أكرم عصبان الحضرمي
لقد صوبت النظر في استغلال قريش حادثة قتل ابن الحضرمي، وأجلْت التأمل في مضامينها؛ فألفيتها ذات صلة قوية باستغلال المؤسسات السياسية الكبرى المناوئة للإسلام لحوادث تنسبها للمسلمين، وإذا بالأسلوبين ـ قديماً وحديثاً ـ يخرجان من مشكاة العداء السافر الذي ينتهي أمره إلى حيث ينسلخ المسلمون عن دينهم، ويعبران من بوابة الإعلام الذي رسنه بأيدي الأعداء. فيقذف من رَحِمِهِ بالتعيير للمسلمين بتلك الحادثة، ويرافقه الحديث عن المحرمات، وانتهاكها بمكر ساخر وكيد ساحر، يؤثر سحره في بعض المسلمين؛ فلا يدري كيف يتعامل معه، ويسقط بعضهم في الهوة التي أرادها الإعلام بتضليله صريعاً. ولا يُبطل هذا السحر ويذهب أثره إلا ما جاء شفاؤه في القرآن، حين فصّل القول في حادثة قتل ابن الحضرمي التي نحن بصدد الحديث عنها.
- أحداث سرية عبد الله بن جحش:
إن أحداث سرية عبد الله بن جحش التي استثمرتها قريش مفادها أن النبي -صلى الله عليه وسلم - بعث سرية من الصحابة، وأمّر عليهم عبد الله بن جحش، وأمرهم أن ينزلوا بطن نخلة ـ بين مكة والطائف ـ ليرصدوا قريشاً، ويعلموا من أخبارها؛ فبينما هم كذلك إذ مرّ بهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة في عير لقريش، فقتله واقد بن عبد الله التميمي، وأسروا اثنين، وساقوا العير إلى المدينة. ولم يدروا أن ذلك اليوم الأخير من رجب. فقالت قريش: إن محمداً وأصحابه استحلوا الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدم، وأسروا الرجال، وأخذوا الأموال. هذه هي الحادثة التي أبدت فيها قريش غيرتها على انتهاك الحرمات التي تزعم أنها راعية لها، واستغلت ما ورثه العرب من حرمة القتال في الشهر الحرم، لا سيما شهر رجب، وبما بقي عندهم من دين إبراهيم الذي حادوا عنه، وهذه الحرمة تمكن لقريش ـ سادنة الحرم ـ الأمن الذي تطلبه الوفود التي تفد إلى البيت الحرام، علماً بأنهم يتلاعبون بالأشهر الحرم ـ تقديماً وتأخيراً ـ ويضيفون بذلك رجساً إلى رجسهم، كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37] .
إذن فقد طارت قريش فرحاً بهذه الحادثة فأشاعتها عند العرب كافة، وأذاعتها حتى ردد صداها اليهود في المدينة متفائلين، فقالوا: عمرت الحرب وحضرت، وأوقدت نارها أخذاً من قتل واقدٍ لعمرو بن الحضرمي، لقد عيّرت بذلك المسلمين ـ وهي ظالمة ـ في هذا التعيير، ولم تكن تتباكى على انتهاك المقدسات، وقتل واحد أو أسر اثنين، وإنما وراء هذا التعيير خبيئة تكمن في استمرار حربها ضد المسلمين، وإظهار العداء في أسلوب جديد عاجت عليه، ومالت إليه بعد أن أخفقت جميع أساليبها في الصدّ عن الدين، والذي انتهى بإخراجهم من مكة ليجدوا أرضاً صالحة ينطلقون من خلالها؛ فما أن سمعت بأول حادث قتل، حتى أخرجت أضغانها في هذه الصورة.
- التوجيه القرآني في هذه الحادثة:
وفي ظل هذه الحملة الإعلامية والتحريف الدعائي للحقائق وقف المسلمون منتظرين التشريع الإلهي بعد أن سُقط في أيدي أفراد السرية؛ فظنوا أنهم قد ارتكبوا جرماً عظيماً. فنزل القرآن بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] فسما المسلمون ـ وحري بهم أن يسموا ـ بهذا التوجيه الرباني في دحض فرية الأعداء الذين عندهم من ارتكاب المحرمات، وهي الكفر بالله، والصدّ عن سبيله ما هو أعظم جرماً من قتل ابن الحضرمي. قال ابن كثير: «أي: ثم هم مقيمون على أخبث ذلك، وأعظمه غير تائبين ولا نازعين» (1) . وقال السعدي: «وكانوا ـ يعني المشركين ـ في تعييرهم ظالمين؛ إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما يعيرون به المسلمين» (2) .
فالقرآن إذاً أقرّ أولاً حرمة الأشهر الحرم، بل قد جعلها في آية التوبة من الدين القيِّم؛ فالقتل فيها إثم كبير آنذاك، ثم نسخ هذا الحكم، كما حكى ذلك القرطبي في تفسيره لهذه الآية بأن «الجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح، واختلفوا في ناسخها..» . ثم قرر ثانياً أنهم ظالمون في استغلال هذا الحادثة، والتشدق بالحرمات التي لا يقيمون لها وزناً، بل يدوسونها بأقدامهم؛ لأنهم قد صدّوا عن سبيل الله، وكفروا بالله، وأخرجوا المسلمين من المسجد الحرام، وقد كانوا أحق به وآهل منهم، ثم هم مع ذلك قائمون على الشرك ماضون في العداوة. ونحن علينا في مثل هذه الأحداث أن نسلك شِعْب الهدى وناديه، ونُنزل رحلنا بناديه؛ فاشدد أخي يديك بهذه الآيات، ولا تحد عنها بعد استنارتها!
وقد تنكب الهدي القرآني فريقان أقلهما ميلاً من لا يقرّ بخطأ الحدث، وهو غاشٌّ بذلك؛ إذ الواجب عليه أن يبذل النصح للمسلمين، ويلتمس العذر للغالطين، مستنيراً بقوله ـ تعالى ـ: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وأعلاهما ميلاً نقيض ما سبق ممن ينجر خلف ركب الأعداء، ويبارك إعلامهم، ويغضي الطرف عن أفعالهم، فيؤخذ على حين غفلة من أمره فيبدي الانفتاح بزعمه، ويشاهد نار الحرب في كل أرض تشعل، والأمر عنده في حادثةٍ مّا مشكل.
وفي الآية لفتة كريمة في قطع دابر الجدال العريض الذي يرتفع ضجيجه حين يكون للخصم شبهة؛ فالمسلك القويم أن ينتقل به إلى ما يخفت معه صوت الباطل من ذكر فضائحه التي يقوم عليها.
- حذو المؤسسات الإعلامية اليوم المكر الأول:
إن المؤسسات الإعلامية الكبرى المعادية للإسلام قد سارت على درب الأولين من الكفار، ولم يدخر أصحابها جهداً في النقيصة من المسلمين إلا وسارعوا في إظهارها ابتغاء التشهير، بل قد أوغلوا في العداوة إيغالاً بعيداً حين يختلقون إفكاً، ويصيغون حديثاً مفترى، وينسبونه للمسلمين زوراً، وبعد ذلك يطالعنا إعلامهم الأصيل، أو ما تبعه من وسائل الإعلام المسيطرين على أعنتها بالحديث عن الحرمات والقوانين الدولية، وانتهاك شرعيتها الزائفة، وحدودها الزائغة، وفي الوقت نفسه ينسى ملايين المسلمين الذين غُيِّبوا في التراب؛ بسبب السياسات الرعناء، ومثل عددهم من الأرامل، وأضعاف عدتهم من اليتامى، وتنسى ملايين المشردين في مجاهل الأرض من أسرى يرسفون في القيود ظلماً. وما يسطر من الأحداث في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وغيرها عنّا ببعيد، ولولا خشية الإطالة لخضنا في أحداثها، ولكن اشتهارها يغني عن الحديث عنها:
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد
تجده كالطير مقصوصاً جناحاهُ
فإذا تحدثت هذه المؤسسات عن انتهاك الحرمات ـ والعمل بجهد في فتنة المسلمين عن دينهم ـ فمن يسمع نوح النائحات، ومن يرفع ظلم المكروبين، ويدفع كرب المرملين، ويقف مع اليتامى والمنكوبين.
قال سيد قطب: «إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه، ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر، وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان» (3) .
- ما ينبغي مراعاته:
مما ينبغي استخلاصه هنا حين يفيض التضليل الإعلامي في خلفية حادثة معينة ألمّ بها جماعة من المسلمين، وتولت المؤسسات الإعلامية الكبرى الحديث عنها مراعاة ما يلي:
أولاً: التأكد من نسبة ذلك لتلك الجماعة المشار إليها صراحة كالشمس لا تخفى على أحد؛ إذ على مثلها فليشهد المسلم، أو يدع، فإنه لا يأمل غائلة الأعداء، فيقع في معرة بغير علم، كما قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] .
ثانياً: عدم الإفاضة فيما أشكل أمره، وترك الخوض فيه؛ إذ الواجب فيه الرد إلى الكتاب والسنة، واستنباط العلماء الراسخين، قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
ثالثاً: ما تبيّن حكمه فكان واضحاً، أو خفي فاستخرج حكمه المستنبطون؛ فالمسلك ترك الكبر الذي حده بطر الحق، ولا بد من إيضاح الخطأ مشوباً بمحض النصح للغالطين، وتوليهم مصحوباً بالعذر لهم إن وُجِدَ إليه سبيل، وإلا فإنها زلة تقال ـ من القول ـ وعثرة ينبغي أن تقال ـ من الإقالة ـ.
رابعاً: الغوص في حقائق هذا التضليل، وكشف هوية المؤسسات الإعلامية الدولية التي تعزف على وتر الحدث بعدة نغمات، وتستخف بالدين وأهله، ثم بيان ما هم عليه من الكفر، والصدّ عن سبيل الله، والقتل والتشريد، واستمرار حربهم حتى ينخلع المسلمون من الدين؛ فلا مسوغ لهؤلاء في حديثهم عن انتهاك المحرمات؛ فإما أن يكفوا عن ذلك، وإما إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
قال عبد الله بن جحش شعراً:
تعدون قتلاً في الحرام عظيمة صدودكم عما يقول محمدُ
وأعظم منه أن يرى الرشد راشد وكفر به والله راءٍ وشاهدُ
واللهَ نسأل أن يبصرنا بديننا، ويتقبل منا صالح أعمالنا، وينصرنا على أعدائنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.