(1 - 2)
- ضيوف الندوة:
- فضيلة الأستاذ الدكتور ناصر بن سليمان العمر: المشرف على موقع المسلم على الشبكة العالمية.
- فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: الأستاذ بكلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
- فضيلة الدكتور عبد الله الصبيح: الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
مرت بالأمة الإسلامية في فترة من الفترات هزائم وانكسارات متعددة الجوانب، سواء أكان ذلك على المستوى العسكري أم على المستوى السياسي أم على المستوى العقدي والفكري والاجتماعي، إلى نحو ذلك من ألوان الهزيمة التي حصلت بعد سقوط الدولة العثمانية، ودخول الاستعمار إلى البلاد الإسلامية. ثم بدأ الناس يتطلعون إلى النهضة العربية، أو النهضة الإسلامية، وبرزت في تلك الفترة ـ وخاصة في البلاد العربية ـ مجموعة من التيارات الفكرية، ابتداءً بالاتجاهات الشيوعية واليسارية، ومروراً بالشعارات العروبية والقومية والوطنية وغيرها من الشعارات التي ضجت بها الساحة العربية، خصوصاً في فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات الميلادية من القرن الماضي. ومع قوة هذه الشعارات الثورية حصلت الهزائم والانكسارات أيضاً مرة أخرى، ووجد الناس أن تلك الشعارات، وتلك الأحزاب العروبية، والقومية لم تخرجهم من مأزق إلا أدخلتهم في مأزق أشد منه، وفي هذه الأجواء تنامت الصحوة الإسلامية، وكان لها أثر كبير جداً في إعادة العزة للناس من جديد، وإعادة الثقة بالدين، وبجذور الأمة العقدية والفكرية.
وأنجزت الصحوة الإسلامية، على الرغم من المضايقات الكثيرة التي مرت بها، إنجازات متعددة الجوانب، حتى أصبحت ملء السمع والبصر.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر صار هناك حضور أقوى للصوت الإسلامي، وأخذت الهجمة الغربية طوراً جديداً في الهجوم على المسلمين، وجعلت الخصم الأساس للغرب هو الإسلام، وعلى وجه التحديد تيار الصحوة الإسلامية بمدارسه المختلفة. وفي هذه الأثناء أيضاً حصل شيء من الانهزام النسبي عند بعض الإسلاميين على المستوى العقدي والثقافي، وحصلت اجتهادات ومراجعات، قد يسميها أناس هزيمة، وقد يسميها آخرون إعادة بناء للفكر الإسلامي، وإعادة نظر في المسلّمات الإسلامية، وظهرت أطروحات متعددة ومتباينة تحاول قدر الإمكان أن تتقاطع أو تتعايش أو تتقارب مع بعض الأطروحات الغربية.
وبدأ بعض الإسلاميين يقدم الفكر الإسلامي بصورة المدافع، وليس بصورة الإنسان المعتز بالدين والمعتز بالقيم، وبالثوابت الشرعية، وبدأ بعض الناس يتساءلون: هل هناك حقيقة هزيمة نفسية في جيل الصحوة أم أن هذه الأطاريح ما هي إلا بناء من جديد لطريقة التفكير ولطريقة التعايش مع الواقع الذي تمر به الأمة الإسلامية؟ وهل وصلت هذه الهزيمة إلى مستوى الظاهرة في أوساط الإسلاميين، وما ملامح هذه الهزيمة؟! وكيف نستطيع إعادة التوازن من جديد لبناء الصحوة الإسلامية؟!
هذا هو مجال حديثنا في هذه الندوة المباركة:
ونبدأ بالسؤال المباشر: هل نحن أمام هزيمة نفسية في جيل الصحوة..؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: حقيقةً أن العنوان هذا ـ الهزيمة النفسية ـ يحدث اهتزازاً لدى الإنسان، أنا سأبني حديثي عن هذه النقطة على تصوري للهزيمة النفسية، حاولت أن أوجد مسارات تتمثل بها الهزيمة النفسية إذا أخذناها بمفهومها هزيمة نفسية.
الهزيمة النفسية: هي شعور بعدم القدرة على الفعل لدى من يستطيع أن يفعل، وإذا كان لا يستطيع أن يفعل فهو شعور خاطئ.
الهزيمة النفسية: هي يأس من إمكانية أي عمل إيجابي.
الهزيمة النفسية: هي التخلي عن الأهداف التي كان يتبناها، وربما تبني ما يقابلها.
الهزيمة النفسية: هي انكفاء على الذات، وتخوف من الآخر.
الهزيمة النفسية: هي حالة ذل، حالة استكانة، تجعل الإنسان لا يرفع رأسه، ولا يطيق أحياناً حتى نفسه، يعني حالة إحباط يتولد من خجل، من كسل، وأحياناً من شعور بالجرم إزاء وضع يحيط به.
كما نعلم أن أبرز صورة راجت في الاتجاه الثقافي عند المسلمين في العصر الحاضر عن الهزيمة النفسية هي التي التصقت بالمدرسة التي سميت العقلانية، أو المدرسة العصرانية، ونحوها من التسميات، والتي كانت هي أول حركات التفاعل الفكري مع الغرب، والتي هي نتاج مجموعة من الناس، أبناء لأمة وعت نفسها على أمة أخرى: أمة ضعيفة متخلفة فوضوية، التقت بأمة حضارية متقدمة مدنية متطلعة استعمارياً؛ فحصل عندهم هذا الاهتزاز.
اهتزار نفسي ولّد مواقف هي مظاهر الهزيمة النفسية التي كان من أبرزها انعكاس في القضية لديهم؛ فالأصل أن الإسلام (القرآن والسنة) ابتداءً هو الذي يوجه الفكر ليحكم الأشياء، فصارت القضية معكوسة؛ وصارت الرؤية الغربية والحضارة الغربية هي التي توجه فكره ليأتي بعد ذلك بالقرآن والسنة، فيحاول حلحلتها، وجعلها تتفق معها.
طبعاً ما زالت الهزيمة النفسية موجودة، لكن الهزيمة التي أقصد أنها موجودة هي الهزيمة النفسية لدى بقايا فلول مَنْ يُسمَّوْن بمفكري التغريب ونحوهم، ولهم صور ربما نشير إليهم بعد ذلك كمحيط موجود الآن يلابس الصحوة، ويحاول أن يوجه مسارها بقدر الاستطاعة. هذه الهزيمة النفسية بهذه الصورة التي يمكن أن نقول: إنها تمثل حالة إحباط، أو حالة اجتلاب للآخر، أو قابلية الاستعمار، أو نحوها من التسميات.
البيان: عفواً د. عبد الرحمن! إذن أنت تؤكد أن هذه الهزيمة النفسية موجودة في أوساط الصحوة الإسلامية، كما أنها موجودة في أوساط العامة.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: لا، لم آتِ بعدُ على ذلك؛ لم أُجب عن السؤال، أردت أن أنظّر للقضية لأجيب بناءً على تنظيرها.
جوابي: هو أن الهزيمة النفسية بالمفهوم الذي ذكرته، وبصوره التي سردتها غير موجودة إطلاقاً في أوساط الصحوة، لا لدى القادة، ولا لدى الأفراد، هناك موقف شامل في أوساط الصحوة الإسلامية إيماناً بالإسلام بصفته منجياً عند الله ـ سبحانه ـ ومحققاً للنهوض، ويقيناً بهزيمة ما سواه، وقناعة بالأدلة، فضلاً عن الدليل الإيماني الأصل الذي يأخذ الإنسان منه دليله، دليل واقع يشهد بهذا، وهو هزيمة جميع الأطروحات التي قدمت في العالم الإسلامي كله مستبعدةً الإسلام. فهناك إيمان بأن الإسلام مشروع إصلاح، وهناك إحساس في أوساط الصحوة الإسلامية بأن المسلمين الآن رغم العوائق والعثرات يتجهون للإسلام. هناك شعور أن هذه العقبات دليل على إدراك هذه الحقائق من قِبَل الأعداء. يعني أن الأعداء الذين يضعون العقبات في وجه أوساط الصحوة يدركون أنها صحوة حضارية مستهدفة، وحركة أو اتجاه استقلالي، ومن ثم بروز حضاري، ونحو ذلك.
ومثل هذه الوضعيات النفسية لا يمكن أن توجِد نفسية مهزومة. يمكن أن أقول ـ حتى لا تكون القضية مصادرة ابتداء ـ: إن هناك حالة أخرى ليست هزيمة لا اصطلاحاً ولا مضموناً، يمكن أن أسميها: حالة ارتباك فكري في الصحوة الإسلامية، وبالذات لدى بعض الرواد ـ رواد الصحوة الإسلامية ـ هذا الارتباك الفكري نتيجة حالة عامة يعيشيها هؤلاء الرواد، هناك شعور بضخامة المسؤولية في ظل الظروف التي يعيشونها، والتي لم تعد مسؤولية تربوية كما كانت في السابق، بل أصبحت مسؤولية سياسية، بل مسؤولية عالمية. هناك انفتاح على العالم في دائرة الصحوة الإسلامية، وانتقال من طور الانكفاء على الذات إلى طور المداخلة في الحياة: مداخلة المجتمع الذي يعيشون فيه، ومداخلة حتى العالم بمؤسساته، وبوضعه العالمي كله.
هناك إقبال من الناس على التدين، ومن ثم إلحاح من هؤلاء على طلب برمجة حياتهم.
هؤلاء الناس المتدينون المقبلون على الدين الذين يدخلون فيه أفواجاً من السهل أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، هذه أمور سهلة وواضحة لديهم، لكنهم يريدون برمجة حياتهم على الإسلام. يقول بعضهم: أنا دخلت في الدين، أنا عدت إلى الله سبحانه، أنا الآن رجل أعمال، أنا الحمد لله أصبحت أصلي، تركت الفواحش، أصبحت أعتمر ... لكن لديَّ مئات الملايين من الأموال أريد أن تجري على نمط إسلامي، ومع ذلك يكون عصرياً، لا أريد أن تردني إلى معاملات فردية كانت سائغة في السابق. الناس يطالبون هؤلاء الرواد بأن توضَع مسالك حياتية في الاقتصاد، في السياسة، في الإدارة، في الفنون، في الآداب ... في جميع شؤون الحياة، بأن توضع برامج حياتية تكون إسلامية، وتكون عصرية في الوقت نفسه.
هناك ما أستطيع أن أسميه: تساؤلات من الأتباع، ونقد من الآخر تجاه الصحوة الإسلامية. الأتباع كانوا فيما سبق أتباعاً بالمعنى اللفظي؛ بمعنى مجرد: متلقين من روادهم، من مشايخهم، من علمائهم، من دعاتهم، الآن يشعرون أنهم يريدون الانفتاح، ويريدون أن يناقشوا الآخر خارج الدائرة الصحوية، يثيرون نقداً حاداً، مثلاً: محاضرة تلقى، أو كلمة تكتب في موقع، أو صحيفة من داعية، وغير ذلك تخرج لها ردود من هؤلاء، وهذا يحرج ـ الآن ـ رواد الصحوة الدعاة؛ لأنهم لم يتعوَّدوا على هذه الصفة، ومن ثم هم بحاجة إلى أن يكونوا على مستوى التأقلم مع هذه القضية.
الانتقال من العاطفية إلى العقلانية: في السابق كانت حركة الدعوة ـ في فترة طويلة ـ تركز على الجانب العاطفي، خاصة حينما كانت الأمة في عموم العالم الإسلامي في حالة شرود عن الدين وفي حالة غفلة؛ فكانت الدعوة: عودوا إلى الله، عودوا إلى دينكم؛ فالخير في دينكم، منطلقات وشعارات عامة، وكانت مجدية في ذلك الوقت، لكن الناس الآن رجعوا إلى دينهم، والآن يريدون حركة منطقية عملية تجسد حياتهم عملياً في واقع الحياة، هذه الحالات ونحوها، وغيرها من أمثالها انفتحت على الصحوة الإسلامية: على روادها، ثم على أتباعهم ثانياً وبشكل متسارع، وبشكل ملحّ لا يحتمل بطئاً لتحديد المواقف، ورسم المسالك. والصحوة بدعاتها وعلمائها هي حركة ثقافية بالدرجه الأولى، والحركة الثقافية لا يتم تفاعلها بشكل سريع كما هو الشأن السياسي؛ الذي يتخذ موقفاً ثم ينتهي؛ فطبيعة الدعاة والمفكرين والمثقفين أنهم يحتاجون لموازنات لرسم المواقف، يحتاجون إلى تفكير هادئ، حتى يضعوا الأمور في أنصبتها الصحيحة، وحتى لا يزيغ الناس بالمهاوي؛ خاصة أنهم يتعاملون بدين يدينون الله به، وليس الأمر مجرد مصالح مادية لو فاتت فسوف تأتي بعد ذلك مصالح بديلة.
لا شك أن الصحوة الإسلامية سعت للمواكبة؛ يعني سعت للاستجابة الإيجابية في حدود الإمكانات، لكن الذي لا ريب فيه أن الملحوظ بشأنها هو ما ذكرته، وهو أن هناك حالة ارتباك، أو إن أردت أن أخفف هذه اللفظة فأستطيع أن أقول: إن الصحوة الآن تعيش لحظة تأمل، لحظة استبصار، لحظة محاولة إعادة نظرات، تأهيل الذات بالقدر الكافي من أجل التفاعل الحيوي مع هذه التغيرات المحيطة بها.
الصحوة كان لها ضجيج من داخلها، وضجيج من الآخرين بشأنها، وفي الأونة الأخيرة بدأ يخفت هذا الصوت، لكن خفوت هذا الصوت لا يعني الغياب حقيقة. أنا أعتقد أن خفوت هذا الصوت يعكس شعوراً بالثقة بالنفس، ويعكس عقلاً في التعاطي مع الحياة، ربما بأرشد وأكثر سداداً مما كان قبل ذلك، لكنه بكل حال لا يعني أيضاً التراجع في أوساط الصحوة.
البيان: إذن أنت ترى يا فضيلة الدكتور أن الصحوة من حيث العموم لا تشهد هزيمة، وإنما هناك ارتباك فكري أدى إلى بعض الظواهر التي قد تفسر عند بعضهم بالهزيمة، وتفسر عند آخرين بالارتباك الفكري؛ فهل المشايخ يوافقون على هذا الطرح؟
- د. ناصر العمر: الكلام الذي ذكره الدكتور عبد الرحمن جميلٌ جداً، وأوافقه في جملة ما قال، لكن ما دمنا في التعريف؛ فالذي فهمته من التعريف أن قول: (الهزيمة في جيل الصحوة) أنه ليس عنواناً تقريرياً بل هو دراسة؛ بمعنى أن هناك شيئين مختلفين: هناك شيء اسمه الهزيمة النفسية، وشيء آخر اسمه جيل الصحوة. وهذا ما لاحظته من قول الدكتور عبد الرحمن من أن الهزيمة شيء والصحوة شيء آخر، ولا ارتباط بينهما. والحقيقة أن البيان سبقت في معالجة المشكلة قبل أن تقع؛ لأن مشكلتنا في كثير من الأحيان أن ننتظر حتى تقع المشكلة، ثم نذهب نبحث عن حلولها.
والذي أراه أن الهزيمة لم تعد ظاهرة، وإن اختُلف في بعض تشخيص الحالات الفردية التي قد أشير إليها.
وإضافة لما ذكر في الموضوع حتى أشخّص ماذا نريد من معنى الهزيمة؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فالهزيمة في اللغة تدور في أصلها اللغوي على معنى واحد: وهو الغمز والكسر، ومنها الهزيمة في المعركة، والهزيمة النفسية وغيرها.
الهزيمة: هي انكسار إرادة النفس أمام حدث معين، أو واقع معين، أو فكر معين، أو ظاهرة معينة؛ بحيث لا تقوى على مجابهته، فهي تستسلم أو تسلم بدون تفكير في التخلص منه أو مواجهته؛ لذلك انكسار الإرادة يعني: لا قدرة ولا استطاعة.
أعطي أمثلة من ألوان الانكسار في واقع الأمة. مثلاً: الانبهار بكل خُلُق دخيل خالف أخلاق الإسلام، وأعراف أهله؛ فهذا ضرب من الهزيمة.
الخجل من القيام بأمر الله تجاه الأفراد والمجتمع ضرب من الهزيمة النفسية أيضاً. التبرؤ من بعض العقائد الإسلامية كعقيدة الولاء والبراء، كما يحدث من بعض المسلمين أيضاً هزيمة نفسية.
محاولةُ لَيِّ الشريعة لتوافق أهواء العصر وأهل الشرق والغرب هزيمة نفسية. التبعية الغربية أو الشرقية هي أيضاً من جوانب الهزيمة النفسية. الافتتان بالحضارة الغربية جانب من جوانب الهزيمة النفسية.
وإن كان في هذا الكلام نوع من التداخل، لكن يفسر نوعاً من الهزيمة النفسية؛ بهذا المنظور وبالمنظور، الذي قدمه د. عبد الرحمن فأرى أنه لا توجد في الصحوة هزيمة نفسية، وأرى أنها لا توجد بصفتها ظاهرة عامة، لكن توجد حالات فردية قد تزيد أحياناً، وتنقص أحياناً أخرى، وبعض المواقف قد يفهمها بعض المتابعين على أنها هزيمة، ويفهمها آخرون على أنها اجتهاد في استثمار فرص متاحة، وقد يوافقون عليها وقد يخالفون؛ فالدعاة وأهل العلم ومن عرفوا بسلامة المنهج وعرفوا بالخير، ولهم أثر في هذه الصحوة، وإن نشأت بعض الاجتهادات ـ بغض النظر عن الموافقة أو عدم الموافقة عليها ـ فهي ليست نابعة ـ غالباً ـ من الهزيمة، وإنما نابعة من أسباب أخرى: استثمار فرص أو غيرها. والصحوة الإسلامية الآن في هذه المرحلة لا تعاني من هزيمة نفسية، والدليل على ذلك الأجيال التي تتطلع إلى الجهاد وتمارسه، بل وقع بعضها في الغلو المنهي عنه، اعتداداً بنفسها وثقة بما عندها.
لعلك تقابل شباباً يعملون أعمالاً أكبر من طاقتهم؛ فبعضها أعمال مشروعة، مثل ما نرى في فلسطين، وما نرى في العراق، وغيرهما من مواطن الجهاد.
شباب يقفون أمام أعتى قوة؛ هل يوصفون بالهزيمة؟ مستحيل، ونجد آخرين في بعض بلاد المسلمين يعملون مثل أعمال التفجيرات وغيرها، وهذا غلو وخروج عن المنهج، وليس من الإصلاح، ولكن لا يمكن أن يكون هذا نابعاً من الهزيمة، بل نابعاً من الاعتداد المفرط بالذات؛ لذلك أقول: إن الهزيمة غير موجودة بصفتها ظاهرة عامة، لكن يوجد حالات فردية في كل عمل، وفي كل جيل يحدث ذلك. بقيت نقطة أشار إليها د. عبد الرحمن، وهي أن الصحوة الآن تمر بمراحل ـ مثل مرحلة العمر ـ هل تسمى مرحلة فتور؟
توجد مظاهر أوافق أنها مظاهر فتور، وقد تحدثت عنه قبل سنوات في كتاب (الفتور) . والفتور غير الهزيمة هذا أولاً.
ثانياً: القادة والذين لهم السبق في نشأة الصحوة ـ كما أشار الدكتور ـ هم أناس كانوا يوجهون، أما الآن فانتقلوا من التنظير إلى العمل وإلى المشاريع؛ فهم الآن انشغلوا ببرامج عملية علمية.
ولو نظرنا قبل عقدين مثلاً فسنجد أنه لم تكن القنوات الموجودة الآن، ولم تكن المواقع موجودة في المنهج العلمي والدورات وغيرها من الانشغال بالعمل الذي يوازن التنظير، بعضهم يتصور أنه نوع من الهزيمة، هذا غير صحيح، أيضاً عدم التجاوب مع الاستفزاز الذي يحدث الآن فهذا رشد وعقل وفكر.
بقيت نقطة أخيرة هي أنه لا شك أن الصحوة عندها إشكالات معينة، ولا شك أن عمرها قصير بالنسبة لما تحقق لها من إيجابيات ناجحة، وهناك إشكاليات عالقة، سواء سميناه الارتباك كما تحدث د. عبد الرحمن، أو نوعاً من التأمل، أو عدم الوضوح والضبابية، أو هزيمة فردية محدودة عند بعض الأشخاص، ولا شك أن هذه مرحلة طبيعية، وهذه تفسر بعض الأحداث الموجودة، والله أعلم.
- د. عبد الله الصبيح: كلمة جميلة قالها الدكتور عبد الرحمن في تعريفه الهزيمة: هي الشعور بعدم القدرة على الفعل لدى من يستطيع أن يفعل. وهذا التعريف يشرح جانباً من جوانب الهزيمة، وهناك جانب آخر يوضحه تعريف آخر أورده الدكتور عبد الرحمن وهو الهزيمة النفسية هي التخلي عن الأهداف التي كان يتبناها، وربما ما يقابلها. وهذان التعريفان يوضحان صورتين للهزيمة سوف أتطرق إليهما حينما أتحدث عن مفهوم الهزيمة.
وقبل الإجابة عن السؤال: «هل نحن أمام هزيمة نفسية في جيل الصحوة؟» .
أحب أن أشير إلى أن أول من تحدث عن الهزيمة النفسية فيما أعلم هو ابن خلدون ـ رحمه الله ـ في مقدمته؛ حيث عقد فصلاً خاصاً بذلك، وسماه (تقليد المغلوب للغالب) يقول ابن خلدون: «المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في زيه وشعاره، وعوائده، وشأنه كله» .
وذكر ابن خلدون صوراً من هزيمة المسلمين النفسية في الأندلس، أو تقليد المغلوب للغالب - كما سماها - ومنها وضعهم الصلبان في البيوت ومجاراتهم للنصارى في سلوكهم ولباسهم ومأكلهم ومشربهم، ويعلل ابن خلدون ذلك بأنه لظن المغلوبين أن تقليد الغالب في عوائده يمنحهم القوة التي انتزعها منهم عدوهم.
وما ذكره ابن خلدون عن تقليد المغلوب للغالب ليس قاعدة مطردة؛ فهناك من غلب واستولى عدوه على أرضه، ومع ذلك بقي معتزاً بدينه وقيمه ونفسه، ولم يقلد من غلبه؛ فالمسلمون لما هزمهم التتار، وجدنا الغالب هو الذي قلد المغلوب ودخل في دينه. وفي العصر الحاضر نرى إخواننا في فلسطين معتزين بإيمانهم محافظين على عقيدتهم، يشعرون بتميزهم عن عدوهم الغالب الجاثم على أرضهم.
بعد هذه المقدمة أقول: يظهر لي أن للهزيمة النفسية صورتين:
1 - هزيمة الذات أمام المبدأ؛ حيث لا يستطيع الفرد تحمُّل تبعة المبدأ ودفع ثمنه فيتخلى عنه، إما للحصول على مكسب دنيوي، أو الخلاص من أذى يلحقه بسبب مبدئه.
2 - هزيمة المبدأ أمام الواقع؛ حيث يكتشف الشخص أن المبادئ التي يحملها عاجزة عن إحداث تغيير أو إصلاح في الواقع، فيتخلى عنها بحثاً عن مبدأ آخر، وقد لا يكون في هذا الجانب هزيمة نفسية واضحة؛ لأن منه ما هو هزيمة، ومنه ما ليس كذلك. وينبغي ملاحظة أن مصطلح الهزيمة مصطلح فضفاض كمصطلح الصحوة الذي سأتحدث عنه؛ فهناك فتور يمكن أن تلحقه بالهزيمة، وهناك انشقاق في الصف يمكن أن تلحقه بالهزيمة، وهناك الاجتهاد في التأول، وفي تطويع المبدأ للواقع الذي يتداخل أحياناً مع الهزيمة النفسية وأحياناً مع الاجتهاد.
وسواء قلنا إن الصحوة تعاني من الهزيمة النفسية أم لا تعاني منها، فلا بد من تحديد المراد بالصحوة الإسلامية.
تيار الصحوة الإسلامية في نظري لم يعد محدوداً بمجتمع معين، أو أفراد محدودين، أو جماعة أو تنظيم أو حزب، بل أصبح تياراً واسعاً، ودخل تحت هذا التيار كل من رفع الإسلام شعاراً للحياة، ونحن نعلم أن ممن رفع الإسلام شعاراً للحياة من كان على سنن صحيحة، وطريقة سديدة، ومن رفعه وهو ليس كذلك، بل هناك من رفعه نتيجة انهزام في مبدأ سابق، مثل: بعض القوميين، وبعض العلمانيين الذين انهزمت أفكارهم فرفعوا الشعار الإسلامي، ولكنهم يريدون الإسلام الذي في أذهانهم، وليس الإسلام المنزل على محمد #.
وهؤلاء في نظري يعيشون حالة من الهزيمة النفسية، وفيما رفعوه يحدث خللاً داخل الصف الإسلامي، والصحوة الإسلامية.
إذن تيار الصحوة الإسلامية تيار واسع، ويمكن أن نقول: إن الصحوة بمجملها لا تعاني من هزيمة نفسية، لكن يمكن أن نلاحظ عند بعض قطاعاتها وعند بعض الأفراد ـ وهم ليسوا قليلين ـ هزيمة نفسية بناءً على ما ذكرته عن صور الهزيمة. وهذه ليست ظاهرة عامة شاملة، بل ظاهرة جزئية، ولا يمكن تعميمها على تيار الصحوة بكامله. ولعل مما يساعد في انتشار الهزيمة النفسية أو مما يفضي إليها ما ذكره الدكتور عبد الرحمن مما سماه بـ (الارتباك الفكري) . الصحوة الإسلامية كانت في وقت من الأوقات تعيش مرحلة العاطفة، ومخاطبة الفرد في صلاح نفسه، ثم انتقلت إلى مواجهة الواقع بتقديم حلول عملية. وبعض هذه الحلول العملية تداخلت مع بعض أطروحات المشروع العصراني الذي ظهر في أواخر القرن الثالث عشر وأول القرن الرابع عشر، وهو يقوم على تطويع النص ومقاصد الشرع للواقع.
وربما كان ظهور المشروع العصراني بسبب ضعف البناء الثقافي، والإعداد العلمي عند الصحوة في المرحلة السابقة، مرحلة البناء العاطفي أو مرحلة تربية الفرد. وعودة المشروع العصراني للظهور مرة ثانية، سواء على مستوى النخب أو مستوى الأفراد والأتباع صورة من صور الهزيمة النفسية التي نتحدث عنها.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: لي تعليقات مباشرة على ما سبق، أذكرها باختصار:
أولاً: ما ذكرته هنا حالة من الارتباك والتأمل البطيء لدى بعض رواد الصحوة من مفكرين أو عاملين، وهذه ألمح إليها الدكتور ناصر العمر، هذا قد يُحدث حالة من الهزيمة النفسية مستقبلاً إذا لم يستطع هؤلاء أن يطوروا صُعُداً ما يقدمونه؛ بمعنى إذا تباطؤوا عن تقديم هذه البرمجة العملية لمساوقة الحياة بصبغها بالحلال والحرام؛ بحيث يعيشها الناس حياة إسلامية؛ فإذا تباطؤوا وتلكؤوا فقد يملّون من قِبَل من لديهم انفتاح عليهم، أو قبول لهم من حكام وغيرهم. هذا من جهة، ومن جهة ثانية سيبدأ الناس يطلعون بعمومهم على الطرح الآخر الذي يمكن أن يطرحه العصرانيون، وخاصة أن العصرانيين الآن ليسوا على النمط السابق الذي يعلنون فيه قطيعتهم مع الإسلام؛ فقد صاروا الآن يقدمون رؤاهم العصرانية، ويلبسونها لباساً إسلامياً.
وهنا نقطة ثانية وهي تعليق على كلمة الدكتور عبد الله في قضية ولع المغلوب بالتقليد للغالب فهو حقيقة، ولكن انهزام النفس أمام الغالب له درجات وليس درجة واحدة، هو أحياناً يكون انهزاماً مبدئياً؛ بمعنى يمسخ فيه الإنسان ويذوب حضارياً، وقد يكون الانهزام ليس مبدئياً، فلا نقول هذا انهزام، وإن كان قد تأثر في الغالب ببعض مجرياتها العملية، وانفعل ببعض معطياتها الفكرية والثقافية ... إلخ؛ فهي انهزمت عملياً، لكنها ما انهزمت حقيقة؛ لأن الهزيمة النفسية في الحقيقة هزيمة قاصمة؛ لأن النفس هي آخر شيء عند الإنسان. وحتى لا يكون الكلام فكرياً بحتاً أضرب مثالاً: الاستعمار جاء إلى العالم الإسلامي، فاستعمر الغربيون بلاد المسلمين، وكانت مكيدتهم، خاصة في الجانب الثقافي أكثر من غيره؛ والغربيون استعمروا أيضاً أمريكا اللاتينية كما هو معروف ورحل المستعمرون من البلاد الإسلامية، ورحلوا من أمريكا اللاتينية؛ فما الذي حدث؟ الذي حدث هو اختلاف واضح بين الجهتين: أمريكا اللاتينية مُسخت نهائياً؛ فلا أديانها التي كانت بقيت بها، ولا تقاليدها التي كانت بقيت لها، ولا لغاتها أيضاً التي كانت بقيت؛ وهكذا؛ فهناك هزيمة نفسية ساحقة؛ بمعنى أن الشخصية الحضارية التي كانت هناك ذابت أمام حضارة الغازي وصارت الآن تابعة لها. لكن بالنسبة للأمة الإسلامية فلا.
نعم! انفعلوا وتأثروا، لكن بقيت لديهم الخميرة الداخلية، وبقي لديهم أن ما يحملون من هذا الكتاب ـ وهو القرآن ـ يمثل الأعلى، ومهما ضعف التزام الإنسان في عمله إلا أنه يشعر أن هذا هو الحق، ومن ثم أي فكرة وأي نظرية تخالفه فإنها باطلة. تلقائياً يعرف هذا الشيء، قد ينجر أحياناً نتيجة شهوة، أو مؤثرات إغرائية، قد ينجر وراء هذا الشيء الجديد، لكن يبقى في قرارة نفسه الأساس الديني؛ فالحقيقة أن الهزيمة النفسية ليست صورة واحدة، وإنما تأخذ أشكالاً مختلفة. هناك نقطة أخيرة هي ـ وقد أشار إليها الدكتور عبد الله ـ قضية أن الصحوة مفهومها واسع، صحيح أن مفهومها ليس مفهوماً مصطلحياً؛ بمعنى: أن له تعريفاً جامعاً مانعاً، لكن لا أعتقد أن من أدخلهم الدكتور عبد الله في الصحوة، أنهم من الصحوة، ومن سماهم وهم المنهزمون نفسياً أو العصرانيون ونحوهم؛ فهؤلاء ليسوا من الصحوة، ولا يعتبرون هم أنفسهم من الصحوة، حتى وإن كتبوا في الإسلاميات وإن فسروا الإسلام؛ فلا أعتقد أنهم يُعَدُّون من الصحوة؛ فلا محمد أركون، ولا شحرور، والقمني ولا سعيد عشماوي.... ولا نحوهم من الفئة التي كانت دراستهم تتجه للإسلام وتفسير القرآن، وتحاول أن تقدم صورة بديلة أو مقابلة للصورة التي تقدمها الصحوة، لكنها ليست للصحوة؛ فهؤلاء هم خارج سور الصحوة الإسلامية.
- د. عبد الله الصبيح: يعتمد على هؤلاء بعض أبناء الصحوة يقرؤون لهم، ويتأثرون بفكرهم.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: القراءة نعم! أما التأثر فقضية ثانية، وهي إذا كان التأثر بفكرهم تأثراً منهجياً، تأثرهم بحيث أن لديهم قدرات على أن يستوعبوا المنهج لنقدهم، ولتقديم رؤاهم داخل دائرة الصحوة من خلال المنهجية الجديدة إذا تلبَّسوا بها بمنهجهم أصبحوا منهم، لا أعتقد أن في دائرة الصحوة من يتفاعل مع هؤلاء بهذه الصيغة التي ذكرها الدكتور عبد الله.
- د. عبد الله الصبيح: ليس بالضرورة الأسماء التي ذكرتها، لكن هناك من قطاع الصحوة من تأثر ببعض الكتابات، وحصل عنده نوع من الهزيمة؛ فإذا كنت تريد أنت أن تُخرج هؤلاء من قطاع الصحوة فحينئذ أنت تنفي الهزيمة النفسية عن الصحوة بإخراج كل من انهزم منها.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: نحن من خلال حديثنا عن الصحوة والهزيمة. أنا أقول: إذا تلبَّس وأصبح هو صورة لهذا الإنسان الذي حكمت محكمة علمانية بردته؛ فكيف ندخله في الصحوة؟ هذه رؤيتي.
- د. عبد الله الصبيح: ليس بالضرورة أن ندخلهم.
البيان: ربما كان ذكر الأسماء هو الذي أوجد فارقاً كبيراً في الحكم، لكن ألا ترى أن هناك مجموعة ممن ينسبون للفكر الإسلامي قد تكون عندهم طروحات عصرانية تميل أحياناً إلى الغلو الذي لا يخرجهم عن دائرة الإسلام، لكنهم أيضاً تأثروا بشكل أو بآخر ببعض الأطروحات العصرانية؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: أما أن تكون أفكار أفراد فهذا صحيح، وأما أن تكون ظاهرة فلا أعتقد، ونحن نتحدث عن الهزيمة بصفتها ظاهرة.
النقطة الأخيرة وهي أن الدكتور عبد الله ذكر مشروعاً عصرانياً يعاد طرحه، والحقيقة أنا لا اعتبر أن هناك مشروعاً عصرانياً يعاد طرحه، والعصرانيون أنفسهم يعترفون؛ فمشروعهم الآن مواجهة الصحوة، ومحاولة إفساد أعمدة هذه الصحوة، وتبديد طاقاتها، وهذا هو الجهد ذكرته. مَنْ هذه الأسماء، وما هو دورها؟ دورها هو هدم قدسية القرآن؛ لأن متعلق الصحوة الإسلامية الأكثر الآن الرجوع للكتاب والسنة، والرجوع بصفته العاصم الأساس لحركة المسلم، ولهذا هم يجدون حالة مفارقة عجيبة يعترف بعضهم مثل (هشام جعيط) في كتابه «الشخصية الإسلامية والمصير العربي» يقول: مشكلة العلمانيين العرب مع النص المقدس ـ القرآن ـ أنه واضح وحاسم، وأنه أصل لدى المسلم لا مجال للارتياب فيه، هذا يجعل الإنسان الآخر ـ يعني العلماني ـ مُحْرَجاً عندما يصادم القرآن مباشرة، وهناك سيكون منهزماً.
(فؤاد زكريا) في محاضرة ألقاها وطبعت عنوانها «العلمانية ضرورة» ، قال وهو يتحدث عن العلمانيين والإسلاميين: العلمانيون ثلاثة أقسام: اشتراكيون، قوميون، ناصريون، والحقيقة أنهم يعرفون ما لا يريدون، ولكنهم لا يعرفون ما يريدون؛ يعرفون ما يريدون في تطبيق الشريعة التي كانت صيحة الصحوة قبل 10 سنوات أو نحوها، ويقفون هم في وجهها، ويعرفون أن هذه هي القضية التي يريدون الوقوف في وجهها، لكنهم لا يعرفون ما يريدون، ليس لديهم مشروع بديل يقدمونه، سقطت مشاريعهم، فبقيت لديهم عملية هدم وتفتيت إلا إذا كانت مشروعات هدمية ناقدة كمشروع الجابري، ونحوه الذي هو نقد للثقافة الإسلامية، ومثل منهج (أركون) الذي لا يقدم مشروعاً بقدر ما ينقد الدين، ويفتت قدسية هذا النص، ومثل ما يطرحه الآن الدكتور (طيب تيزيني) في قضية تعدد القراءات في النص المقدس، أو الاعتماد على نظرية موت المؤلف في قراءة القرآن، ونحو ذلك.
- د. ناصر العمر: حول نقطة أشار إليها الدكتور عبد الله وعقب عليها الدكتور عبد الرحمن في موضوع وجود أشخاص داخل الصحوة أصبحت لديهم مواقف تتقارب مع المدرسة العصرانية. أنا أوافق أنه توجد أسماء تطرح طروحات تتوافق مع هؤلاء، وهذا نوع من الهزيمة النفسية كما اتفقنا، لكن حتى الآن لم يظهر لي من خلال الحديث أن هذه العناصر مؤثرة؛ فلم تكن أصلاً من قيادات أو رواد الصحوة، وإنما كانوا أفراداً أو شاركوا في بعض المشاريع المحدودة عملياً. وينبغي أن ننظر إلى القضية بنظرة متزنة لا ننفي الموجود، وهو كما اتفق الجميع ليست ظاهرة، والحمد لله.
البيان: ليست ظاهرة، لكن هناك ممارسات سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى أوسع قد تزداد في بعض الأوساط؛ بحيث تتسع دائرته وممارساته عند آخرين ... ونخشى أن تكون ظاهرة في المستقبل.
- د. ناصر العمر: إن لم تعالج؛ وهذه الندوة حلقة من حلقات التوعية، حتى لا تزلَّ قدم بعد ثبوتها.
البيان: نتحدث الآن عن مظاهر هذا الارتباك الذي أشار إليه الدكتور عبد الرحمن، أو ما قد يسمى عند آخرين بأنه هزيمة على مستوى الأفراد أو على مستوى أوسع من ذلك؛ لأن هذا سوف يزيد أيضاً من توضيح تحديد المسار الذي نتحاور فيه.
- د. عبد الله الصبيح: أعود إلى إشكالية مصطلح الهزيمة النفسية. في نظري أننا حينما نتحدث عن الهزيمة النفسية فنحن نتحدث عن منحنى متدرج له طرفان ووسط، والصور في الأطراف تكون واضحة تماماً لا يختلف الباحثون في تصنيفها، ولكن في الوسط سوف نجد صوراً ربما احتاروا في الحكم عليها، فربما عدها بعض الباحثين من صور الهزيمة النفسية بينما ينازعهم آخرون في ذلك. ومن تلك الصور ما ذكرته من قبل: كالفتور، والاجتهاد في تأويل النصوص، وتطويعها للواقع، أو التخلي عن بعض المبادئ استجابة لضغط الواقع. وما كان من هذه من صور الهزيمة النفسية قد يختلف الباحثون في اعتباره ظاهرة بناء على مقدار شيوعه في المجال الذي حدده الباحث.
البيان: ولهذا ربما يكون تحديد الصورة هو الذي يضبط المسار؛ فربما يوجد تباين في تحديد مفهوم الهزيمة، لكن عندما ننزل هذا المفهوم على الأمثلة الواقعية تنضبط الفكرة ويظهر المقصود، وعندما نتحدث عن موضوع الصحوة لا نقصد بلداً بعينه أو فصيلاً بعينه من فصائل الصحوة الإسلامية، وإنما نتحدث بشكل عام.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: أنا أشرت إلى بعض المظاهر فيما سبق، ومنها الشعور بضخامة المسؤولية، والارتباك في الانفتاح على المجتمع، يعني مثلاً: قضية التفاعل مع المجتمع كيف تتم؟
هل من خلال المسار التربوي الذي كان منتشراً على نطاق الصحوة الإسلامية فيما سبق، أو من خلال قفزة إلى المستوى الحزبي؟ في مصر مثلاً: أراد مجموعة من الإخوان أن ينشئوا حزباً سياسياً، واعترضت عليهم الجماعة، ثم عادت الجماعة من خلال مرشدها لتقول: نحن مستعدون أن نشكل من أنفسنا حزباً إذا كانت الحكومة ستقبل. فعلاً هذا يعكس حالة ارتباك في القضية، حالة ارتباك تتضح أحياناً أمام بعض المفاجآت التي تحدث في المجتمع. يحدث مثلاً حركة مفاجئة، أو تغيير مثلاً نتيجة ضغوط داخلية، أو ضغوط خارجية فيحدث تغيير، وقد حدث هذا مثلاً في بلاد كثيرة في قضية مناهج التعليم، أو في قضايا أخرى. أمام مثل هذا لو كانت الوضعية كما كانت فيما سبق لكانت الخُطَب والتصريحات النارية، ونحو ذلك هي الإجابة مباشرة، لكن في ظل الوضعية التي ذكرتها صار هناك حالة تساؤلات.
مثلاً قضية التفاعل مع الآخر، أي تفاعل الصحويين مع من هم خارج دائرة الصحوة، مع المثقفين من خارج دائرة الصحوة، من الليبراليين ونحوهم؛ وتعرفون أنه جرى أحياناً تفاعل، وأحياناً لقاءات، وأحياناً بيانات مشتركة ونحو ذلك، وهذا النمط كان جديداً على الصحوة الإسلامية؛ فالصحوة الإسلامية كانت تعيش دائرتها الخاصة، وأولئك يعيشون أيضاً دائرتهم الخاصة، وإن كانوا يزعمون الإقصاء، أي أن الصحوة الإسلامية تقصيهم، كانوا هم يُقصون أهل التدين من وسائل الإعلام، وغير ذلك؛ فكلٌ يسير وحده.
بدأت قضية اللقاءات كحركة شخصية، ثم بدأ التساؤل: ما هي الأساسيات التي ينبغي أن يقوم عليها هذا اللقاء بين أناس تبنوا المشروع الإسلامي إن شئنا تضخيم الأمور، وبين أناس يتبنون مشروعاً آخر، لكن قد يلتقون في خطوط عريضة، أو مسارات تتقاطع؛ فما هي الأسس الشرعية، والأسباب المصلحية، والمحظورات المتوقعة؟ جرت تساؤلات، كُتب في بعض المجلات والمواقع الإسلامية ملفات في قضية التعاون بين الإسلامي وغير الإسلامي ونحو ذلك، هذه صورة من الصور التي تمثل ارتباكاً.
مثلاً التفاعل بين الفئات داخل الصحوة الإسلامية، ونحن نعلم أن الصحوة الإسلامية أجنحة وليست جناحاً واحداً. هناك الذين يمكن أن نسميهم الجناح السلفي مثلاً، وهناك الجناح التحرري الذي له سمات معينة في دراساته منها التوسع في عملية المقاصد الشرعية. وكلٌ يسير في طريقه مستقلاً عن الآخر ونحو ذلك، ثم لما بدأت الصحوة الإسلامية تدخل في الواقع وتتحرك فيه رأت أنها بحاجة فعلاً أن ترتكز على المقاصد الشرعية، وأن تتحرك في ضوء المصالح والمفاسد، وأن ذلك الخط لم يكن على خطأ في كل مساراته التي كان يسير فيها، وأن لديه حقاً في جوانب ينبغي أن تؤخذ ويستفاد منها، لكن كيف يتم التفاعل مع هذه الفئة؟
هذه أيضاً حالة أو صورة من صور الارتباك الفكري.
أيضاً من صور الارتباك المشكلة بين موقف الرائد الداعية القائد وبين الأتباع. الداعية القائد بحكم قدراته الفكرية، وبحكم نضجه، وبحكم عمره عنده القدرة أن يتحول، أن يتفاعل، أن يتغير، أن يتجدد، أن يترقى. المشكلة هي قضية الأتباع؛ فإن سار في طريقه غير عابئ بهم فقد يُحدِث لهم انتكاسات، قد يعتبرون أنه ضل، وأن تجديده هذا ضلال، وخروج عن نسق كان يسير عليه معهم ومن ثم خرج عليهم. إن أراد أن يتحرك بهم معه، فهذا صعب؛ لأن طبيعة الأتباع وطبيعة البسطاء أن حركة تحولهم بطيئة؛ فهناك حالة ارتباك في الحركة لدى هذا القائد في حركته، وفي عمله.
البيان: عفواً دكتور! ولكن تبقى هذه الصور في مجال الممارسة العملية، ولم نتحدث عن الارتباك على المستوى الفكري؛ لأن الممارسة العملية أقل خطورة، فقد يخطئ الناس في وقت من الأوقات ويستدركون الخطأ، لكن الارتباك أو الهزيمة على المستوى الفكري، ربما تكون أكثر خطراً، ولها انعكاسات عميقة ومتجذرة!
- د. عبد الرحمن الزنيدي: حقيقةً أنا تصوري أن هذه تتداخل فيها القضايا الفكرية مع القضايا العملية، يعني ليست هي قضية عملية بالمعنى المباشر، لكن دعني أذكر مثالاً فكرياً آخر: لدينا نحن في المملكة مثلاً: الدعوة تعتز بأنها في أصل عمقها، وخلفيتها التاريخية، سلفية إسلامية ـ أنا أعتبر أن الصحوة الإسلامية كلها سلفية منهجية على الأقل؛ لأن شعارها الرجوع للكتاب والسنة، وهذا هو شعار السلفية ـ لكن لدينا نحن الصحوة الإسلامية تعتز بأن خلفيتها التاريخية التي ورثتها عن الآباء والاجداد، خلفية سلفية ذات عمق علمي شرعي؛ إلا أن الصحوة الإسلامية لدينا استنامت أو تخدرت بفعل هذه الخلفية التي أعطتها راحة، ولو رجعنا إلى هذه الخلفية التي ركنت إليها لوجدنا أنها تتمثل في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي خرج قبل ثلاثة قرون في جزيرة العرب في بيئة نجد بالتحديد بدعوة سلفية؛ بمعنى أنها دعوة تريد أن تعود بالناس إلى الكتاب والسنة، إلى الصورة النموذجية التي كان عليها صحابة رسول الله # في مقتبل الإسلام. وكانت الوضعية الاجتماعية التي خرج منها مشكلتها الكبرى هي في توحيد العبادة، ومن ثم ركز جهده في علاج هذا الواقع؛ فهذا هو منهج التجديد الذي ركز جهده فيه، فجاء كتابه الذي يمثل دستور حركة الشيخ ـ محمد بن عبد الوهاب ـ وهو (كتاب التوحيد) ، وأثمرت هذه الحركة في التجديد، وصاغت حياة الناس صياغة جديدة؛ صياغة عقلية نفسية، وصياغة حركية عملية، وأدت دورها بأتم ما يكون، ثم صارت تتحول مع التاريخ، وبعثها الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بعثاً قوياً جديداً، وأراد أن ينقلها حتى خارج دائرة الدولة السعودية إلى العالم الإسلامي، وتواصل مع علماء آخرين.
المشكلة تأتي هنا في هذه الآونة بعد منتصف القرن الرابع عشر أن المجتمع السعودي بدأ يتغير، بدأ ينفتح على العالم من حوله، بدأت الوافدات الفكرية والتطبيقية في الحياة، بدأت دولته تتفاعل مع العالم في منظمات ودول، وأفراده بدؤوا أيضاً يتفاعلون مع أفكار الآخرين، سواء كانت أفكاراً إسلامية، أو حتى أفكار الآخرين غير الإسلامية، هنا كان المنطق الطبيعي هو أن تكون هناك حركة تجديد لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حركة تجديد تصوغ المنهجية للحياة، ابتداء بالجانب العقدي وما بعده لتصوغ حياة الناس في ظل الظرفية التشكلية الجديدة، في أفكارهم، في نمطهم الحضاري، في نمطهم المادي الذي تغير تغيراً جذرياً، في كل هذه الجوانب، وهو أن يكون حركة تجديدية تتفاعل فيها هذه الدعوة السلفية الموروثة مع هذا الواقع الجديد المتغير. للأسف لم يحدث هذا بدرجة كافية، فبقيت القضية على هذا الموروث. أعتقد أن هناك في الآونة الأخيرة بدأ تنبه إلى أنه ينبغي أن يكون هناك تجديد. السلفية تبقي الكتاب والسنة هما المصدر، والنموذج المثالي لصحابة رسول الله # هو المَعْلَم، دعوة الإمام ابن تيمية هي نموذج صياغة العقل بعد تأثير الوافدات الفكرية، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي الرصيد الذي نرتكز عليه. لكن نتحدث عن صياغة نموذجية تعطينا منهجاً جديداً: في البناء العقدي، في الاجتهاد التشريعي، في التفاعل الحضاري، في الصيغ المطلوبة آنياً، هناك تنبه لهذا، وهناك محاولة استباق من فئات لا يعتبرها الصحويون من الصحوة، وهناك استباق من أناس من الصحوة، وربما الدكتور عبد الله كان يلمح إليهم في قضية الانهزام النفسي وهي من هذا، وإن كنت لا أعتبره هزيمة، أقصد أنهم أناس ينقدون الاتجاه السلفي من داخله، والآخرون الذين يمثلون تياراً محافظاً في دائرة السلفية بدأت بعض حركتهم ترتبك، هم يرون أنه لا بد من حركة تجديد، أن يستجيبوا لهذا النقد الذي يكون أحياناً صارخاً في أدائه وفي قوة لذعاته. أيضاً هذه مشكلة، هذه حالة ارتباك فكري حاد، وأنا اعتبره في هذا الموضوع.
البيان: نعود مرة أخرى إلى مظاهر هذا الارتباك الفكري سواء على مستوى الممارسة أو على المستوى الفكري والثقافي.
- د. ناصر العمر: يمكن أن نتفق على وجود هذه الأمور التي سماها الدكتور ارتباكاً، أو يمكن تسميتها مشكلات أو نوعاً من الضبابية، أو نحوها. التسمية ليست مهمة في رأيي، سأذكر بعض المشكلات على سبيل المثال لا على سبيل الحصر من أجل فتح هذا الموضوع وطرحه للنقاش.
أنا أعتقد أن من المشكلات الموجودة أصلاً عدم وضوح البرنامج العملي في ذهن بعض قادة الساحة؛ حيث كان تركيزهم على جانب معين، وعدم التكافؤ ـ فيما أرى ـ بين الوعود والمكتسبات العملية أحدث مشكلات؛ عدم واقعية الناس أيضاً في مطالبهم تجاه ما ينبغي تحقيقه، الناس بطبعهم يتمنون ويتخيلون عندما يتحدث المتحدث، وقد يكون القائد في ذهنه شيء محدد، الناس يأخذون من الخيال، فلما يرون ما يحدث ما يتوقعون أنه هو الأمر، ومن هنا نشأت مشكلة. أيضاً توجد نقطة اعتبرها رئيسة وكانت جديدة على الصحوة، وهي أن الصحوة فى أول أمرها كانت كالذي يسير على الأرض السهلة، ثم بدأت العقبات التي أخبر الله بها بقوله ـ تعالى ـ: {الچـم «#! 1! #) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2] ، فبدأت الفتن والابتلاءات بشتى أنواعها {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] ، ونشأ اختلاف في وجهات النظر في مواجهة التحديات، وخاصة من القوى الضاغطة؛ فحدث تراجع أو هزيمة. أيضاً هنا إشكال معين وهو الاختلاف بين النقد فقط وتقديم البرنامج؛ لا يلزم أن من ينقد الواقع أنه لا بد أن يقدم برنامجاً، قد يكون عنده قدرة على نقد الواقع، كما يقال في محيط الأدب أنه لا يلزم في ناقد الشعر أن يكون شاعراً، قد تكون قدرة الناقد على النقد أسهل، ربما كان في الماضي التركيز على النقد فقط، وهذا طبيعي، بل هو منهج وله أصل، حتى يبين للناس الواقع الذي يعيشونه ليتخلصوا من سلبياته. ثم بدأ بعضهم يطالب بالخطوة التالية، لكنها لم تكن جاهزة فكان بطء فقه الحركة من قادة الصحوة، وضعف القدرة على استثمار الفرص المتاحة. أما ما يتعلق بالجانب الفكري، فأعتقد أن عدم تحديد بعض المصطلحات والرؤى السابقة مشكلة ظاهرة. كانت تطلق رؤى لم تحرر، ثم أُخِذت على أنها مسلَّمات وهي ليست كذلك؛ فلما جاء صاحبها بعد حين لأجل أن يحررها ويبينها ترى أنه تراجع، تغير، اختلف. ومنها أيضاً الخلط بين الوسيلة والمبدأ، فكان الناس ـ أنا أتكلم عما كان سابقاً من قادة الصحوة على أنها تكون مبادئ، قد تكون وسائل ومراحل في هذا الجانب؛ فهم لا يفرقون بين الوسيلة والمبدأ، في ما كان مرحلياً أو مبدئياً، المرحلة تتغير؛ فما كان قبل 10 سنوات نجد أنه يختلف عما هو عليه الآن، أما المبدأ فهو الذي لا يختلف الناس عليه. وحدث إشكال في الجانب الفكري.
- د. عبد الله الصبيح: إذا أردت أن أتحدث عن الارتباك الفكري فالمجال فيه واسع جداً، والارتباك الفكري ربما يكون بسبب مواجهة المواقف الجديدة التي تتطلب اجتهاداً غير معهود، وربما لم ينجح المجتهد في الوصول إلى اجتهاد سليم؛ بسبب عدم إدراك الواقع إدراكاً صحيحاً، أو بسبب البقاء على نوع من المطلقات الفكرية العامة جداً التي يصعب تنزيلها على الواقع وتحويلها إلى صيغ عملية. ومن معوقات الاجتهاد التي تساهم في إحداث الارتباك الفكري أنه قد يستقر عند بعض الناس أنماط فكرية، وصيغ عملية، وحينما يواجهون ما استجد من الحياة يظهر عجز تلك الأنماط الفكرية، والصيغ العملية التي استقروا عليها عن مواجهة الواقع، وربما ظن بعضهم أن تلك الصيغ العملية، والأنماط جزء من الدين، بينما هي اجتهاد أو رأي، أو ربما مجرد عادات لا علاقة لها بأمر الدين. ويقع الارتباك الفكري حينما يعجز العالم عن الاجتهاد بما يفي بحاجة الناس أو حينما يجتهد فيختار غير ما ألفه الناس من تلك الأنماط الفكرية، والصيغ العملية، وربما فسر بعض الأتباع هذا بأنه نوع من التراجع، أو أنه نوع من الارتباك الفكري.
وبعض صور الارتباك الفكري ليست من الهزيمة النفسية في شيء، وينبغي تمييزها عنها. أما الهزيمة النفسية، فكما قلت من قبل لها عدد من المظاهر، وأوضح هذه المظاهر وفقاً للمنحنى المتدرج الذي أشرت إليه آنفاً أقصى صور المنحنى، وهي التخلي عن المبدأ والقبول بمبدأ الخصم. هذه صورة فاقعة تماماً لا يستطيع أحد ألا يدركها.
البيان: لكن هل هذه الصورة موجودة في الصحوة؟
- د. عبد الله الصبيح: هذه ليست موجودة بهذه الحدية، لكن هذه أقصى صورة من صور الهزيمة النفسية وهي موجودة عند بعض أبناء الأمة.
ومن مظاهر الهزيمة أيضاً: الانطواء والعزلة، وهذه أزعم أنها موجودة عند أفراد من الصحوة الإسلامية، بل إن بعض قطاعات الصحوة لما عجزت عن مواجهة الواقع آثرت الانطواء والعزلة، وتمسكت بما هي عليه من فكر، وهذه أعدها صورة من صور الهزيمة النفسية. وهناك صورة أخرى ربما يختلف فيها القول، ويثور حولها الجدل وهي تطويع النص وتأويله. أحياناً يكون ذلك ناتجاً عن اجتهاد سائغ، وأحياناً يكون عن هزيمة نفسية؛ لأن القضية التي تشغل الذهن هنا هي: ما حدود ذلك التطويع وذلك التأويل؟
أحياناً يكون التأويل السائغ للنص نوعاً من الاجتهاد المطلوب الذي يثاب عليه صاحبه، وفي أحيان أخرى لا يكون كذلك؛ لأنه يتجاوز ثابتاً من ثوابت الشريعة وقطعياً من قطعياتها، فيكون عبارة عن هزيمة وتخلٍّ عن ثابت من ثوابت الشريعة، وواضح فيه مسايرة الطرف الآخر صاحب القوة وصاحب الغلبة؛ فهذه صورة من صور الهزيمة النفسية، وهذا الذي عنيته حينما قلت: عودة المشروع العصراني إلى البروز حينما بدأت الصحوة الإسلامية تواجه الواقع، وأنا أرى أنه لا يوجد مشروع عصراني مستقل، ولكن هناك طريقة في التفكير تحاول أن تتخلى عن بعض ثوابت الشريعة، وتطوع بعض ما في الشريعة استجابة لضغط الواقع. نعم! هناك أشياء لا بد للفقيه أن يراعي فيها حاجات الناس وأوضاعهم، وليس هذا من الهزيمة النفسية أو الولاء المذموم، لكنَّ هناك صوراً فيها نوع من الطبعة العصرانية التي كانت في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر، بدأت تعود إلى البروز مرة أخرى. وهذه أرى أنها هزيمة نفسية لكن أرجو ألا تكون واسعة الانتشار.
وهناك مظهر من مظاهر الهزيمة النفسية، وهو تقليد الغالب في اللباس، وفي الزي، وفي أمور سلوكية أخرى؛ هذه ظاهرة من ظواهر الهزيمة النفسية في المجتمع المسلم، ولكنها ليست ظاهرة في الصحوة الإسلامية، أو أرجو ألا تكون كذلك. هذه بعض ظواهر الهزيمة التي تبدو لي، وقد لا يخلو واحد منها من جدل وخلاف؛ لأن المصطلح فضفاض.