مجله البيان (صفحة 5326)

الوصل بين الفقه والحديث

الضرورة والإجراء

د. قطب الريسوني (*)

إن التنافر بين بعض أهل الفقه وأهل الحديث من الفجوات العلمية المعروفة في تاريخ الدراسات الشرعية (?) ، وقد أسهم في تعميقها ـ عبر تراخي العصور ـ ما يسمى اليوم بـ (الاختصاص) ، على ما كان عليه المتقدمون من مزية المشاركة في العلوم، والتضلّع من المعارف، فضلاً عمّا ابتلي به بعض أهل العلم من المفاضلة بين العلوم، والانتصار لفن على حساب آخر دون مراعاة الفروق، وتمييز الفضائل.

1 ـ ضرورة الوصل:

وقد نادى علماؤنا المتقدّمون بضرورة ملء الفجوة بين الحديث والفقه لعدم استغناء الشرع عن العلمين معاً؛ فالأول: يصحّح الدليل، والثاني: يسدّد الفهم، وتكاملهما يفضي إلى صياغة حكم شرعي صحيح السند صحيح المعنى. وإليك البيان:

إن الإحاطة بالفقه متوناً وأدلّة لا تستقيم إلا بمعرفة الأحاديث النبوية الصحيحة، التي هي متن الأحكام الشرعية وموضوعها، ولا سيما أن السنّة استقلّت بالتشريع؛ فأصبح الكتاب أحوج إليها من احتياجها هي إليه، كما قال الأوزاعي، وهذا النوع يعرف بـ (السنة المؤسسة) ، وقد أنكرها بعضٌ خلافاً للجمهور، فأبطل كل سُنَّة ثابتة زائدة على نص القرآن.

ومع استقلال السنة بالتشريع يصبح الجهل بها جهلاً بالفقه نفسه؛ لأن موضوعه الحكم الشرعي؛ ومن مظان الحكم الشرعي السنة المؤسِّسة أو المستقلّة، فتأمل!

ثم إن الحظ الأوفر من مادة الفقه مورده السنة؛ لأنها المصدر التشريعي الثري الذي رسم للكون والإنسان والحياة منهجاً تفصيلياً، يلبّي مطالب المادة، وأشواق الروح على حد سواء؛ وكتب الفقه ناطقة بهذا؛ فلو جردناها مما جاء فيها من أحاديث ومرويات، وما تفرّع عليها من استنباطات واجتهادات لتعطّل الفقه بتعطيل رافده الثري (?) .

وليس المطلوب من الفقيه التبحّر في علوم الإسناد، وتراجم الرجال على عادة أهل الصنعة الحديثية، وإنما يكفيه تحرّي الأخبار، وتمييز صحيحها من سقيمها، حتى إذا استشهد بحديث في تقرير أحكام الحلال والحرام كان على معرفة بدرجته الموجبة لقبوله أو ردّه، والمرجع في هذا الشأن كُتُبُ صيارفة الحديث، ونقاده المعتبرين.

ومن ثم فإن رواج الضعيف والموضوع في كتب الفقه راجع إلى إقلال أصحابها من بضاعة الحديث، وجهلهم بمراتب الأدلة، ولشيخ المصطلح (ابن الصلاح) كلمة يستضاء بها في هذا الصدد؛ حيث يقول: «إن علم الحديث من أفضل العلوم الفاضلة، وأنفع الفنون النافعة، يحبّه ذكور الرجال وفحولهم، ويُعنى به محققو الرجال وكَمَلتهم، ولا يكرهه من الناس إلا رذالتهم وسفلتهم، وهو من أكثر العلوم تولُّجاً في فنونها، لا سيما الفقه الذي هو إنسان عيونها، ولذلك كثر غلط العاطلين منه من مصنفي الفقهاء، وظهر الخلل في كلام المخلّين به من العلماء» (?) .

كذلك لا يستغني المحدث عن الفقه وأصوله لتقويم أداة فهمه، وشحذ مَلَكَة استنباطه، وإلا ظلّ المتن مغلقاً على فوائده وأسراره، وانقلب علم الحديث إلى وسيلة لدراسة شكليات الدليل، وقوالب النص مقطوعاً عن غايته المثلى، وهي استثمار فقه هذا النص، أو ذلكم الدليل في تقرير الصحيح من أحكام الحلال والحرام. يقول الحاكم في (معرفة علوم الحديث) : (النوع العشرون من هذا العلم: معرفة فقه الحديث؛ إذ هو ثمرة هذه العلوم، وبه قوام الشريعة) (?) .

فحال المحدّث الذي يجهل الفقه كحال من يملك أصدافاً، ولا يقدر على استخراج مكنوناتها وجواهرها، وما فائدة امتلاك الأصداف إذا لم تستعمل جواهرها في زينة أو تجميل؟ وما فائدة تصحيح الأحاديث إذا لم نَحُلَّ أعمالنا بفقهها، ونغني درايتنا بفوائدها؟

ولنذكر هنا طرفاً من أقوال العلماء في ضرورة الجمع بين الحديث والفقه، والرواية والدراية، عسى أن يستضيء بها كل طالب غيور على دينه، متهمّمٍ بكمال علمه:

1 ـ قال الإمام مالك في وصيته لابنَيْ أخته أبي بكر وإسماعيل: (أراكما تحبّان هذا الشأن ـ يعني الحديث ـ قالا: نعم! قال: إن أحببتما أن تنتفعا وينفع الله بكما، فأقلاّ منه وتفقّها) (?) .

2 ـ وجاء في (ترتيب المدارك) للقاضي عياض: (قال ابن وهب: لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت، فقيل له: كيف ذلك؟ قال: أكثرت من الحديث فحيّرني؛ فكنت أعرض ذلك على مالك والليث فيقولان لي: خذ هذا، ودع هذا!) (?) .

3 ـ قال محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة: (لا يستقيم العلم بالحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم العمل بالرأي إلا بالحديث) (?) ، وقوله حكاه عنه السرخسي في أصوله.

4 ـ قال الإمام الخطابي في (معالم السنن) : (رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر؛ كل واحدة منهما لا تتميّز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه في البغية والإرادة؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب) (?) .

ولا شك أن رواج الأحاديث الضعيفة والموضوعة في مدوّنات الفقه شاهد حيّ على فجوة الجفاء، والتنافر بين الفقه والحديث، ومحرّض قوي على إبداع صيغة الوصل المفقود بين الفنّين. ويحسن بنا هنا خروجاً من ضبابية التجريد والتنظير: أن نجلب أمثلة من الواهي والسقيم، مما عليه عمل فقهائنا في كتبهم، وهي قليل من كثير، وصُبابة من غدير:

ـ استدل الحنفية في (باب نواقض الوضوء) بقصة الأعمى التي رواها الطبراني في (المعجم الكبير) عن أبي موسى قال: «بينما النبي -صلى الله عليه وسلم - يصلّي بالناس إذ دخل رجل فتردّى في حفرة كانت في المسجد، وكان في بصره ضرر، فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم - من ضحك أن يعيدوا الوضوء والصلاة» ، والحديث ضعيف، آفته محمد بن عبد الملك ابن مروان بن الحكم، اختُلف في أمره ما بين موثق له كالدارقطني وأبي حاتم، ومجرّح كأبي داود الذي قال: (لم يكن بمحكم العقل) (?) . ورواه البيهقي عن أبي رفيع بن مهران الرياحي مرسلاً، ومراسيل أبي العالية لا يعتدّ بها، قال سيرين: لا تأخذوا بمراسيل الحسن وأبي العالية؛ فإنهما لا يباليان عمن أخذا) (?) ، وقال الشافعي: (حديث أبي العالية الرياحي رياح) (?) .

ـ استدل المالكية على مشروعية سلت الذَّكَر ونتره بحديث: «إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات» ، رواه ابن ماجه برقم (326) ، وهو ضعيف، آفته عيسى بن يزداد، قال البخاري: لا يصح حديثه، وقال أبو حاتم: لا يصح حديثه، وليس لأبيه صحبة (?) .

ـ استدل الشافعية على تعيّن التراب للتيمّم بما رواه الشافعي في (الأم) ، والبيهقي في (سننه) عن أبي الجهيم قال: «مررت على النبي -صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلّمت عليه فلم يردّ، حتى قام إلى جدار فحتّه..» ، وهو ضعيف من وجهين:

الأول: السند، وفيه علّتان: الأولى: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى شيخ الشافعي، وأبو الحويرث شيخ إبراهيم، جرحا بجرح شديد تُطرح به روايتهما.

والثانية: الانقطاع؛ لأن الأعرج لم يسمع من ابن الصمة، كما بيّنه البيهقي في سننه عقب رواية الحديث.

الثاني: المتن، وفيه نكارة ظاهرة لم تَخْفَ على دهاقنة الحديث وصيارفته، ومنهم البيهقي؛ لأن الحديث ورد من طريق الثقاث الأثبات بغير هذا السياق المنكر والزيادة المردودة؛ مما يؤكد أن زيادة: (حتّ الجدار بالعصا) تفرّد بها إبراهيم بن محمد شيخ الشافعي، وهو ضعيف هالك لا يعتدّ بمثله في الشواهد والمتابعات؛ فكيف إذا خالفت روايته الثقات الضابطين؟ (?) .

ـ استدلّ الحنابلة على جواز قراءة القرآن على الميت بحديث: (اقرؤوا يس على موتاكم» ، رواه أبو داود، وابن ماجة، والحاكم، وأحمد، وغيرهم من طريق سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن أبيه عن معقل بن يسار ...

والحديث ضعيف، آفته مجهولان: أبو عثمان، وأبوه. قال الذهبي: (أبو عثمان: يقال اسمه سعد، عن أبيه عن معقل بن يسار، بحديث: «اقرؤوا يس على موتاكم» لا يعرف أبوه ولا هو، ولا روى عنه سوى سليمان التيمي) (?) ، وقال ابن حجر: (وأعلّه ابن القطان بالاضطراب، وبالوقف، وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه، ونقل أبو بكر ابن العربي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصحّ في الباب حديث) (?) .

2 ـ آليات الوصل:

استبانت إذن ضرورة الوصل بين الحديث والفقه، وأن أحدهما لا يستغني عن الآخر في درك بغيته، وتحصيل ثمرته؛ فالأول ـ كما قال الخطابي ـ: بمنزلة الأساس الذي لا يقوم بدون بناء، والثاني: بمنزلة العمارة التي يخرب بدونها الأساس.

ولا شك أن الوصل بينهما لتجديد الخطاب الفقهي، والنهوض به يستقيم من خلال المسالك الآتية:

أـ التدليل عوض التجريد:

التجريد منهج في كتابة الفقه، يقوم على ذكر الفروع عارية عن أدلتها ومآخذها، وغالباً ما يُتوسل بهذا المنهج في صياغة المتون الفقهية المختصرة التي يُقتصر فيها على الإشارة إلى مشهور المذهب، والراجح فيه دون تدليل أو تعليل، ومنها (مختصر القدوري وبداية المبتدي) للمرغيناني عند الحنفية، والوجيز للغزالي، ومتن الغاية، والتقريب لأبي شجاع الأصفهاني عند الشافعية، والرسالة لابن أبي زيد، ومختصر خليل عند المالكية، ومختصر الخرقي والمقنع للموفق بن قدامة عند الحنابلة.

وإذا كان المنهج التجريدي مستساغاً عند أصحابه، معضّداً ـ في وقته ـ بمقتضيات مذهبية وتعليمية فإن من آثار الصحوة الإسلامية اليوم حثّ طلاب العلم على طلب الفقه بدليله، وقبول الحكم بتعليله؛ مما يستلزم ربط المتون المجرّدة بأدلتها التفصيلية، حتى يتميّز منها الصحيح المتعبَّد به، والسقيم المردود عند أهل النقد والخبرة.

ونجد شبيهاً لهذه الدعوة أو تأصيلاً لها في كلام ابن القيم عن ضرورة تعزيز الفتوى بالدليل، ونسوقه هنا ـ على طوله ـ لأهميته، يقول: (عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أوْلى بالعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل؛ فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله، وإجماع المسلمين، وأقوال الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ والقياس الصحيح عيباً؟ وهل ذكر قول الله ورسوله إلا طراز (*) الفتوى؟ وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به؛ فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه، وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم.

وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال، ويشبّهها بنظائرها، هذا وقوله وحده حجّة؛ فما الظنّ بمن ليس قوله بحجة ولا يجب الأخذ به؟ وأحسن أحواله وأعلاها أن يسوغ له قبول قوله، وهيهات أن يسوغ حجّة، وقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها، فيقول: قال الله كذا، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كذا، أو فعل كذا، فيشفي السائل، ويبلغ القائل، وهذا كثير جدّاً في فتاويهم لمن تأملها، ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم، ثم يستدلّ عليه، وعلمه يأبى أن يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل.

ثم طال الأمد، وبَعُدَ العهد بالعلم، وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط، ولا يذكر للجواب دليلاً ولا مأخذاً، ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمّه، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يُدرى ما حالهم في الفتاوى، والله المستعان) (?) .

وهذا قول متين في الدفاع عن المنهج الاستدلالي في الفقه، ويمكن تفكيكه إلى أربعة عناصر أساسية:

أـ الاستدلال بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح هو روح الفقه وجماله، وطراز الفتاوى وحليتها.

ب ـ من ثمرات الاستدلال: إضفاء الشرعية على كلام الفقيه أو المفتي، وإقامة الحجّة على طالب الفقه، أو المستفتي، وإبراء العهدة من الإفتاء، أو الدعوة بغير علم.

ج ـ بيان جذور المنهج الاستدلالي في السنة، وفقه الصحابة والتابعين والأئمة.

د ـ شيوع المنهج التجريدي في زمن انقراض العلم، وتقلّص ظله، وفتور الهمم وتقاعسها، وقد بلغ من تجذّر هذا المنهج، واستئثاره بالحظوة الفقهية حدّاً أصبح معه الاستدلال مسلكاً مذموماً ومنهجاً مستنكراً.

وفي كلام ابن القيم من الصدق والدقة في وصف الواقع وبيان الحال شيء كبير؛ إذ يبدو أن الاستدلال أصبح إصراً على الفقه، وأغلالاً في أعناق الفقهاء، فجرّدوا كتبهم من كل دليل أو مأخذ، واقتصروا على ذكر قول فلان ورأي علان، ممن لا يقام لهم وزن في مقابل كلام الله ورسوله، وبين أيدينا من كتب الفقه، والنوازل، والوثائق ما يشهد لهذا المنزع التجريدي المصادم لمناهج المحققين من العلماء.

ونجتزئ هنا للتمثيل بكتاب (المختار للفتوى) للفقيه الحنفي عبد الله بن محمود بن مودود بن محمود الموصلي (ت 683هـ) ؛ فهو متن مجرّد عن الأدلة، ومع ذلك وضعه صاحبه ليكون مرجعاً في الفتوى، فيأخذ الناس منه ويدعون دون أن يعرفوا دليلاً لقول أو مأخذاً لحكم؛ إلا أن صاحب المتن قال، وأصحابه من الحنفية قالوا، لكن الخطب هان حين استدرك المصنف على متنه بشرح مستوفٍ بسط في الأدلة وأكثر التعليل، وسماه: (الاختيار لتعليل المختار) (?) .

ولعل فقه المالكية أحوج من غيره إلى خدمة الفروع ببيان أدلتها ومسالك تعليلها؛ إذ لا يُعرف لمتقدمي المالكية تأليف في هذا الشأن، بخلاف قرنائهم من أصحاب المذاهب الأخرى. أما المعاصرون ـ من المالكيين وغير المالكيين ـ فلهم جهود محمودة سدّت بعض الثلم/ النقص في مجال التأليف الفقهي الاستدلالي، نذكر من بينها:

أـ كتاب (مسالك الدلالة في شرح متن الرسالة) للشيخ أحمد بن الصديق الغماري (?) ، وهو شرح على رسالة ابن زيد القيرواني، عُني فيه ببيان أدلة الفروع من السنن والآثار، وهو مطبوع متداول.

ب ـ (إتحاف ذوي الهمم العليّة بشرح العشماوية) للشيخ عبد العزيز بن الصديق الغماري (?) ، وهو شرح مقتضب لمقدمة عبد الباري العشماوي في الفقه المالكي، عني فيه بذكر أدلة الفروع دون إشارة إلى أقوال الفقهاء، أو تعرّض لخلافهم.

ج ـ (مواهب الجليل من أدلة خليل) للشيخ أحمد بن أحمد المختار الجكني الشنقيطي (?) ، وهو شرح لـ (مختصر خليل) مشفوع ببيان أدلة المسائل من الكتاب والسنة والآثار، وقد أعوزه الاستدلال على كل الفروع بالمنقولات؛ فلجأ إلى النظر، وروايات المذهب المالكي نفسه.

د ـ الفقه المالكي وأدلته للشيخ الحبيب بن طاهر (?) ، عني بفقه العبادات عند المالكية، مستدلاً على الفروع بالكتاب والسنة والإجماع والقياس، مع الاستضاءة بفهوم أئمة المالكية وتعليلاتهم. وفي مقدمة المؤلف ما يشعر برغبته في إنجاز قسمي المعاملات والأحوال الشخصية، يسر الله ذلك وأعانه عليه.

على هذا المَهْيَع (?) ينبعي السير في التأليف الفقهي بعيداً عن قصور التجريد، وعموم الإطلاق، وقد دعا إلى تأصيله ثلة من عملاء العصر، نذكر من بينهم: الشيخ محمد بن الصديق الغماري في (مسالك الدلالة) ، والشيخ عبد الله بن الصديق الغماري في تقديم كتاب (إتحاف ذوي الهمم العلية بشرح العشماوية) لأخيه عبد العزيز، والدكتور بدوي عبد الصمد طاهر في كتابه القيم (منهج كتابة الفقه المالكي بين التجريد والتدليل) (?) .

هذا، وقد نشطت في غير المذهب المالكي حركة الاستدلال الفقهي؛ إذ ألفت كتب في الفقه الحنفي والشافعي والحنبلي مبنية على الدليل ابتداءً كـ (الأم) للشافعي، و (تحفة الفقهاء) لعلاء الدين السمرقندي الحنفي (ت 539 هـ) ، و (الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل) لابن قدامة، وصنفت كتب أخرى مجرّدة عن أدلتها، فاستدرك عليها مؤلفوها وغير مؤلفيها بشروح تُعنى ببسط أدلة المسائل من الكتاب والسنة والآثار، ومنها: (العزيز في شرح الوجيز) لأبي القاسم الرافعي الشافعي، و (البناية في شرح الهداية) للعيني في فقه الحنفية، و (الشرح الكبير على متن المقنع) لابن قدامة الحنبلي. ومع هذا فما زالت متون المذاهب بحاجة إلى خدمة في المجال الاستدلالي تقوّي منزعها، وتجلّي منحاها، وتميّز سمينها من غثّها، حتى يُعبَد الله بالدليل، ويظهر لكل مذهب فضله في العمل بالسنن، والأخذ بالآثار.

2 ـ التخريج الحديثي:

لا شك أن التخريج الحديثي من مرتكزات المنهج الاستدلالي في الفقه؛ ذلك أن الوصل بين الفروع وأدلتها ليس مقصوداً لذاته، وأن غايته بيان مراتب هذه الأدلة، حتى يتميز صحيحها من سقيمها، ويُعتمد الراجح من أقوال المذهب، ويُطرح الضعيف أو الشاذ.

وقد عُني الحفاظ بتخريج كتب مذاهبهم قصد تجديد الفقه من داخله، وسلخه عن تراكمات فروعية ليس لها في الشرع ورود ولا صدر؛ لانبنائها على الضعيف والموضوع، أو عملها بمجرّد الرأي، ومحض النظر. ومن الكتب المعروفة في هذا المضمار:

أـ نصب الراية لأحاديث الهداية (?) للحافظ الزيلعي (ت 762 هـ) ، وهو تخريج لكتاب (الهداية) في الفقه الحنفي للمرغيناني.

ب ـ (التلخيص الحبير في تخريج أحاديث شرح الوجيز الكبير) (?) للحافظ ابن حجر (852 هـ) ، وهو تخريج لشرح الرافعي على الوجيز في فقه الشافعية للغزالي.

ج ـ التحقيق في أحاديث التعليق (?) لابن الجوزي (ت 597 هـ) ، وهو تخريج لأحاديث كتاب أبي يعلى الفراء (ت 458 هـ) في الخلاف العالي. ولا أعرف كتاباً مطبوعاً متداولاً في تخريج أحاديث المذهب الحنبلي ـ على وجه الخصوص ـ إلا (إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل) (?) للشيخ ناصر الدين الألباني، وهو تخريج لكتاب (منار السبيل في شرح الدليل) لإبراهيم بن ضويان الحنبلي (ت 1353هـ) .

د ـ لا أعرف لمتقدمي المالكية، أو متأخريهم كتاباً مخطوطاً، أو مطبوعاً في تخريج أحاديث فقه المذهب، ولعل المعاصرين استشعروا هذا النقص في فقه المالكية، فتداركوه بتخريج بعض الكتب، وفي طليعتها: (المدونة لسحنون) خرّج أحاديثها الدكتور الطاهر محمد الدرديري (?) .

وما زالت الحاجة ماسّة كذلك إلى تعقّب أدلة المذاهب بالنقد والتمحيص والتخريج، وفي ذلك خدمة جليلة للسنة أولاً، بالتمييز بين صحيحها وسقيمها، وللمذاهب الفقهية ثانياً، ببيان متعلّق فروعها، ومأخذ أقوالها.

بيد أن التصدّر لتخريج أحاديث فقه المذاهب يحتاج إلى ضابطين: علمي، وخلقي. أما الأول: فمرجعه إلى الكفاية العلمية التي تتحقق بحفظ المخرِّج، وعلمه بالاصطلاح وعلل الحديث، وأحوال الرواة، مع جَلَد على البحث، وصبر على الاستقراء. وأما الثاني: فيرجع إلى ديانة المخرِّج وتقواه؛ ذلك أن من المحدثين طائفة زُيّن لها الضلال على الهدى؛ فتلاعبت بالتصحيح والتضعيف نصرة للمذهب أو البدعة، وهؤلاء لا تُعتمد تخريجاتهم إلا فيما تبيّن فيه إنصافهم، وتجرّدهم عن الهوى، ونعوذ بالله من قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، وعلم لا ينتفع به.

3 ـ بين نقد المتن ونقد السند:

قسّم الشيخ طاهر الجزائري (أهل الحديث) إلى ثلاث طوائف:

أـ طائفة تقصر نظرها على الإسناد؛ فإذا كان خِلْواً مما يقدح في اتصاله وثقة رواته: حُكم بصحته دون النظر إلى متنه، مع أن القاعدة عند أهل الصنعة: صحة الإسناد لا يلزم منها صحة المتن.

ب ـ طائفة قصرت نظرها على المتن؛ فإن وافق ذوقها ومنحاها العقلي حكمت بصحته، وإن كان في الإسناد علة قادحة توجب الرد، مع أن كثيراً من الأحاديث الضعيفة والموضوعة صحيحة من جهة معناها ومبناها، ومع ذلك لا يصحّ رفعها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها ليست من كلامه، وإنما من كلام حكيم، أو واعظ مرغِّب مرهِّب، أو فقيه مدفوع إلى نصرة مذهبه.

ج ـ طائفة وَفَّقت في نقدها الحديثي بين المتن والسند، فوفّت كل جانب حقّه من البحث والنظر، فلا تتعجّل بتوهيم الراوي لشبهة عرضت في المتن، ولا تنزّهه في الوقت ذاته عن الخطأ والنسيان والغفلة، كما أنها وُفّقت في الحكم على الحديث بالوضع وإن كان إسناده قائماً، وذلك في مواضع مخصوصة (?) .

والمطلوب اليوم أن يُوفّى المتن حقّه من قِبَل أهل الصنعة، فيردّ منه كل شاذ ومنكر ومعلول، بل يحكم عليه بالوضع إذا ظهرت أماراته، وإن كان إسناده صحيحاً، وهذا عين الاعتدال والإنصاف الذي أخذت به الطائفة الثالثة؛ بيد أن الراكب لهذا المسلك الوعر يحتاج إلى زاد من المعرفة بالسنن والآثار، ومعايشة غير قصيرة للهدي النبوي في قوله وفعله، وتقريره وتركه. يقول ابن القيم: (إنما يعرف ذلك من تضلّع في معرفة السنن الصحيحة، وخُلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها مَلَكة واختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم - وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه، ويدعو إليه، ويحبه أو يكرهه، ويشرعه للأمة؛ بحيث كأنه مخالط له ـ عليه الصلاة والسلام ـ بين أصحابه الكرام؛ فمثل هذا يعرف من أحواله وهديه، وكلامه وأقواله وأفعاله، وما يجوز أن يخبر به وما لا يجوز بما لا يعرفه غيره، وهذا شأن كل متبوع من تابعه؛ فإن الحريص على أقواله وأفعاله من العلم بها، والتمييز بين ما يصح أو ينسب إليه، وما لا يصح، ليس كمن لا يكون كذلك) (?) .

ومن ثم فإن الإغراق في جزئيات الإسناد، وتفاصيل الرواية، ودقائق أحوال الرجال يلزم منه إغفال التوسّع في بحث المتن، وهذا من شأنه أن يوسّع الهوّة بين الحديث والفقه؛ لأن مبنى الفقه على المتن، والمتن إذا لم يُمحّص بغربال النقد استخلصت منه أحكام قد تضيّق واسعاً، أو توسّع ضيقاً، أو تستدرك على الشرع ما ليس منه.

3 ـ ثمار التواصل:

إن للوصل بين الحديث والفقه ثماراً تجتنى، وعوائد تعمُّ، نعدّ منها، ولا نعدّدها:

أـ فقه مُصفّى: إن الوصل بين الحديث والفقه يقتضي تنقية كتب الفقه مما شابها، من أخبار واهية، وآثار سقيمة، ومن ثم انهيار ما بني عليها من أحكام وتفريعات تنحو منحى المخالفة، أو البدعة، أو تضييق دائرة العفو من غير حجة وبرهان منير.

ب ـ فقه استدلالي: من عوائد هذا الوصل بيان مآخذ الأحكام، وأدلة الفروع، وتصنيفها إلى مقبول يُعمل به، ومردود يُطرح، ولا يُلتفت إليه؛ مما يُمكِّن للفقه الصحيح معنى وشكلاً، وظاهراً ومقصداً، ويظهر تفاوت الفقهاء في الفضل بمعيار الأخذ بالسنن، أو تركها.

ج ـ فقه موحِّد: يلزم من هذا الوصل ظهور الدليل الصحيح، وانبناء الفقه عليه، والتفاف الناس حوله بالعمل به، والاعتماد عليه، ومن هنا يصبح فقه الدليل مثابة أهل العلم، وملاذ الناس، ولا بأس أن ينقدح الخلاف حول فروع تتوارد عليها الأنظار، وتتزاحم الاجتهادات؛ فإن ذلك من حيويّة الفقه، ورحمته في آن واحد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015