د. حياة بنت سعيد با أخضر
يقول ـ تعالى ـ في سورة النور في معرض ذكره ـ سبحانه ـ لحادثة الإفك: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور: 19] .
معنى الإشاعة: الانتشار. وشاع الحديث: إذا ظهر في العامة.
معنى الفاحشة: الفاحشة مأخوذة من الفحش.
يقول ابن فارس ـ في كتابه المقاييس ـ: الفاء، والحاء، والشين كلمة تدل على قُبح في شيء وشناعة. وقال ابن منظور في لسان العرب: الفحش والفحشاء: القبيح من القول والفعل، وجمعهما الفواحش. والفحشاء: اسم الفاحشة، والفاحش: ذو الفحش والخنا من قول أو فعل، وكثيراً ما ترد الفاحشة بمعنى الزنا.
وخلاصة ما سبق: أن الفاحشة: ما ينفر عنه الطبع السليم، ويستنقضه العقل المستقيم.
ولنا وقفات مع هذه الآية، نستشعر من خلالها ما يجري في مجتمعنا المسلم من ظواهر تعين على انتشار الفاحشة.
- الوقفة الأولى: تفسير الآية:
يقول الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: الفاحشة: أي الأمور الشنيعة المستعظمة، فيحبون أن تشتهر الفاحشة: {فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] أي موجع للقلب والبدن؛ وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجرأته على أعراضهم؛ فإذا كان هذا الوعيد لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة واستحلاء ذلك بالقلب؛ فكيف بما هو أعظم من ذلك من إظهاره ونقله، وسواء كانت الفاحشة صادرة أم غير صادرة؟ وكل هذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم كما صان دماءهم وأموالهم. وأمَرهم بما يقتضي المصافاة أن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ؛ فلذلك علّمكم وبيّن لكم ما تجهلونه. ولنقرأ وقفة الرازي ـ رحمه الله ـ في موسوعة التفسير الكبير؛ حيث عقب على قوله ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فقال: فهو حسن الموقع بهذا الموضع؛ لأن محبة القلب كامنة، ونحن لا نعلمها إلا بالأمارات. أما الله ـ سبحانه ـ فهو لا يخفى عليه شيء؛ فصار هذا الذكر نهاية في الزجر؛ لأن من أحب إشاعة الفاحشة، وإن بالغ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله ـ تعالى ـ يعلم ذلك منه. وإن علمه ـ سبحانه ـ بذلك الذي أخفاه كعلمه بالذي أظهره، ويعلم قدر الجزاء عليه، كما تدل الآية على أن العزم على الذنب العظيم عظيم، وأن إرادة الفسق فسق؛ لأنه ـ تعالى ـ علق الوعيد بمحبة إشاعة الفاحشة، ثم ختم الرازي ـ رحمه الله ـ تفسيره لهذه الآية بقوله: قال أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ: المصابة بالفجور لا تُسْتَنْطَق؛ لأن استنطاقها إشاعة الفاحشة، وذلك ممنوع منه (?) .
ونقرأ تعليق: صاحب الظلال ـ رحمه الله ـ على هذه الآية؛ إذ يقول: والذين يرمون المحصنات ـ وبخاصة أولئك الذين تجرؤوا على رمي بيت النبوة الكريم، إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة، وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفواحش؛ وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها؛ وبذلك تشيع الفاحشة في النفوس لتشيع بعد ذلك في الواقع؛ من أجل هذا وصف الله ـ تعالى ـ الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة؛ وذلك جانب من منهج التربية، وإجراء من إجراءات الوقاية، يقوم على علم تام بالنفس البشرية، وتكيُّف مشاعرها واتجاهاتها، ومن ثم يعقِّب الله ـ تعالى ـ بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلا الذي يبصرها ويعلم بها؟ ومن ذا الذي لا يخفى عليه شيء إلا العليم الخبير؟
- الوقفة الثانية:
من خلال ما سبق نعلم أن مجرد حب إشاعة الفاحشة يؤدي بصاحبه إلى وقوع العقاب الأليم عليه في الدنيا والآخرة. ونلاحظ أن الله ـ تعالى ـ لم يقل بأن عقوبتهم بالعذاب فقط وإنما وصفه بالأليم، ولن نستطيع أن نتخيل أبداً مدى ألم هذا العقاب، ومن ثم علينا ألا نستخف به، ونراه هيناً وهو عند الله عظيم، كما أن هذا العقاب لا يتوقف على حياة واحدة في الدنيا، بل يمتد إلى الآخرة ليشهد عقابه الأليم أهل القيامة، ويظل ينتظر الأمل بشفاعة قد تنجيه من هذا العذاب؛ فأي شؤم يطال محبي إشاعة الفاحشة بين الذين آمنوا في الدنيا والآخرة، وهو يتقلب في عذاب أليم قاده إليه قلبه لمّا أحب ما أبغض الله! وهذا يقودنا للوقفة الثالثة.
- الوقفة الثالثة:
إذا كان ما سبق من عقاب أليم إنما خصص لمن أحب بقلبه إشاعة الفاحشة؛ فكيف بمن ساهم في نشرها بين الذين آمنوا بكل قوة وبذل مادي ومعنوي، ورصد لذلك الجوائز المغرية، والمسابقات الملفتة للنظر بفحشها ومجونها، وهيأ الأماكن المترفة، ونشر الصفحات والمجلات المتعددة، والمواقع المشبوهة، في تسابق محموم بغيض حاقد؟ فكلما ظهرت قناة تبعتها قنوات أخرى، وكلما أنشئت مجلة ماجنة نافستها مجلات على النهج نفسه، وكلما سطَّر قلم مجوناً وفحشاً تنافس معه متنافسون، وكلما ظهر صاحب فحش من الجنسين في أي مجال شيطاني؛ قام شياطين الإنس ببعث المئات من أمثالهم، وأصبح هؤلاء هم النجوم التي يهتدي بها بعض شباب المسلمين في حياتهم ليزدادوا ظلاماً وتيهاً.
- الوقفة الرابعة:
مما يدمي القلب، ويشعله خوفاً من نزول عذاب متتابع فوق أنواع العقوبات التي نكابدها أنّ حب إشاعة ونشر ودعم الفاحشة بين الذين آمنوا إنما يبلغ أَوْجَهُ وقوته في مواسم العبادات وذروة الأوقات التي يمنّ الله الرحيم بها علينا لنكفر عن السيئات، ونزداد في الحسنات، ونعيش في نعيم نسائم الرحمات، وهي أوقات رمضان المبارك، وعيد الفطر، والأيام العشرة الأولى من ذي الحجة، وأيام عيد الأضحى المبارك، فنجد الشياطين وقد أجلبت علينا بخيلها ورجلها لتقدم كل ما يحطم ويقتل معاني الحب، والذل والخضوع والطاعة والاستسلام لله تعالى، وتجعل من المسلم عبداً ممسوخاً لشهواته ولذَّاته، لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، ولا من العبادة إلا رسمها، ولا من الحب لله إلا نطق اللسان فقط، فينقلب المسلمون إلى أهل الإرجاء الذين يجعلون الإيمان قولاً واعتقاداً فقط؛ أما العمل فلا دخل له في ذلك، فنتحول إلى قطعان تهرف بما لا تعرف، تنساق إلى مذابحها في عقيدتها وهي ضاحكة مستبشرة. فأي حقد يصبه علينا أعداء ديننا، ونحن نراهم يتقاسمون الأدوار فيما بينهم وبأموالنا، ووقودهم شبابنا ونساؤنا، وقبل ذلك ديننا، كل منهم قد علم دوره جيداً فأتقنه وبلّغه؛ فأصبحنا أمة أحبت إشاعة الفاحشة؛ فأي عذاب ينتظر الجميع؟!
- الوقفة الخامسة:
هذه الآية إن كانت تهديداً ووعيداً لمن أحب إشاعة الفاحشة؛ فهناك حديث صحيح يبين لنا عقوبات نشر الفاحشة إذا شاعت؛ فعن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتُليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا الزكاة إلا مُنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمُطَروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» (?) . وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يُعزَف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير» (?) .
هذه العقوبات المتوالية في الدنيا، وما عند الله أعظم.
- الوقفة السادسة:
هناك مظاهر في مجتمعنا تعين على نشر الفاحشة بين أفرادنا، وإن كان فاعلوها لم يقصدوا ذلك. وهي: بيع وشراء ولبس الحجاب المتبرج الذي يكشف أكثر مما يحجب، فنجد المسلمة، وقد لبست من الحجاب أنواعاً تغري الرجال، وتوقعهم في زنا النظر المتكرر، ومن ثم الكلام، وقد تصل الأمور إلى ما هو ما أبعد من ذلك، وهذه المسلمة تصر على إظهار مفاتنها أمام الجميع بلا حياء في كل مكان؛ لما ترتدي الملابس الفاضحة في كل مناسبتها؛ فهي تشجع غيرها على مجاراتها، وتقليدها مسلكها، وتثير في نفوس بعضهم مشاعر شاذة، ونظرات خاصة لا يرضاها الله تعالى.
كذلك من هذه المظاهر المعينة على إشاعة الفاحشة جلب العمالة لبلادنا من الرجال بلا زوجاتهن، ومن النساء بلا أزواجهن لسنوات أقلها سنتان؛ مما يشجع كثير من هؤلاء النساء على اقتراف الفاحشة بالتراضي، أو مع غيرهم بوسائل الاغتصاب المعروفة، وصحفنا ودوائرنا الحكومية لا تخلو أحياناً من أخبار يندى لها الجبين المسلم الحر، وهذا أمر بدهي وفطري؛ فهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ جعل للمجاهد فترة محددة يبتعد فيها عن زوجته، حتى لا يكلفهما ما لا يطيقان من مشاق تصطدم مع حاجاتهما الضرورية الفطرية؛ فيكف بهؤلاء؟ أليسوا بشراً مثلنا؟
وأختم ما سبق بأن القرآن العظيم ما أنزله الله ـ تعالى ـ إلا لنتدبره؛ فهل تدبرناه؟ وهل سألنا الله دائماً ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا؟ نعوذ بك اللهم من جَلَد الفاجر، وعجز الثقة.. اللهم آمين.