اتسم بالواقعية حين البحث عنها!
عبير العقاد
ما أنْ أطلّت حواء على الكون بطلعتها الأنثوية الجديدة، حتى تغير نظام الكون، وهدأتْ نفسُ أبينا آدم الذي كان يفتش عن مجهولٍ يحتاجه لتسكنَ إليه روحه ويروي به ظمأه. في ذلك اليوم، وباقتران أبوينا آدم وحواء تحت مظلة الزواج، انبثقت أول مؤسسة أسريّة في العالم أسره، ووضعت أول لبنةٍ من لبنات بناء المجتمع، تلك اللبنة التي أرسى الله ـ عز وجل ـ إطار سعادتها الداخلي بقوله ـ تعالى ـ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] .
إذاً؛ فقد حدد الله ـ عز وجل ـ الإطار المثالي الداخلي الذي يضمن سعادة المؤسسة الزوجية، ويحقق أُلفتها، ويتلاءم مع احتياجاتها، ويحميها من عواصف الدهر ونوائب الحياة بإطار مثلثي أضلاعه: السكينة، والمودة، والرحمة.
فبالسكينة تسكن الأرواح وتهدأ، وتتحقق الطمأنينة المطلقة المنشودة من قِبَل البشر كافة؛ فما بالك بالزوجين اللذين ما أن تتوطد أواصر الطمأنينة بينهما حتى تتفجر في حياتهما ينابيع الثقة المرسِّخة لسعادة بيتهما واستقراره.
أما المودة فهي المحبة، مغناطيس الأرواح والقلوب، والخيط الذي تحاك بواسطته الرابطة المتينة بين الزوجين التي يستحيل مع مرور الزمن حلّها إلا ما شاء الله. وبرسوخ هذه الرابطة، تستقر الأذهان وتتفرغ الأنفس لإنجاز ما خُلقت من أجله.
وبالرحمة يكتمل إطار سعادة العلاقة الزوجية المثالية، فهي الرقة والتعطف والمغفرة بين زوجين تعاهدا على العيش مع بعضهما بإخلاصٍ ما شاء الله. ولا بدّ أن تطفو بعض الزلات والهفوات على سطح العلاقة الزوجية خلال حياة طويلة الأمد تجمع بَشَرَيْن خطّاءيْن بطبيعتهما. إلا أن الرحمة التي تربط بينهما تفرض على كليهما التجاوز عن الهفوات، والرفق في التعامل، والتماس الأعذار دون تصيّد الأخطاء والانتقام من أجلها.
وبالرحمة يكتمل الضلع الأخير في إطار الحياة الزوجية الحميمية الذي يتوجب على كل أسرة التحصّن داخله والحفاظ على رسوخ وتدعيم كل أركانه لضمان علاقة حميمة، وديمومة سعيدة بين الأفراد.
هذا هو الإطار المثالي الذي ينشده كل اثنين يقترن بعضهما ببعض لتحقيق حياة زوجية سعيدة، ملؤها الدفء والحنان والحب والاستقرار.
لكنّ الأمر ليس بهذه السهولة التي نراه عليها؛ فتحقيق حياة مثالية كهذه تتطلّب منّا الكثير الكثير، شأنها بذلك شأن كلّ ماسة ننفق الكثير لاقتنائها، ونبذل الكثير أيضاً للحفاظ عليها.
فليست السكينة والمودة والرحمة نتاجاً طبيعياً لاقتران أي ذكر مع أنثى في هذا العالم؛ إنما هي إرثُ تقارُب ديني واجتماعي ومادي وثقافي وعُمُريّ وأخلاقي وروحي ووجداني بين الزوجين، وهي إرث تفكير عميق من قِبَل طرفَيِ القصة بعضهما ببعض قبل الاقتران. فالزواج السليم شأنه شأن أي أمر مهم في هذه الحياة، ينبغي أن يُبنى على قاعدة سليمة وصلبة كي ينجح؛ وذلك بعد دراسة عميقة وتفكير سليم في شتى جوانب الأمر وأبعاده، وافتراض حلول لمشاكل قد تظهر نتيجة بعض التناقضات التي قد يغضّ أحد الزوجيْن النظر عنها قبل الزواج كالاختلاف المادي أو الثقافي، أو الفارق العُمري بينهما، أو التناقض الاجتماعي. فليست الرابطة الزوجية مجرد علاقة بين الزوجين فحسب، إنما هي ظاهرة اجتماعية تنشأ على أثرها مجموعة علاقات يشترك فيها المجموع العائلي، أي عائلة الزوجين والأقارب والأحساب والأنساب، بالإضافة إلى الأبناء ثمرة الزواج.
وماذا بعدُ؟! ماذا بعدَ الاقتران؟ هل ستمطر السماء على الزوجين سيولاً من المودة والرحمة والطمأنينة والسعادة؛ هبةً من الله دون سابق جهد؟!!
قد تمطر حبّاً في مقتبل الحياة الزوجية؛ حيث الزوجان لاهثان لما يطفئ غريزتهما الطبيعية المخلوقة معهما والتي لا سبيل لزوجين صالحيْن أن يروياها إلا بالزواج الشرعي. فلا يمكن لأحد أن ينكر أهمية الجنس في إضفاء جو من السعادة والتقارب في الحياة الزوجية، خصوصاً عندما ينعم الله على الزوجين بالشعور بالميل الجنسي بعضهما تجاه بعض. أي عندما يشعر كِلا الطرفين أنه مرغوب ومطلوب ومغرٍٍ للإقبال عليه من قِبَل الطرف الآخر. لكن لا سبيل للعلاقة الجنسية بأن تضفي جواً من السعادة الأبدية على حياة الأسرة دون توافر علاقة وجدانية حميمة بين الرجل والمرأة؛ إذ إنّها متعة جسد لا تستغرق إلا جزءاً صغيراً من الوقت؛ وأنّى لسعادة أن تكتمل بلذة الجسد دون لذة الروح؟ فلا بد إذاً من العلاقة الوجدانية أيضاً. والعلاقة الوجدانية كما يعرفها الأستاذ محمد محمود عبد الله؛ مدرس علوم القرآن بالأزهر، هي: «التوافق النفسي والروحي في المشاعر والأماني والطموحات التي تحقق الأُلفة والمحبة بين الزوجين ومشاركة كل منهما الآخر اهتماماته ومساعدته على تخطي أية عقبات يتعرض لها أو تقف مانعاً لسعادته» .
وتبنى هذه العلاقة الوجدانية حجراً حجراْ خلال الزمن، وقد تُكسر أحجار مع الأيام، لكنّ قابلية الترميم تبقى مؤمّنة ما دام هناك زوجان يسعيان للحفاظ على بقاء أسرتهما، وما دام هناك زوجان ينظران إلى الحياة وإلى السعادة الزوجية نظرةً واقعية ويستوعبان الماهية الحقيقية للزواج.
إذ لا مكان لسعادة في قلب زوج أو زوجة حالميْن ينظر أحدهما إلى الآخر كشخص خالٍ من العيوب، ثم لا يلبث أنْ يتفاجأ بأكوامٍ من الهفوات الصادرة عنه؛ فمن منّا بلا عيب أو خطأ؟!!
إنّ الزواج أسمى من ذلك وأرقى، إنه مسؤولية وكدح وتعاون، إنه مؤسسة اجتماعية ذات أشكال متعددة من الإدارة تتطلب إدراكاً سليماً وحساً صادقاً، كما تتطلب معاملة حكيمة وتقديساً للحق والواجب والتزام حدود الله. الزواج احترام وتفاهم متبادل بين الزوجين، وساحة حوار دائم بينهما لفهم رؤى بعضهما نحو بعض، ولحلّ المشاكل بعقلانية حكيمة، ولابتلاع سفاسف الأمورالتي من شأن تراكمها أن يدمّر الحياة الزوجية لا سمح الله.
إنّ الزواج نعمة شرّعه الخالق ـ عز وجل ـ لأهداف معينة، لا لفائدة الزوجين فحسب، بل لفائدة المجتمع بأسره؛ فبه يستمر النوع الإنساني المنوط بالتزاوج، وبهذا النوع المتمثل بالنسل يستمر في الوجود مَنْ يصلح لعمارة الأرض وخلافتها وسكناها. وبالزواج يتهيأ لكل من الرجال والنساء متعة من أعظم متع الدنيا؛ متعة السكن والراحة النفسية، ومتعة الإمتاع واللذة الجسدية. ومن حِكَمِ تشريع الزواج، تسخير التعاون على بناء هذه الحياة وبناء المجتمع السليم الذي لا يتحقق إلا بتعاون الزوجين سوية. هذه هي الحكم الأساسية من الزواج، وعلى كل راغب بالإقدام عليه أن يضع ذلك في ذهنه كيلا تنهار أحلامه وخيالاته الواسعة التي بناها قبل الزواج وظنّ أنّ مفتاحها مخبأ في تلك المؤسسة الأسرية. ففي مؤسسة الزواج قد لا تجد خيالات السعادة الوهمية التي حلمتَ بها، لكنْ إن عرفتَ كيف تضبط الأمور بدقة وإحكام، وإن توكلت على الله وجعلتَه حسبك وأخلصت له النية، فلا بد وأنْ تجد أروع مما حلمتَ به؛ لأنك دخلت مؤسسة مشرّعة من قِبَل خالقٍ لا بشر، وحاشاه - عز وجل - أن يشرِّع عبثاً.
فالزواج حياة فيها إعمالٌ للفكر والعقل، واجتهاد وأخذ وعطاء، كما فيها الحنكة والحكمة والمكر والدّهاء، ويتوجب فيها الصبر والمثابرة والإلحاح، والرضا وحب الذات والآخرين، والحفاظ على الكرامة بعقلانية دون انفعال؛ وأعظم دواء لمشاكلها ذكر الله والإيمان به والتوكل عليه والطلب الدائم منه. أي باختصار: اعقِلْها وتوكَّلْ.
إنه حياة شاملة تستحق الخوض، وهي مصدر تجارب تغني الإنسان وتوسع دائرة فهمه وإدراكه ونضوجه. فالاندماج بشخص ذي تجارب حياتية مختلفة عاش في بيئة وأسرة ثانية، وخضع لعوامل وراثية أخرى، وورث موروثات ثقافية واجتماعية مختلفة عن موروثات الطرف الآخر، كل هذا من شأنه أن يزيد دائرة ثقافة وفكر الطرف الآخر إن استطاع الطرفان استيعاب الاختلافات والخصوصيات المتعلقة بكل منهما وتذليلها كي تكون وسيلة لتطوير مناخهما الثقافي والفكري والاجتماعي، لا لتكون سبباً لمشكلات بينهما.
وفي ظل هذه الحياة التي نتمناها أن تكون سعيدة، علينا أن نصغي لأي نصيحة بنّاءة مهما اعتقدناها صغيرة، من شأنها إعمار الأسرة وصمودها في وجه أي عوامل هدم.
ومن النصائح ذات الفائدة ما قدمه أحد الباحثين؛ إذ عرض مائة نصيحة من شأن الأخذ بها تجنُّبُ الكثير من المشكلات. ومن هذه النصائح نعرض الآتي:
1 - هيئ لبيتك مناخاً عاطفياً إيجابياً.
2 - تذكَّر أن تقديرك لشريك حياتك يعينك على متاعب الحياة.
3 - أصغِ السمع للآخرين تحظَ باحترامهم.
4 - أَوْفِ بالعهود.
5 - لا تنتظر الأخبار السيئة حتى تعرِّفك بقيمة الحياة.
6 - اجعل من المرح ملاذاً لك من الغضب.
7 - أخبر مَنْ حولك بحبك لهم.
8 - تحكَّم بنفسك.
9 - احرص على الصحبة الجيدة.
10 - تقبل الاختلاف مع الآخرين.
11 - لا تحطَّ من قدر نفسك.
12 - كُفَّ عن ترديد الشكوى والخوض فيما يثير الأعصاب.
13 - لا بأس من الانسحاب السلمي.
14 - لا تجعل أمر المال يحزنك.
15 - ضع حدّاً لرغباتك.
16 - ليكن إيقاع حياتك عقلانياً.
17 - تذكًّر بأن الأفعال أبلغ من الأقوال.
18 - واظب على الاجتماعات العائلية.
19 - لا تكرر الأخطاء نفسها.
20 - إياك أن تقلل من شأن شريك حياتك.
21 - ذكِّر نفسك بأنك لن تأخذ شيئاً معك.
22 - تذكر أن الأشياء الصغيرة لا تُنسى.
23 - عامل أفراد أسرتك كما لو كنت تراهم لآخر مرة.
وبعد: فإن كنتَ تبحث عن السعادة في حياتك الأسرية؛ ففتش عنها أولاً في قلبك؛ إذ إنها تنبع من ذاتك وروحك، لا من أُنْس الآخرين لك، ولراحة قلبك تذكَّر دائماً قوله ـ تعالى ـ: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] . ومن ثَمّ ابحث عنها في وجوه وقلوب من حولك؛ فإسعادك الآخرين سعادة لك. ولا تنس حصّة الرضا والقناعة في قلْب حياتك رأساً على عقب من قمة الفقر إلى قمة الغنى «فالقناعة كنز لا يفنى» . وأخيراً وليس