دراسة في جذور وتكوين الوعي الأمريكي المعاصر
عرض: حمدي عبد العزيز
أدى فوز الرئيس الأمريكي المحافظ جورج بوش بولاية رئاسية جديدة إلى طرح التساؤل التالي: إلى أين تذهب السياسة الأمريكية في ظل سيطرة اتجاه اليمين المحافظ على الإدارة الأمريكية، وهو الاتجاه الديني الأكثر تشدداً على الساحة الأمريكية وصاحب النشاط الملحوظ في إقامة إمبراطورية أمريكية تهيمن على العالم؟ وهل تفسر طموحات الهيمنة على العالم مبررات الحروب التي تشنها الولايات المتحدة الآن؛ وبخاصة إذا تلاقى ذلك مع أهداف أخرى مثل إجهاض التطلعات الأوروبية بتشكيل قوة عسكرية أوروبية موحدة وتصفية الجيوب السوفييتية السابقة، والسيطرة على
وإذا كانت العلاقات الاستراتيجية بين (الدولة العبرية) والولايات المتحدة في ظل سيطرة ذلك الاتجاه تحتم إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة العربية لصالح (الصهاينة) واستئصال جذور المقاومة العربية؛ فماذا تبقى في جعبة الولايات المتحدة للعالم الإسلامي؟ وما الذي يخطط له اتجاه اليمين المحافظ للعالم الإسلامي؟ وهل حقاً سيكون هذا الطغيان الأمريكي من أهم علامات انهيار القوة الأمريكية؟
الإجابات عن هذه الأسئلة وغيرها هو موضوع الكتاب الذي صدر مؤخراً عن مركز دراسات قناة النيل الثقافية، وقام بإعداده أربعة عشر أستاذاً في العلوم السياسية، ومجموعة من الباحثين السياسيين بمراكز الدراسات السياسية والثقافية العربية. ويهدف الكتاب إلى تحقيق مزيد من الفهم للعقل الجمعي الامريكي الذي يفرز ما نراه من متغيرات تؤثر في مسيرة العالم العربي عامة والإسلامي منه على وجه الخصوص، من خلال رصد كافة العوامل المؤثرة في تكوين الشخصية الأمريكية، وعدم الاعتماد على عامل واحد أو مدخل واحد للتفسير ـ مثل معظم الأدبيات الإسلامية ـ على اعتبار أن هذا يؤدي إلى القراءة غير الصحيحة لمستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي.
- التاريخ وبنية العقل الأمريكي:
ويرصد الكتاب تأثير المجريات التاريخية على واقع العقل الأمريكي من خلال المقارنة بين الفتوحات الإسلامية واكتشاف الولايات المتحدة، والتأكيد على أن القول بالتماثل بينهما يشوبه القصور الفكري؛ لأن الفتوحات الإسلامية قصدت بشراً يسكنون أرضاً، ولم تقصد أرضاً لكي يسكنها المسلمون، كما كان الحال في اكتشاف أمريكا. وأن الفاتح الإسلامي يقصد معلوماً يعرفه ويستعد له مادياً، لكن بالنسبة لاكتشاف أمريكا، فالقاصدون كانوا يتجهون إلى أرض مجهولة، ولم يكن لديهم أي معلومات عن مقصدهم وهو ما غرس في الشخصية الأمريكية التجهم والعنف المبالغ فيه لمواجهة المصير المجهول.
وتميزت الشخصية الأمريكية منذ اكتشاف أمريكا بالاتجاه الدائم نحو التوسع؛ حيث أطلق علىها اسم (الفرونتير) أي الرائد المكتشف. فالرواد المكتشفون تحركوا من الساحل الشرقي لاجتياح غرب البلاد حتى انتهوا من فتح القارة، ثم تحرك أحفادهم نحو الخارج (ووفقًا لرأي الناقد الأميركي ذائع الصيت إدموند ويلسون: لم يكن التوسع الأميركي فيما وراء البحار محض مصادفة، كنا نعتقد أننا نحرر أوروبا ونناضل ضد استعمار اليابان الإقطاعية، ولكننا ظهرنا فجأة بعد الحرب (العالمية الثانية) محتلين أو مسيطرين على الأقطار الأجنبية في كل من أمريكا وأوروبا وآسيا والشرق الأوسط دون ترحيب أحيانًا كما كان الفرنسيون في الجزائر أو البريطانيون في قبرص أو الروس في أوروبا الوسطى) .
ولعل هذا ما يفسر خوض الولايات المتحدة 140 حرباً وتدخلاً عسكرياً خلال 180 عاماً، وهو رقم قياسي في تاريخ الأمم، وارتفاع نصيب الولايات المتحدة إلى 36% من إجمالي الإنفاق العسكري في العالم والذي قدر بحوالي 400 مليار دولار في عام 2003، وهذا الفكر العدواني المتأصل ـ بحسب الكتاب ـ جعل من أهم صفات المرشحين لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أن يكونوا قد شاركوا في حروب وانتصروا فيها.
- فلسفة المجتمع الأمريكي:
ويناقش الكتاب فلسفة المجتمع الامريكي التي ترتكز على البرجماتية (النفعية) ، وهي نظرة للحياة سائدة ومتبناة في الولايات المتحدة بأسلوب أكثر انتشارًا منه في أي مكان آخر في العالم الغربي، وكان لها السيطرة الحازمة على غالبية الشعب الأمريكي لمدة طويلة قبل أن يحاول أحد وصفها بأسلوب الفكر المجرد، وكان ذلك عام 1907م عندما وضع الفيلسوف الأميركي (ويليام جيمس) كتابه «البراجماتية» بعنوان فرعي: اسم جديد لبعض الأساليب القديمة في التفكير. ويؤكد الكتاب أن الأمريكيين لا يثقون بالنظريات، ويعلقون الأهمية على الأفكار فقط عندما تحل مشكلات محددة. وبناء علىه فالسياسي الناجح ـ عند الأمريكيين ـ هو من يقدم أفكاراً عملية أو يطبق أفكار سياسية نافعة.
كما يقدس الأمريكيون النزعة الفردية؛ نظراً لأن المجتمع الجديد نشأ متحررًا من تقاليد الأرستقراطية الأوروبية التي سادت في العصور الوسطى، ووجهت موجات الهجرة الأولى اهتمامها الأساسي إلى العمل، وأصبح أساس وجودها كجسم متحد هو الضرورات التي تربط بين إنسان وآخر، والرغبة في الاستقرار وإقامة الحقوق المدنية في إطار مجتمع ينشأ من تجمع الأفراد بوصفهم عناصره الأساسية.
وانعكس ذلك على المستوى السياسي في الطبيعة الفريدة للأحزاب السياسية الأميركية؛ فالحزب في الولايات المتحدة أقرب إلى المظلة الواسعة التي تضم عشرات من القوى والجماعات؛ فهو ائتلاف واسع لا تتفق كل أطرافه بالضرورة على موقف موحد إزاء القضايا العامة، ولا يوجد في الولايات المتحدة التزام بالبرنامج العام للحزب، بل إنه لا يوجد ما يلزم أي عضو من أعضائه بالالتزام بمواقفه.
كما انعكس على الأمريكي نفسه الذي أصبح لا يهتم إلا بما يمثل له مصلحة، وهو يصادق ويشارك ويعادي من له مصلحة معهم دونما اعتبار لاتفاقه أو اختلافه معهم في المُثُل والقيم الأخلاقية؛ فأمريكا على استعداد دائم لحماية نظم ديكتاتورية، كما حدث في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط؛ لأن لها مصلحة معها، كما أنها على استعداد لخوض حروب تجارية مع دول تتفق معها في القيم السياسية مثل اليابان من أجل الحفاظ على مصلحتها بالرغم من ادعائها تشجيع حرية التجارة.
- بنية النظام السياسي الأمريكي:
إن النموذج الذي يرتضيه معظم علماء السياسة كأحسن وصف لأعمال النظام الأمريكي هو النموذج التعددي، والتعددي هنا لا يعني مجتمعًا خاليًّا من التنوع، بل يشير بالأكثر إلى نظرية المجموعات السياسية، وبناءً على النموذج التعددي تحكم مجموعات قوية التنظيم المجتمع الأمريكي (أي تسيطر علىه) وتقوم الحكومة أساسًا بعمل الوسيط أو الحكم الرياضي بين هذه المجموعات، وكثيرًا ما تشارك أيضًا بنفسها كمجموعة ذات مصلحة، وكل مجموعة منها تعمل لمصلحتها الخاصة، وتقوم الحكومة بالتنسيق وتسهيل الحلول الودية؛ بحيث تنال أقوى المجموعات ما ترغب فيه في حين تكون مستهدفة لأقل عداء ممكن.
ويوضح الكتاب أن صنع القرار السياسي الأمريكي مرهون بتغلب ذوي النفوذ الاقتصادي والسياسي (اللوبي الصهيوني المكون من المجمعين العسكري والاقتصادي، واليمين المحافظ، واللوبي اليهودي) وهو ما يفسر على سبيل المثال خروج بعض القرارات السياسية الأمريكية المتعلقة بالشرق الأوسط لصالح (الدولة الصهيونية) أكثر من أمريكا نفسها. ومن الأمثلة على تغلغل اللوبي الصهيوني وانفراده في بعض الأحيان بصناعة القرار السياسي الأمريكي ما حدث للرئيس بوش الأب عندما هدد بتأجيل موافقة الكونجرس على المساعدة الأمريكية لإسرائيل عدة أسابيع بهدف الضغط على إسحاق شامير، فكان جزاؤه الحرمان من الفوز بفترة رئاسية ثانية رغم الإنجازات التي حققها للولايات المتحدة.
وأشار الكتاب إلى أن اللوبي اليهودي لا يقتصر على اليهود الأمريكيين، وإنما استطاع تجنيد بعض المنتمين لليمين االمحافظ ـ بشقيه الديني والسياسي ـ للقيام بدور مهم في نشاط اللوبي وخدمة أهدافه، وأن هذا اللوبي يعتمد على ثلاثة ركائز أساسية في عمله هي: تمويل الحملات الانتخابية، وزرع أصدقاء (الصهاينة) في مواقع صنع القرار، واستخدام السطوة الإعلامية. والمفارقة هنا أن هذا اللوبي في تمويله للحملات الانتخابية لا يعتمد كثيراً على اليهود؛ لأن عددهم لا يزيد عن 2 % من الناخبين الأمريكيين.
- مبادئ السياسة الأمريكية:
وفي محاولة للقراءة المتعمقة في الأفكار المهيمنة على النخبة السياسية الأمريكية يعرض الكتاب لأهم المبادئ الأساسية التي تحكم السياسة الخارجية الأمريكية منذ إعلان الاستقلال، ويحددها في ثمانية مبادئ:
أولها: الحرية ـ المسماة بالاستثنائية ـ حيث اعتقد المهاجرون أن بلدهم قدر له أن يكون مختلفاً وأفضل من البلاد الأخرى في التمتع بالحرية.
وثانيها: الانعزالية ويسميها بعضهم الأحادية، وهي صفة مدح وقدح في الوقت نفسه، وقد ساعد الولايات المتحدة على اتباع هذه السياسة أنها نجحت في فترة قصيرة في تكوين قوة كافية لرد الأطماع الأوروبية.
والثالث: مبدأ مونرو الداعي إلى أن تعزل الولايات المتحدة نفسها عن صراعات القارة الأوروبية ومشاكلها المزمنة، وأن تمنع القوي الأوروبية من القدوم إلىها.
والرابع: التوسع؛ حيث يعتبر مواطنو الولايات المتحدة أن وضع الحواجز والقيود على التوسع بمثابة هجوم على حريتهم لا يمكن التسامح فيه.
المبدأ الخامس: الإمبريالية؛ باعتبار أن الولايات المتحدة بعد عام 1898 أصبحت قوة استعمارية، وقد ساعد على تهيئة الولايات المتحدة كدولة إمبريالية عالمية اعتقاد البروتستانت أن الرب هيأ الولايات المتحدة أن تكون قوة عالمية.
المبدأ السادس: هو مبدأ ولسون وهو مبدأ المشاركة العالمية؛ بمعنى أن الأمريكيين مشاركون ـ سواء أرادوا أو لم يريدوا ـ في حياة العالم، ومصالح الأمم كلها هي مصالح الأمريكيين أيضاً؛ فهم شركاء مع الباقين.
والمبدأ السابع: يتمثل في مبدأ الاحتواء، والذي دعمه وجود عدو خلال النصف الأخير من القرن العشرين وهو الاتحاد السوفييتي، ثم تم استبدال هذا العدو بالعالم الإسلامي.
والمبدأ الثامن والأخير: مبدأ تحسين العالم؛ وهذا المبدأ يعني المحاولة الدائبة لتحويل الثقافات الأجنبية وإخضاعها للنموذج الأنجلو ساكسوني، وكانت هذه الفكرة غطاء لمعظم الحروب الأمريكية.
- الدين الصانع الخفي للعقل الأمريكي:
يذكر الكتاب أن جميع ديانات العالم تكاد تكون موجودة داخل المجتمع الأمريكي، وأن هناك 300 ألف كنيسة بمعدل كنيسة واحدة لكل900 أمريكي، ويبلغ عدد البروتستانت 180 مليوناً، والكاثوليك 60 مليوناً، والمسلمين 7 ملايين، واليهود 6 ملايين.
وبالرغم من الحرية الدينية التي يشهدها هذا المجتمع؛ فإن التفسير الخاطئ للمسيحية يلعب دوراً متزايداً في إفراز متطرفين أكثر تطرفاً بمراحل متعددة من أصحاب التفسير الخاطئ للإسلام؛ لدرجة أن المتطرفين المسلمين معتدلون بالقياس بالمتطرفين المسيحيين الأمريكيين؛ لأن اليمين الأمريكي ضد الأجانب وضد المرأة وضد مشروعات الرعاية الاجتماعية للفقراء، لكنه يستغل ميل العقل الأمريكي إلى التبسيط فيتلاعب به مصوراً له الحرية أنها حرية امتلاك السلاح وحرية استخدامه، وحرية السوق حريةً مطلقة ولو أدى ذلك إلى تدمير البيئة والصحة العامة. كما أن مفهوم الحرية لديهم يعني أيضاً حرية أمريكا في أن تحكم العالم، وأن هذا التفسير أوجد عفناً في بؤرة الأخلاق الأمريكية، وهو العفن الذي يمكن أن يحدث انهياراً شاملاً للمجتمع الأمريكي.
وسعياً لكشف الجذور التاريخية لعلاقة اللوبي اليهودي باليمين المسيحي الأمريكي أشار الكتاب إلى أن المهاجرين الأمريكيين الجدد كانوا متأثرين باليهودية تأثراً «مركباً» لاهوتياً وتاريخياً وسياسياً وكتابياً؛ فبالبيورتيان (الطهرانيون) وهم المؤسسون الأوائل أو الآباء الأوائل للأمة الأميركية ـ الذين كوَّنوا موجات الاستيطان الأولى في العالم الجديد ـ اعتبروا القارة الجديدة «أرض كنعان» وأنهم العبرانيون الجدد، ورغم أن حركتهم تعد آخر محاولات الإصلاح الديني فإنها ما تزال حتى الآن أكثر الحركات الإصلاحية تعنتًا وتطرفًا، ومن ثَمَّ تعتبر من أكثر حركات الإصلاح بعدًا عن جوهر المسيحية وروحها المتسامحة.
وهذه الجذور أفرزت صيغة تعايش بين البروتستانتية واليهودية بقيت إلى الآن وبالذات في الاتجاهات الأصولية، وهو ما يطلق عليه «عبرنة المسيحية الأمريكية» ، والتي تبدو واضحة في الثقافة السائدة إلى الدرجة التي دفعت الرئيس الامريكي (جيفرسون) إلى تقديم اقتراح إلى الكونجرس مفاده أن يمثل رمز أمريكا على شكل أبناء (الصهاينة) تقودهم في النهاية غيمة وفي الليل عمود! وهذا ما يفسر نجاح المنظمات المسيحية الصهيونية في ترويج الاعتقاد بأن دعم أمريكا لإسرائيل ليس فقط التزاماً سياسياً وإنما هو رسالة إلهية بسببها يبارك الرب أمريكا.
- المجتمع الأمريكي يري العالم بعيون الإعلام:
ويرى مؤلفو الكتاب أن وسائل الإعلام تقود غالبية الشعب الأمريكي ومنها يستقي ثقافتة، وأن اليهود نجحوا في قيادة هذا الشعب من خلال سيطرتهم علىها، ونجحوا بفضل ذلك في تغيير صورتهم الذهنية لدى الأمريكيين؛ حيث كانوا مثل غيرهم من المهاجرين عرضة لمجموعة من الصور النمطية ارتبطت بسمات غير طيبة لليهودي مثل: المرابي، الجشع، العدواني، غير الأمين، الأناني، والغدار. لكن الصورة اختلفت الآن فأصبح اليهودي يتمتع بسمات طيبة مثل القدرة على العمل، وجمع المال، والتصميم، والطموح.
وعزز الإعلام الأمريكي هذه الصورة الإيجابية من خلال التغطية الإعلامية للصراع العربي ـ الصهيوني؛ حيث يتم تصوير اليهودي في موقف المدافع عن حرية بلاده وسلامة مواطنيه، وأن (إسرائيل) محبة للسلام. بينما كونت هذه الوسائل صورة نمطية سلبية للمسلمين في الذهنية الأمريكية؛ فمثلاً: رسوم الكاريكاتير للرسام الشهير (أوليفانت) تصور العرب ملتحين، ذوي أجسام بدينة وأنوف معقوفة، يجلسون على الأرض وأمامهم الشواء والنساء. ويذكر (قاموس ميديام وبستر) الأمريكي المعاني التالية المرادفة للفظ العربي: قاطع رقاب ـ غشاش ـ مساوم ـ متسكع ـ متشرد. ويعرف مرجع أُكسفورد للأطفال العربي بأنه: تاجر نصاب، أو عامل رث الثياب، أو فلاح يركب حماره ويترك زوجته تسير خلفه في ثيابها السوداء حاملة شيئاً فوق رأسها.
- العرب والمسلمون في المجتمع الامريكي:
ويذكر الكتاب أن دخول الإسلام أمريكا بدأ مع (كولومبوس) نفسه حيث استخدم خارطة كان قد رسمها (الإدريسي) ـ العالم الجغرافي المسلم، ولم يستطع (كولومبوس) استخدام تلك الخارطة إلا من خلال بحارة عرب مسلمين كانوا معه، وساعدوه في دخول تلك البلاد، وأن ما يقرب من 30% من الأفارقة الأمريكيين الذين جيء بهم إلى أمريكا كانوا من المسلمين؛ إلا أن كثيراً من هؤلاء أجبروا على اعتناق المسيحية وترك الإسلام.
ويضيف أن الجاليات الإسلامية والعربية في الولايات المتحدة الآن تشكل قوة اقتصادية وعلمية كبيرة؛ حيث يفوق دخل 30% منهم 75 ألف دولار سنوياً، و 48 % منهم حاصلون على شهادات جامعية ومعظمهم من خبراء الاقتصاد وأساتذة الجامعات والأطباء ورجال الأعمال، كما يعمل 4% منهم بالجيش الأمريكي، و 1% من الضباط مسلمون.
وبالرغم من هذا فلا يزال هناك عدة صعوبات تواجه المسلمين والعرب الأمريكيين، أهمها قوة اللوبي اليهودي الذي قفز من دائرة المشاركة في صنع القرار إلى دائرة صنع وتنفيذ القرار الامريكي نفسه، كذلك ضعف المؤسسات الإسلامية وقلة خبرة المسلمين والعرب الأمريكيين بإدارة شؤون الانتخابات.
ويؤكد على أنه من الخطأ اعتبار أن أحداث 11 سبتمبر كانت السبب الرئيس للسياسة الأمريكية العدائية تجاه العالم الإسلامي؛ لأنها كانت في الحقيقة كاشفة لها؛ فاليمين المحافظ الأمريكي اعتبر أن الإسلام هو العدو منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، ومع هذا فإنه إذا كان مقدراً للإسلام النجاح في المستقبل المرئي في الغرب فسيتحقق هذا النجاح في الولايات المتحدة الأمريكية، ويعود ذلك ـ بحسب الكتاب ـ إلى تميز وضع المسلمين في هذا المجتمع، وتطور أوضاعهم بشكل تراكمي كبير؛ حيث زاد عدد المؤسسات الإسلامية من 250 مركز إسلامي ومسجد عام 1985 ومدرسة إسلامية واحدة إلى ما يزيد على 2300 مؤسسة إسلامية تشتمل على مساجد ومدارس ومطابع عام 1992، ووصل هذا الرقم خلال الشهور الأخيرة من 2003 إلى 5167 مؤسسة إسلامية ومنها المركز والمسجد والمؤسسة السياسية والاقتصادية ومؤسسات حقوق الإنسان والجامعة وغيرها.
بالإضافة إلى أن اسم الإسلام الذي أصبح يجري على كل لسان في أمريكا ودرجة حب الاستطلاع أدت إلى رواج الكتب الإسلامية حتى خلت المكتبات منها، وهو ما أوجد فرصة نادرة لوصول الإسلام إلى عقول الأمريكيين وقلوبهم وتمكين الوجود الإسلامي كمكوِّن أصيل في قلب التعددية الأمريكية.
- أمريكا من القوة المطلقة إلى الانهيار:
ويتناول الكتاب قضية انهيار الولايات المتحدة الوشيك بالتأكيد؛ على أن سيطرة «جماعة القرن الأمريكي الجديد» على الإدارة الأمريكية، واعتماد هذه الجماعة على أقصى نظريات القوة تطرفاً فيما يطلق علىه (الحرب العالمية الجديدة على الإرهاب) يعد الفصل الأول من الانهيار؛ لما يشمله ذلك من تجسيد للمقولة الفلسفية المعروفة: (إن الاعتماد على القوة فقط يفسد، والقوة المطلقة تفسد بلا حدود) وهذا ما حدث مع الإدارة الأمريكية الآن؛ فالتطرف في الاعتماد على القوة المسلحة بشكل أساسي بوصفها أداة من أدوات الدبلوماسية دفع هذه الإدارة في رد فعلها على أحداث 11 سبتمبر إلى تبني مفاهيم (الضربات الاستباقية) والتحرك المنفرد خارج إطار الشرعية الدولية إذا تطلَّب الأمر.
وقد أثرت النزعة العسكرية على الاقتصاد الأمريكي سلباً وتشويهاً؛ لأنها حرمته من عشرات البلايين من الدولارات التي كان يمكن إنفاقها في الاستثمار، وبدلاً من ذلك أنفقت على القواعد العسكرية وإنتاج الأسلحة وتصديرها. وعلى الصعيد الاجتماعي فإن هذه السياسة الرافضة لزيادة الإنفاق على برامج الرعاية الاجتماعية أدت إلى تزايد معدلات الفقر والعنف، فيشير الكتاب إلى أن نسبة 1 إلى 4 من الأمريكيين صدرت منهم أعمال عنف، وأن معدلات الانتحار بين الشباب الأمريكي أكثر من معدلات الانتحار في أوروبا الغربية بنحو 20 ضعفاً وأكثر منها في اليابان بأربعين ضعفاً، وأن معدلات الاغتصاب في الولايات المتحدة تزيد عن مثيلاتها في اليابان وإنجلترا وأسبانيا بعشرين ضعفاً.
وهذا الوضع الداخلي هو ما طرح التساؤل: هل سيحدث في الولايات المتحدة ذلك التفكك الذي يسبق الانهيار كما حدث في الاتحاد السوفييتي السابق أو كما حدث في يوغسلافيا؟
وكانت الإجابة بأن ما يطلق علىه (صراع الحضارات) سيكون المؤثر الفعلى في توقيت انهيار الولايات المتحدة باعتباره الأساس الذي ستبنى علىه خطوات التفكيك؛ لأنه إذا كان عامل القوة الأمريكية الآن قي أغلبه مستمداً من وحدة وتماسك عناصر المجتمع الامريكي وانصهاره في نسيج واحد؛ فإن مفهوم الانصهار الذي ساد المجتمع الأمريكي لفترات تغير الآن، واصبح هذا المجتمع أشبه بـ (طبق السَّلَطة) (?) حيث يصير بوسع كل إنسان أن ينظر إلىه، ويرى عناصره التي يمكن فصلها؛ ومؤشرات ذلك واضحة مثل: القنبلة القومية، والكلام عن إعلان جمهورية تكساس وجمهوريتي كاليفورنيا ونيوميكسيكو، كذلك ما حدث في ولاية نيويورك عندما أوشكت على الإفلاس في مطلع التسعينيات وتدخلت الحكومة الفيدرالية لمساعدة هذه الولاية على حساب الولايات الأخرى وهو ما أثار حفيظة تلك الولايات.
- خلاصة:
إذا كان من المعتاد أن تتدخل القوة الأمريكية الكبرى في العالم العربي والإسلامي من أجل الحفاظ على مصلحتها القومية؛ فإن هذا التدخل الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر شهد تحولاً واضحاً في ظل سيطرة اتجاه اليمين المحافظ الأمريكي؛ حيث سعى هذا الاتجاه إلى فرض الرأسمالية والديمقراطية على دول المنطقة على اعتبار أن (الحسم العقائدي) مع ما يسمى (الإسلام السياسي) وإعادة تشكيل المنطقة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً يمثل أهم ضمانة للأمن القومي الأمريكي.
وقد حاول الكتاب رصد جذور الوعي الأمريكي ومستوي فهمه للدين والفلسفة والاجتماع والتاريخ باعتبارها صانعة الوعي الأمريكي الحاضر، ووسائل الإعلام الأمريكية باعتبارها أدوات لدراسة المنتج الفكري الذي يُقدَّم للجماهير الأمريكية من أجل الوصول إلى فهم صحيح لموقف العقل الأمريكي من العالم الإسلامي والخلفيات الثقافية والفكرية لأساليب التعامل مع المسلمين.
وبالرغم من سيطرة اتجاه اليمين المحافظ؛ فإن الكتاب يؤكد أن الولايات المتحدة ليست هي الاتجاه اليميني المحافظ فقط، وإنما تموج باتجاهات سياسية وفكرية مختلفة تتدافع ثقافياً مع هذا الاتجاه. وهناك ضرورة لدراسة هذه الاتجاهات السياسية والفكرية وبناء جسور للتواصل معها من جانب القوى السياسة والشعبية العربية، وأن تقوم الجالية العربية والإسلامية باستغلال الفرص التي يتيحها النظام السياسي الأمريكي من أجل الحفاظ على مصالحها ومصالح أمتها العربية والإسلامية.
غير أن تأثير العرب والمسلمين الأمريكيين داخل المجتمع الأمريكي يتوقف على مدى سلامة الكيان الفكري والثقافي لهم، وعلى المناعة الأخلاقية لهذه الأقليات؛ فكلما كانت الجماعات العربية والإسلامية متماسكة أخلاقياً وواعية برسالتها الحضارية وقادرة على العمل السياسي بوصفها جماعة واحدة، كان ذلك أقرب إلى التأثير الإيجابي المتحضر في البيئة والمحيط.