أقبلت لتطفئ ناراً قد اشتعلت في بيت جاره وهو يسمع صراخ النساء والأطفال والحريق يلتهمهم وليس للناس طريق إليهم إلا من خلال زرعه؛ ثم هو ينهاهم عن المرور صيانة لهذا الزرع من الفساد؛ لأنه وَقْفٌ على أيتام.
هذه حالهم يريدون للأمة الافتراق والاجتماع معاً حسب مصالحهم التي يغلِّفونها تارة باسم الدين، وتارة أخرى باسم العمل الإسلامي، فيتعامون عن مصائب إخوانهم، ويشقُّ عنانَ السماء صراخُهم عندما يُشاكون بشوكة.