فؤاد بن عبده أبو الغيث
أساس الديمقراطية الإيمان بمبدأ نسبية الحقيقة، أو المذهب النسبي، وهو مذهب ظهر لأول مرة في القرن الخامس قبل الميلاد، ويقول بأن الصحيح والمغلوط والجيد والرديء ليس صفات مطلقة، ولكنها تبع للظروف. وينبغي عدم الخلط بين هذا المذهب في الفلسفة ونظرية النسبية الخاصة في الفيزياء التي وضعها (أينشتاين) عام 1905م، وهي توضح ـ بشكل محدد ـ أن الجسم المادي لا يمكن أن يتجاوز سرعة الضوء، وأن رواد الفضاء في سفينتهم التي تقارب سرعتها سرعة الضوء سيكبرون بصورة أبطأ عن أهل الأرض.
والمذهب النسبي يتناسب ونظرية التطور التي ترى أن كل شيء يتغير، وكل شيء يتبدل، وأن الأشياء في حالة سيلان مستمر. .. فهما رضيعا لبان، وكلتا القضيتين لا تصح على إطلاقها؛ فهناك أشياء كثيرة مُجْمَع عليها في كل الظروف، كما أن هناك حقائق مطلقة وقوانين ثابتة تحكم الكون.
فللشيء في ذاته صفات مطلقة؛ فالطيب والخبيث وصف قائم بالأعيان، والظروف ليست معتبرة دائماً.
و «الثوابت» في الشريعة لا تتعارض مع سلطان العقل، بل إن العقل يقرُّ بها، كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الكبير «درء تعارض العقل والنقل» لا كما ادعى (مراد وهبة) بلا برهان أن: ( «الثوابت» و «الغزو الثقافي» و «المركز والهامش» و «نظرية المؤامرة» كل هذه الشعارات معوقة لسلطان العقل، ومن ثم للتنوير إذا عرّفنا التنوير بأنه لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه) .
فلا يكفي في نفي امتلاك الحقيقة المطلقة مجرد الدعوى بأنه (ليس من أحد يعبر عن الحقيقة المطلقة، ليس من أحد البتة يعطي الحقيقة المطلقة) ، كما لا يكفي في تحقيقها مجرد الدعوى؛ فلا بد من البرهان والحجة النافية لما يخالفها كما أن ولي المقتول ـ الذي يعتقد أن جزاء القاتل عمداً أن يُقتَلَ كما قَتَلَ ـ لن يتوقف عن المطالبة بالقصاص لمجرد أن القاتل لا يعتقد أنه يستحق القتل؛ لأن المقتول كان قد أغضبه!!
فمشكلة اختلاف الدين لا تحلها الديمقراطية؛ لأن مبدأها يتناقض مع أصول الأديان التي يُطلَب فيها القطع، ولا يُقبَل فيها الشك أو النسبية، ولذلك تفسر شهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) : بأنه لا معبود بحق إلا الله، ولا متبوع حق إلا رسول الله.. وهذا حق ثابت مطلق؛ وإلا فما فائدة التقييد والحصر؟
ومن يعتقد أنه صاحب الحق والخير والعدل فسيسعى في إيصال ذلك إلى الآخرين، ووقاية نفسه ومن يحب ما يضاد ذلك باعتقاده؛ فلا يسمح للمخالف بالدعوة إلى مذهبه؛ مما ينتج عنه التدافع ولا بد، ولذلك لا يمكن أن يعيش بسلام من يعتقد أن السِّفاح واتخاذ الأخدان جريمة محرمة مع الشيوعي الإباحي، ومن تمكَّن حَكَم.
لكن امتلاك الحقيقة المطلقة لا يلزم منه قتل المخالفين المسالمين؛ فلا يجوز في دين الإسلام الإكراه على الإقرار بالشهادتين، ولا قتل من لا يقاتل الموحدين.
أما المسائل الفرعية فهي مجال تطبيق مبدأ نسبية الحقيقة، والقول بأنه لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة ـ بالنسبة لها ـ دون غيره؛ على حد قول الإمام أبي حنيفة وغيره: (قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول المخالف خطأ يحتمل الصواب) . ألسنا نجد جنساً من المسائل، وهي المسائل التي تتعلق بوجود الله ومعرفته وإثبات وحدانيته؛ لم يختلف فيه الصحابة إلا في مسألة أو مسألتين من فروع هذا الجنس، يمكن تأويلها إلى الاتفاق، بل لعلها آلت إلى الاتفاق؛ كمسألة رؤية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربَّه في الدنيا؟ ونجد جنساً آخر يقع بينهم فيه خلاف ... ؟
وذلك لأن مسائل الجنس الأول مسائل أساسية وأصول تُبنى عليها مسائل الجنس الثاني، ويُطلَب فيها القطع، وهو لا يحصل بالتقليد، فكانت جليلة جلية بأدلة قطعية، وهي بالإضافة إلى ذلك محصورة. أما مسائل الجنس الثاني فهي مسائل دقيقة وأدلتها ظنية، وأفرادها غير محصورة.
والإيمان بمبدأ نسبية الحقيقة على إطلاقه نوع من التذبذب بين الحق والباطل، وإرادة اتخاذ السبيل بينهما؛ فهو نوع من النفاق، كما أنه ركيزة أساسية في مذهب وحدة الأديان الذي يتناقض مع توحيد الاتّباع للرسول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الإيمان الأوسط) ، وهو يتكلم عن الإيمان بالرسول: (ثم هنا نفاقان: نفاق لأهل العلم والكلام، ونفاق لأهل العمل والعبادة. فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه فأن لا يرى وجوب تصديق الرسول فيما أخبر به، ولا وجوب طاعته فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر علماً وعملاً، وأنه يجوز تصديقه وطاعته؛ لكنه يقول: إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحداً، ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته: إما بطريق الفلسفة والصبوء، أو بطريق التهوُّد والتنصُّر كما هو قول الصابئة الفلاسفة في هذه المسألة وفي غيرها؛ فإنهم وإن صدقوه وأطاعوه، فإنهم لا يعتقدون وجوب ذلك على جميع أهل الأرض؛ بحيث يكون التارك لتصديقه وطاعته معذباً، بل يرون ذلك مثل التمسك بمذهب إمام أو طريقة شيخ أو طاعة ملك، وهذا دين التتار ومن دخل معهم. أما النفاق الذي هو دون هذا فأن يطلب العلم بالله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، كما يُبتلَى بالأول كثير من المتكلمة، وبالثاني كثير من المتصوفة؛ فهم يعتقدون أنه يجب تصديقه أو تجب طاعته، لكنهم في سلوكهم العلمي والعملي غير سالكين هذا المسلك. بل يسلكون مسلكاً آخر؛ إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوجد، وإما من جهة التقليد؛ وما جاء عن الرسول إما أن يعرضوا عنه، وإما أن يردوه إلى ما سلكوه؛ فانظر نفاق هذين الصنفين مع اعترافهم باطناً وظاهراً بأن محمداً -صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق وأفضل الخلق، وأنه رسول، وأنه أعلم الناس؛ لكن إذا لم يوجبوا متابعته، وسوغوا ترك متابعته؛ كفروا) .