ظاهرة سوء سلوك بعض الرموز
د. حمدي شعيب
روى الإمام أحمد في مسنده: عن الحارث ابن يزيد البَكري، قال: «خرجت أشكو العلاء ابن الحضرمي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فمررت بالربذة ـ وهي قرية قريبة من المدينة ـ فإذا عجوزٌ من بني تميم منقطِعٌ بها الطريق ـ أي ليس معها من يحملها إلى ما تريد ـ فقالت: يا عبدَ الله! إن لي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حاجةً؛ فهل أنت مُبَلّغِي إليه؟ قال: فحملتُها، فأتيتُ المدينةَ، فإذا المسجد غاصٌّ بأهله، وإذا رايةٌ سوداءُ تخفقُ، وبلالٌ مُتقَلّدٌ السيفَ بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: ما شأنُ الناسِ؟ قالوا: يريدُ أن يبعثَ عمرو بن العاص وَجْهاً.
قال: فجلستُ، قال: فدخلَ منزلَهُ أو قال رحلَهُ، فاستأذنتُ عليه، فأذنَ لي، فدخلتُ فسلّمْتُ، فقال: (هل كان بينكم وبين بني تميم شيءٌ) .
قال: فقلتُ: نعم! قال: وكانت لنا الدَّبْرَةُ ـ أي الغَلَبة والنصر ـ عليهم، ومررتُ بعجوزٍ من بني تميم منقطعٍ بها فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالبابِ، فأذنَ لها، فدخلتْ.
فقلتُ: يا رسولَ الله! إن رأيتَ أن تجعلَ بيننا وبين بني تميم حاجزاً فاجعل الدهناءَ ـ وهي صحراء معروفة في الجزيرة العربية ـ فحَمِيَتِ العجوز واستوفزتْ ـ أي غضبت وثارت لقومها ـ قالت: يا رسول الله! فإلى أين تضطَرُّ مُضَرَكَ؟ ـ أين تذهب قبيلة مضر إذا أعطيتَ الدهناء لقبيلة ربيعة؟ وهي القبيلة التي أوفدت الحارث.
قال: قلتُ: إنما مثلي ما قال الأول: مِعْزاءُ حملَتْ حتفَها ـ وهي الغنمة التي حملت حملاً ثقيلاً فماتت، وهو مثل يُضرب لمن فعل فعلاً أضر به نفسه ـ حملتُ هذه، ولا أشعرُ أنها لي خَصْماً، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوَافِدِ عادٍ!
قال: (هِيهْ! وما وافدُ عادٍ؟) .
وهو أعلمُ بالحديث منه، ولكن يستَطْعِمُهُ ـ أي أنه -صلى الله عليه وسلم - أراد أن يستمع إلى قصة وافد عاد من الحارث، مع علمه بها ـ.
قلتُ: إن عاداً قحطوا ـ أي أصابهم القحط والكرب ـ فبعثوا وافداً لهم يقال له: قَيْلٌ ـ أي أحد الزعماء يستسقي ويدعو لهم بمكة ـ فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهراً يسقيه الخمرَ، وتُغَنِّيهِ جاريتان، يقال لهما: الجرادتان ـ وهما مغنيتان مشهورتان بمكة ـ فلما مضى الشهرُ خرج إلى جبال تِهَامةَ، فنادى: اللهم إنك تعلمُ أني لم أَجئ إلى مريضٍ فأُداويه، ولا إلى أسيرٍ فأُفاديه، اللهم اسقِ عاداً ما كنتَ تسقيهِ ـ أي أنه دعا بدون أدب، ولم يطلب سُقيا رحمة ـ.
فمرتْ به سحاباتٌ سُودٌ، فنودِيَ منها: اخترْ، فأومأَ إلى سحابةٍ منها سوداءَ ـ أي لم يحسن استغلال الفرصة، ولم يحسن الاختيار ـ فنودِيَ منها: خذها رماداً رِمْدِداً ـ أي أدق ما يكون الرماد ـ لا تُبقي من عادٍ أحداً.
قال: فما بلغني أنه بُعِثَ عليهم من الريح إلا قَدْر ما يجري في خاتمي هذا، حتى هَلَكوا.
قال أبو وائل: وصدقَ، قال: فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافداً لهم، قالوا: لا تكن كوافدِ عادٍ» (?) .
وبتدبرنا لهذه القصة البليغة، وكيف انتهت بهذه النهاية المأساوية لمهمة الحارث بن يزيد البكري؛ مما جعلته يتذكر حادثة الغنمة الحمقاء، وكذلك قصة وافد عاد المشؤوم.
وبقراءة سريعة لها نخلص إلى بعض الدروس القريبة:
1 - أهمية اختيار الوافدين.
2 - على الوافد ألا يخرج عن طبيعة المهمة التي خرج من أجلها، فلا يدخل في تفاصيل رحلته قبل إنجاز المهمة.
3 - نستفيد من موقف المرأة العجوز فاعلية الفرد في التغيير الاجتماعي، وكيف أن قوة الحجة والغيرة على الحقوق العامة، والترفع عن المصالح الشخصية، كيف يؤدي ذلك إلى نتائج يستفيد منها المجموع، ومن ثم الفرد.
4 - في موقف المرأة العجوز أيضاً، وغضبها على مصالح قومها العامة، ومكاسبها التي حصلت عليها، أن الإسلام يحترم دور المرأة ورأيها، ويقدر إيجابيتها في حركة المجتمع.
5 - في طلب الرسول -صلى الله عليه وسلم -، سماع القصة من الحارث مع علمه بها؛ يبين أهمية القصص، وكيف أن النفس الإنسانية يسرها سماعها وتكرارها، بلا ملل؛ إذا كانت بها عبر ودروس تربوية.
6 - كيف أن انطماس بصيرة غير المؤمن، تجعل طريقة تفكيره غير سوية في كل الأمور، أي أن عدم إيمانه، نتج عنه منهجية شاذة في التفكير. وتدبر كيف أن عاداً، لا يدركون أن الله ـ سبحانه ـ أقرب لعباده، فليس هناك داع لأن يرسلوا وافداً يقطع القفار في مهمة قد تقضى في أرضهم، وكيف أنهم قد أرسلوا زعيماً لا يحسن الأدب في مهمته فيركن إلى مراتع السوء، وينسى مهمته الأصلية، ثم لا يتأدب في دعائه مع الله عز وجل، ثم في سوء اختياره للسحابة السوداء الشؤم.
7 - كيف أن خطأ الفرد يؤدي إلى ضرر المجموع، وتدبر ما فعله الحارث، وما فعله وافد عاد.
- مكامن الخلل:
ولكن عندما نتدبر القصة من منظور آخر، حول قضية حيوية؛ وإشكالية مؤسسية وظاهرة دعوية لها من الأسباب والمظاهر، ثم من الآثار السلبية الخطيرة إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار؛ لذا فإن من الأهمية بمكان أن تراعى وتدرس؛ ألا وهي (ظاهرة سوء سلوك الرموز) .
لآن هذه الظاهرة قد تنشأ بسبب الخلل في الاختيار، ثم في المتابعة والحسم في المعالجة. فلو تتبعنا مكامن الخلل في نشوء هذه الظاهرة، لوجدناها كثيرة؛ فمنها، على سبيل المثال لا الحصر:
الأول: عدم التدقيق في اختيار الرموز، وعدم وجود آلية في مراعاة نوعية الوافدين:
أي عدم اهتمام القائمين على أي مؤسسة، بحسن اختيار الشخصيات، أو الرموز المقبولة اجتماعياً لدى الآخر.
ونحن نعلم أن لكل ظرف أو مناسبة رجالها.
وكذلك فإن الآخر يختلف حسب تباين المستوى والمكانة؛ سواء كان ذلك اجتماعياً، أو تعليمياً، أو ثقافياً، أو مادياً أيضاً.
والرمز أو الشخص الذي يكون مقبولاً لدى رجل الشارع العادي، قد لا يكون كذلك للفئة النخبوية.
لهذا فإنه من الأهمية بمكان حسن الاختيار، وأن تكون الرموز الاجتماعية التي تخاطب الآخر، تتميز بسمات لا تجعلها كوافد عاد.
وتدبر كيف اختارت قريش عمرو بن العاص ليكون وافدهم إلى النجاشي ليرد المهاجرين من الحبشة؛ فما كان من هذه الجالية المسلمة المهاجرة إلا أن اختارت جعفر بن أبي طالب ليحاور ويرد على محاورات عمرو، حتى نجح في كسب القضية لصالح المهاجرين.
وتدبر أيضاً نوعية الرسل الذين كان يرسلهم الحبيب -صلى الله عليه وسلم -، إلى القبائل والملوك.
الثاني: عدم مراعاة العنصر الأخلاقي في سلوك الوافدين:
فالسلوك دوماً أبلغ من القول.
وهناك قاعدة مهمة؛ وهي أن سلوك الفرد يدل على الفكرة التي يحملها.
لهذا فمن الضروري أن يكون سلوك الوافد ترجماناً صادقاً للفكرة الربانية التي يحملها.
ويجب أن يُعرَف بسمات تجعله معروفاً للمحيطين ـ على اختلاف نوعياتهم وأحوالهم ـ بحسن أخلاقه، كما عُرِفَ بها يوسف ـ عليه السلام ـ فنطق السجينان ناشدين رأيه في رؤياهما: {إنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36] .
وتأمل هذا الجانب السلوكي في حياة هؤلاء الفتية المؤمنين؛ أصحاب الكهف، عندما نتدبر الشرط الذي اشترطوه على رسولهم الذي أرسلوه ليحضر لهم الطعام: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} [الكهف: 19] .
أي فليتخير أحل وأطيب الطعام أو أجوده، فليأتكم بشيء منه.
فتأمل هذا الورع واجتناب المحرمات، والبعد عن الشبهات، وعدم الركون إلى أن الضرورات تبيح المحظورات، ولا أن الطعام كان مجهول المصدر. وتدبر كذلك هذا الشرط الصعب لمن يبحث عن طعام في مجتمع مسلم؛ فما بالك بمجتمع غير مؤمن. وتأمل أيضاً مغزى كلمة: {بِوَرِقِكُمْ} أي من دراهمهم المضروبة ونقودهم الفضية، أي من مالهم الخاص، وما توحي به في النفس من أن الداعية لا يأكل إلا من ماله الخاص المعروف مصدره، ومن كده الخاص؛ فاليد العليا دوماً خير من اليد السفلى.
وهذا يعطي ملمحاً طيباً للداعية أن يترفع عن الدنايا، ويتورع عن الشبهات. فبعضهم قد يتخيل أن فقه الواقع، وعدم وجود المجتمع المسلم، قد يشفع له باستحلال مال الغير. وقد يجهل بعضهم هذه التربية السلوكية المهمة، فتنسحب المرونة الدعوية، التي يتقن فنها، إلى مرونة غريبة وخطيرة في التعامل والحذر من الشبهات، ويتجاهل (فقه المحقرات) وآثارها التراكمية المهلكة: «إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ضرب لهن مثلاً، كمثل القوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالبعرة، حتى جمعوا سواداً وأججوا النار، وأنضجوا ما قذفوا فيها» (?) .
وتكون النتيجة سقوطاً في حبائل (سلسلة الذنوب) وحلقاتها المتتابعة التي تبدأ بذنب، يتبعه ذنب، ثم يتبعه آخر، حتى يؤدي إلى تغطية القلب بالران الذي ينتج حجاباً مهلكاً، والعياذ بالله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 14 - 15] .
الثالث: عدم الاهتمام بتنمية الشعور بالمسؤولية الفردية؛ خاصة عند الرموز:
وهذا من شأنه أن يؤدي إلى عدم تنمية الفاعلية الفردية.
فالحركة الجماعية نحو الأهداف الربانية لا تلغي التبعة الفردية؛ وذلك من باب: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] .
وتدبر هذا الألم الذي شعر به الحارث، وهو يراجع نفسه، من باب الشعور بالمسؤولية الفردية، في القصة التي أوردناها؛ عندما راجع نفسه نادماً ومعاتباً، قال: «أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد» .
وتأمل مغزى تلك النصيحة التربوية: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إنَّهُمْ إن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا} [الكهف: 19 - 20] .
لقد اتفق هؤلاء الصحب المؤمنون على إرسال أحدهم ليحضر لهم الطعام، ورسموا له خطة التحرك، وأفهموه أنه لو كُشف أمره، فسيلحقهم جميعاً عاقبة ذلك الخطأ.
وتدبر خطأ الحارث بن يزيد رضي الله عنه، وأخطاء وافد عاد، وآثار ذلك على قومهما.
أي أن الخطأ الفردي سيلحق الضرر بالمجموع.
وهو باب عظيم في التربية، يعمق مفهوم المسؤولية الفردية. فالفرد في المجتمع المسلم منوط به التغيير الحضاري لأمته، بشرط أن يكون متوافقاً مع المجموع: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .
وعلى هذا يجب التركيز على فاعلية الفرد، ودوره الإيجابي ومسؤوليته في تحقيق الأهداف والغايات العظام، وفي حماية نفسه، وحماية المجموع، وأنه دوماً على ثُغرة فيجب أن لا يؤتى الإسلام من قِبَله.
الرابع: ضعف الدور الرقابي:
تدبر قصة الذين خُلِّفوا، وكيف كان من أسباب تخلف كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن غزوة العسرة؛ أن تسرب إلى نفسه شعور بضعف الرقابة، وأنه ليس هناك كتاب حافظ جامع يحصر أسماء الذين خرجوا، والذين لم يخرجوا، وتدبر قوله ـ رضي الله عنه ـ: «والمسلمون مع رسول الله كثيرٌ، ولا يجمعهم كتابٌ حافظٌ ـ يريد بذلك الديوان ـ قال كعب: فقلَّ رجلٌ يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى به ما لم ينزل فيه وحي من الله» (?) .
الخامس: عدم وجود آلية متفق عليها للمحاسبة:
ليس هناك قدسية لفرد تمنع محاسبته ونقده إذا أخطأ، مهما علت رتبته.
وتدبر سلوك الرسول -صلى الله عليه وسلم -، باعتباره قائداً ومربياً، عندما وصل إلى تبوك؛ إذ لم يمنعه وجود جيش عظيم قوامه ثلاثون ألفاً من أن يتفقد الغائب، ويسأل عمن تخلف، فقال: «ما فعل كعب بن مالك؟!» (3) .
«فبَيْنَا هو على ذلك رأى رجلاً مُبْيِضاً يزول به السراب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: كن أبا خيثمة! فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدق بصاع من التمر، حين لمزه المنافقون» (4) .
وهذه الطريقة النبوية الشريفة التربوية في المحاسبة والمراجعة، لم تأت من فراغ، بل من خلال منهجية ربانية أرشد إليها الحبيب -صلى الله عليه وسلم -، عندما حكى لأصحابه هذه القصة العظيمة: «نزل نبيٌّ من الأنبياء تحتَ شجرةٍ، فلدغتهُ نملةٌ، فأمرِ بجَهَازهِ فأخرجَ من تحتِها، ثم أمرَ ببيتها فأُحْرِقَ بالنارِ، فأوحى الله إليهِ: فَهَلاَّ نملةً واحدةً» (?) .
وفي رواية أخرى: «أن نملةً قرصتْ نبياً من الأنبياء، فأمرَ بقريةٍ النمل فأُحْرِقَتْ، فأوحى الله إليه: أفي أنْ قرصَتْكَ نملةٌ أهلكتَ أمةً من الأمم تسبِّحُ؟» (?) .
وهي أن أحد الأنبياء، وقد نزل تحت شجرة ليستريح في ظلها من إجهاد السفر، وكان منزله قريباً من إحدى قرى النمل، وكان طبيعياً أن ينزعج النمل، لذا فقد قامت نملة من القرية النملية، فقرصته، وهي في حالة دفاع عن النفس، وعن الأرض.
ولأن النبي بشر فلقد غضب، وأمر بإخراج متاعه من تحت الشجرة، ثم قام دون إنذار بحرق القرية النملية، وكانت المحاسبة القاسية والمعاتبة الإلهية لهذا النبي الكريم.
ويقص -صلى الله عليه وسلم - هذه القصة ليعلِّم الصحابة رضوان الله عليهم، ويعلِّمنا من بعدهم، أن الأنبياء ما هم إلا بشر، وألا نأخذ الكل بجريرة الفرد، ثم ـ وهو بيت القصيد ـ أنه ليس هناك أحد فوق المراجعة، والملاومة والنقد.
السادس: الخلل في التعامل مع الأفراد، وعدم التسوية:
عندما يحدث الخلل في التعامل مع بعض الأفراد على حساب بعضهم الآخر، خاصة مع الرموز، ويقع ما حذر منه الحبيب -صلى الله عليه وسلم -، أن من أسباب هلاك السابقين هو محاباة الشريف على حساب الضعيف؛ فإن الآثار على الجانبين تكون من الخطورة بمكان.
فالشريف يتمادى في خطئه، ويستشعر قوة الحصانة الدعوية التي يحملها.
والآخر يستشعر ضعفه، فيصاب بحالة من التمرد المقنع، أو العقوق الدعوي، والذي نندهش لحدوثه ونتعامى عن أسبابه.
وتدبر وصاياه -صلى الله عليه وسلم -، وذلك فيما رواه النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ حيث قال: أعطاني أبي عطية ولم ترض أمي حتى يشهد عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فانطلق أبي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وقال له: إني نحلت ابني هذا غلاماً ـ أي أعطيته عبداً ـ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ألك ولد سواه؟» قال: نعم! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «أكلهم وهبت له مثل هذا؟» قال: لا. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «فلا تشهدني إذن؛ فإني لا أشهد على جَوْر. يا بشير! أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟» . قال: نعم! قال: «فاذهب فأرجعه؛ إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما أن لك من الحق عليهم أن يبروك» . ثم قال: «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم» (?) .
فتدبر دور القيادة الواعية: والممثَّلة في شخصه -صلى الله عليه وسلم -:
أ - أن يجد الأب وقتاً عند الحبيب -صلى الله عليه وسلم - ليستشيره في أمور حياتية عادية؛ توضح أن يكون بيت القائد مفتوحاً لأي فرد، وأن يكون صدره رحباً ليسع الجميع بأحوالهم، ومشاكلهم، ولا يهمل أي خطأ، ولو كان بسيطاً؛ فالمسؤوليات الكبيرة لا تمنع من الاهتمام بأمور الأفراد الحياتية الخاصة.
ب - في استفساره -صلى الله عليه وسلم -: «ألك ولد سواه؟» ثم في سؤاله: «أكلهم وهبت له مثل هذا؟» تتبين حكمة القيادة في تقصي أسباب الخلل، وإحاطة الأمور من كل جوانبها قبل الحكم في أي قضية.
ج - في رفضه -صلى الله عليه وسلم -، أن يقبل مثل هذا الظلم أو الشهادة عليه، تبرز صفتا العدل والتقوى، كميزان يحفظ الحقوق.
د - في توضيحه -صلى الله عليه وسلم - لعاقبة هذا الإجحاف في التسوية، يتبين بُعد نظر القائد، وعمق رؤيته المستقبلية.
هـ - في أمره -صلى الله عليه وسلم -: «فاذهب فأرجعه» . يتبين حزم القائد في المعالجة السريعة لأي خلل.
ز - في توضيحه -صلى الله عليه وسلم - لشرط عدل الأب في التسوية بين الأبناء مقابل برهم له، يتبين مدى التوازن في الحكم بين أداء الواجب قبل المطالبة بالحقوق.
ز - في تلخيصه -صلى الله عليه وسلم - وتقعيده للقضية في كلمات جامعة: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» . أهمية دور القيادة في وضع أسس ومبادئ أو معايير ثابتة من شأنها أن تحافظ على معالجة أي خلل مستقبلي أو ظواهر مشابهة.
ولو تدبرنا نصيحته -صلى الله عليه وسلم - الجامعة، في موضع آخر: «أعينوا أولادكم على البر بالإحسان إليهم وعدم التضييق عليهم والتسوية بينهم في العطية، من شاء استخرج العقوق من ولده» (?) لتبين لنا مدى اهتمامه -صلى الله عليه وسلم - بتلك القضية، والتركيز على أهمية استمرارية المربي في معالجة الظواهر الْمَرَضِيَّة، من كل جوانبها، والمتابعة الدائمة ضد عوامل الخلل والانحراف.
فإن المربي هو حجر الزاوية، وعليه الدور الفعال والإيجابي في عملية استخراج العقوق الدعوي من نفوس أتباعه (فمن شاء استخرج العقوق من أتباعه) .
ارتباط هذه الظاهرة بالسنن الإلهية:
ونحن نربط هذه الظاهرة بالسنن الإلهية الاجتماعية، أي القواعد والقوانين الربانية التي تنظم حركة الأحياء جميعاً.
فتدبر المعاتبة القاسية التي راجع بها الحارث نفسه، وقوله: (مِعْزاءُ حملَتْ حتفَها) .
فهذه السنن الإلهية، قواعد جادة لا تحابي أحداً: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 123] .
وما لم تتم المراجعة، والمحاسبة؛ فإن ذلك من باب مصادمة نواميس الله وسننه الإلهية الغلابة.
- أين المخرج؟
المخرج هو بتجنب أسباب ومكامن الخلل المذكورة آنفاً؛ ثم التوبة النصوح، والله ـ عز وجل ـ يحب التوابين؛ وهذا في حقه سبحانه.
أما في حق الخلق، فيكون بالمراجعة، والتصحيح، بشرط بيان الخطأ ومحاسبة المخطئ، مهما علت رتبته.
هكذا علمنا ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابة الكريم أن المراجعات والوقفات هي من صميم المنهج القرآني العظيم.
وكما كانت المراجعة في الأمور والأحداث العامة، سواء في حالة النصر عقيب غزوة بدر؛ كما جاء في آيات (سورة الأنفال) ، أو في حالة الهزيمة أثناء وعقيب غزوة أحد؛ كما جاء في آيات (سورة آل عمران) ؛ فقد كانت أيضاً على المستوى الفردي. وتأمل المراجعة القرآنية لخير من وطئ الحصى -صلى الله عليه وسلم -، في مطلع (سورة عبس) .