د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
كثيراً ما يقع الخلاف بسبب ألفاظ مشتركة، ومصطلحات مجملة تطلق على معان متعددة، ومن ذلك «التصوف» فهو لفظ مجمل، وحمّال وجوه؛ فقد يطلق على معان صحيحة: كالزهد، والورع، وصفاء السريرة، وقد يراد به أوراد بدعية وعبادات محدثة، كما يراد به الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، مما هو من مقالات أهل الزندقة والإلحاد.
ولما كان أهل السنة والجماعة يعلمون الحق ويرحمون الخلق، فقد بيّنوا ما في هذا التصوف من إجمال يحتاج إلى تفصيل، وتحدّثوا بعلم وعدل عن مفهومه وإطلاقاته.
يقول ابن تيمية: «لفظ التصوف قد أُدخل فيه أمور يحبها الله ورسوله، فتلك يؤمر بها، وإن سميت تصوفاً؛ لأن الكتاب والسنة إذا دلّ على استحبابها لم يخرج عن ذلك بأن تسمى باسم آخر» ، وقد أُدخل فيها أمور يكرهها الله ورسوله، كما يُدخِل فيه بعضهم نوعاً من الحلول والاتحاد، وآخرون نوعاً من الرهبانية المبتدعة في الإسلام.
والمؤمن الكيّس يوافق كل قوم فيما وافقوا فيه الكتاب والسنة، وأطاعوا فيه الله ورسوله ولا يوافقهم فيما خالفوا فيه الكتاب والسنة أو عصوا فيه الله ورسوله» (?) .
وقال الشاطبي: «وأما الكلام في دقائق التصوف، فليس ببدعة بإطلاق، ولا هو مما صحّ بالدليل بإطلاق، بل الأمر ينقسم.
ولفظ التصوف لا بد من شرحه أولاً، حتى يقع الحكم على أمر مفهوم؛ لأنه أمر مجمل عند هؤلاء المتأخرين» .
ثم ساق الشاطبي ـ رحمه الله ـ المعاني الصحيحة والفاسدة في التصوف (?) .
وإذا أردنا أن نحدد نوعية التصوف الحاضر الآن فلا بد أن نتعرّف على واقع طرق التصوف وأحوالها وأدبيّاتها، وأن نستبين مقالات أرباب التصوف المعاصرين؛ وبذلك نحدد نوعية التصوف السائد في كثير من الأمصار.
فلا يقتصر على إجابة مجملة وعائمة، لا تعالج واقعاً حاضراً، ولا تشفي عليلاً، بل ربما كانت تنصلاً عن تشخيص الواقع والحكم عليه.
وهذا ما ارتكبه بعض فضلاء هذا العصر؛ حيث قرروا «الصوفية الحقة» التي كان عليها الجنيد والفضيل ـ رحمهما الله تعالى ـ ونحوهما؛ فأوقعوا بذلك التقرير لبساً وشكاً في انحراف الصوفية المعاصرة، وتهويناً لحالهم، واسترواحاً لبعض ممارساتهم في التزكية وأحوال القلوب.
مع أن زنادقة الصوفية القدامى مناقضون لمسلك الفضيل والجنيد، فضلاً عن متأخريهم ومعاصريهم؛ فابن عربي الطائي قد أنكر على الجنيد تقريره التوحيد؛ فكان الجنيد ـ رحمه الله ـ داعيةً إلى توحيد العبادة، وأما ابن عربي فناعق بوحدة الوجود» (?) .
فصوفية الجنيد والفضيل في ذاكرة التاريخ وبطون الكتب، فليس لها حضور أو ظهور عند الصوفية المعاصرة.
وأما التعويل على كلام شيخ الإسلام وما فيه من تقرير للتصوف الصحيح، فهذا ينطبق على العبّاد الأوائل من أمثال المذكورين ـ الجنيد والفضيل ـ ونحوهما.
وأما صوفية عصره، فقد حكى حالهم من خلال واقعهم وصنيعهم، فلم يكتف بمجرد التنظير، أو التقسيم لتصوف صحيح وفاسد، بل كشف شيخ الإسلام ابن تيمية عن مخالفة أولئك الصوفية لأصول ثلاثة كبار: (التوحيد، والاتباع، والجهاد) فقد تلبّسوا بالشرك الخفي والجلي، وأحدثوا بدعاً متعددة، «وأما الجهاد في سبيل الله، فالغالب عليهم أنهم أبعد عنه من غيرهم» (?) .
ويقول ـ رحمه الله ـ: «وهؤلاء يدّعون محبة الله في الابتداء، ويعظمون أمر محبته، ويستحبون السماع بالغناء والدفوف، ويرونه قربة؛ لأن ذلك بزعمهم يحرّك محبة الله في قلوبهم، وإذا حُقق أمرهم وجدتَ محبتهم تشبه محبة المشركين لا محبة الموحدين؛ فإن محبة الموحدين بمتابعة الرسول والمجاهدة في سبيل الله.
وهؤلاء لا يحققون متابعة الرسول، ولا الجهاد في سبيل الله، بل كثير منهم ـ وأكثرهم ـ يكرهون متابعة الرسول، وهم من أبعد الناس عن الجهاد في سبيل الله، بل يعاونون أعداءه، ويدّعون محبته» (?) .
إن ترك الجهاد في سبيل الله هو النتاج الطبيعي لمذهب يقول بالجبر وتعطيل الشرائع، كما أن إلغاء الجهاد عندهم هو محصلة ما يقررونه في السلوك من تربية المريدين على الاستعباد وعدم الاعتراض على الأشياخ.
يقول الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ: «إن الدّجالين من رجال الطرق الصوفية كانوا يربون أتباعهم على التواضع بشتى الطرق المهينة، فإذا رأوا أنفة في مسلك أحدهم، أو دلائل عزة وترفع، جعلوا عليه مهمة حمل أحذية الجماعة، والمحافظة عليها، حتى تنكسر نفسه، وينخفض رأسه؛ وبذلك يكون مرشحاً لعبادة الله كما يجب.
ولم يَدْر المغفلون أنهم يرشحونه أيضاً ليكون عبداً للناس جميعاً، وأن مثل هذا الكائن الممسوخ هو أمل المستعمرين الذين يقيمون وجودهم على إذلال الأمم، وقتل الشعور بالكرامة في نفوس بنيها» (?) .
وأما كون بعض الحركات الجهادية لا تخلو من تصوف كالحركة السنوسية، فهذه الحركات إنما تُحمد بقدر اتباعها لنصوص الوحيين، وجهاد تلك الحركات باعثه تحقيق التوحيد واتباع سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم -، فما كان التصوف باعثاً للجهاد.
فالسنوسية ـ مثلاً ـ تؤكد على تصحيح العقيدة وفق منهج أهل السنة، وكان أتباعها يتدارسون مقدمة بن أبي زيد القيرواني، بل إن السنوسي انتقد ممارسات الصوفية في عصره.. كما هو مبسوط في موضعه» (?) .
إن الطرق الصوفية المعاصرة ـ إجمالاً ـ تترنح بين ابتداع ما لم يشرعه الله، وبين شرك ما أنزل الله به من سلطان، وهم في ذلك ما بين مستقلّ ومستكثر؛ ومن ذلك أن واحداً من المتصوفة المعاصرين والجاثمين على أكثر من قناة فضائية، يظهر للعامة والدهماء بصورة الواعظ المشفق، وربما بكى أو تباكى، وقد يدعو مخالفين إلى نقاش هادئ من خلال الكتاب والسنة.
وإذا خلا مع خاصته، تحدّث بلغة «الحقيقة» و «الباطن» فقلب ظهر وظاهر المجن، واستبدل بالنقاش الهادئ إقذاعاً في سبّ مخالفيه (أهل السنة) ووصفهم بالبلادة والجهل وانطماس البصيرة، وتجلى كشفه عن فجور في الخصومة مع جهل كثيف بأحاديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم -، فقد يحتج بأحاديث لا تثبت، وقد يردّ الأحاديث الصحيحة، مع تعويل على غرائب حكايات منكرة لا خطام لها ولا زمام.
ثم مع هذا كله فهو داعية إلى الوثنية؛ فقد جوّز دعاء الأموات، وزعم أن من استغاث بعبد القادر الجيلاني فإن عبد القادر يأتي إليه بروحه، أو بروحه وجسده. ثم تراه ساخراً ومتهكماً بتوحيد العبادة واصفاً إياه بالتوحيد الإبليسي؛ فعلى دعاة الإسلام أن يحذِّروا من أفراخ عمرو بن لحي، وأن يكشفوا عن تلوّنهم وتقلّب آرائهم بين المجلات والقنوات، وبين الزاويا والخلوات، فهذا هو العدل الذي يستحقونه، فالعدل هو أن توضع الأمور في مواضعها، والنقاط على حروفها.
ولعل قارئاً يقول: إن كان التصوف المعاصر ينقض أصلَيِ الإسلام: عبادة الله ـ تعالى ـ وحده لا شريك له، واتباع سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم -، فما سر انتشاره؟ فلا شك أن غلبة الجهل بدين الله ـ تعالى ـ من أبرز أسباب ذاك الانتشار؛ ولذا فإن أعظم أسباب وأد التصوف بذل الجهود، وتقديم البرامج في تقرير إفراد الله ـ تعالى ـ بالعبادة، وإظهار سنة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم -.
كما أن النفوس المتفلتة من الشرع المنزّل، والمسترسلة مع أهوائها وملذاتها، تجد في التصوف بغيتها، وتلوذ بأقوام يتدينون بالغناء والرقص وصحبة المردان ويجعلون ذلك قربة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولقد حدّثني بعض المشايخ أن بعض ملوك فارس لقي شيخاً (أي المتصوفة) وقد جمع الناس على اجتماع (وأحضر فيه من الصور الجميلة والأصوات المطربة ما أحضر) ، فقال له: يا شيخ! إن كان هذا هو طريق الجنة؛ فأين طريق النار؟» (?) .
وقال ابن القيم: «وحكى لي شخص آخر أن مغنياً عزم على التوبة، فقيل له: عليك بصحبة الفقراء (أي الصوفية) فإنهم يعملون على حصول الأجر، والزهد في الدنيا، فصحبهم، فصاروا يستعملونه في السماع، ولا تكاد التوبة تنتهي إليه، لتزاحمهم عليه فترك صحبتهم، وقال: أنا كنت عمري تائباً ولا أدري» (?) .
وانظر ما يسمى بـ (طبقات الأولياء) للشعراني، وما سوّده من كرامات السيد وحيش الذي كان يقارف الفواحش والقاذورات.. ومع الحمير!! وما قام به ولي آخر من خطبة الجمعة وهو عريان؛ أفليس هؤلاء أولياء الشيطان؟
وانظر ما كتبه الجبرتي عما يحصل في مولد العفيفي (ت 1172هـ) من أنواع الخنا والفجور (?) .
ويصف الشيخ عبد الرحمن الوكيل ـ رحمه الله ـ موالد الصوفية قائلاً: «وسل الأمين تلك الموالد عن عربدة الشيطان في باحاتها، وعن الإثم المهتوك في حاناتها، وعن حمم الشهوات التي تتفجر تحت سود ليلاتها؛ فما ينقضي في مصر أسبوع إلا وتحشد الصوفية أساطير شركها، وعبّاد أوثانها عند مقبرة يسبِّحون بحمد جيفتها، ويقترفون خطايا المجوسية في حمأتها، ويحتسون آثام الخمر و «الحشيش» والأجساد التي طرحها الليل على الإثم فجوراً ومعصية» (?) .
إن التصوف الآن أفيون لمتعاطيه؛ فالتصوف غارق في مصطلحات الغناء والسكر والاصطلاح ونحو ذلك مما يحصل به غيبة العقل وزواله، وأرباب التصوف سادرون في الصعق والوجد و «العشق الإلهي» !
ومن أسباب انتشار التصوف ما يتحلى به المتصوفة من خيانة وعمالة للمستعمر، ومسارعة في الخنوع والانبطاح للأنظمة والحكومات.
ومن ذلك أن (ليون روش) الفرنسي قام برحلة إلى مصر سنة 1842م متنكراً في زي حاج مسلم، من أجل الحصول على موافقة من العلماء على نص فتوى جاء بها من الجزائر تجعل الجهاد ضد الفرنسيين من باب إلقاء النفس إلى التهلكة، ومن ثم ضرورة الرضا بحكم الفرنسيين في الجزائر، وعدم شرعية المقاومة التي يقودها الأمير عبد القادر الجزائري، وقد شارك (روش) في هذه الرحلة وصياغة مجموعة من شيوخ الصوفية (?) .
لذا لا غرابة أن يختار الغربُ التصوف سلاحاً في سبيل مواجهة المدّ السني السلفي.
وإن تفريط أهل السنة وتقصيرهم من أسباب انتشار التصوف، فقد فرّط بعض أهل السنة في تقرير وتحقيق أعمال القلوب، وما يتعلق بمسائل السلوك، وتزكية النفوس، والرقائق مع جلالة هذه الموضوعات، ومسيس الحاجة إلى الاشتغال.
وكذا تفريط بعض إخواننا في دعوة المتصوفة، ومناظرتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن، والردّ على انحرافاتهم بعلم وعدل.
فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يهدي ضال المسلمين، وأن يثبت مطيعهم وبالله التوفيق.