أحمد فهمي
هناك حلقة مفقودة في العمل السياسي العربي تجعل ذلك العمل أشبه بالمسخ لا معنى له ولا طعم أو رائحة، إنها حلقة الجماهير.
وتبدو الأزمة الجماهيرية شديدة الوضوح في دول مثل: مصر، سوريا، تونس، الجزائر، وهي دول علمانية قومية الطابع يعاني فيها الإسلاميون من ضغط وحصار، وأهم ما يلفت النظر في الأداء السياسي لأنظمة هذه الدول أنها تتحرك بلا دعم جماهيري؛ بحيث يصح القول إنها تخوض المعترك السياسي الدولي بلا غطاء شعبي، وتلك نقطة ضعف كبرى.
ومنذ عهد الاستقلال «النسبي» عن الاستعمار الغربي والجماهير المسلمة في هذه الدول تتعرض لعملية تشويه وتسكين لهويتها وأفكارها ومشاعرها، حتى أصبحت جماهير مستأنَسة مسالمة لا نكاد نرى لها خطوطاً حمراء سواء في أمور الدين أو الدنيا، ودائماً ما كانت ردود أفعال الجماهير تأتي دون المتوقع، ونادراً ما تجاوزت إلى مستوى التأثير الشامل، ولا أذكر في الثلاثين عاماً الأخيرة أنه صدر من الجماهير تصرف عامٌّ مفاجئ لأجهزة قياس الرأي العام الرسمية في هذه الدول، ولا يُعد الإقبال على صناديق الانتخابات مقياساً دقيقاً أو كافياً في هذا الصدد؛ فهناك فارق كبير بين التعبير الآمن عن الرأي، وبين اتخاذ موقف جماهيري لحماية هذا الرأي.
والجهة الوحيدة التي حققت نجاحاً في رفع مستوى أداء الجماهير وتفاعلها إيجابياً هي الحركات الإسلامية، لكن المؤسف أن هذه الحركات نفسها تَراجع أداؤها وتخلت عن جماهيرها، فنفض بعضهم أيديهم من هذا العناء وتحولوا إلى نخبويين إيثاراً للسلامة، وحجتهم في ذلك أنهم يتعاملون مع الرموز التي تتعامل مع الجماهير، ولكن ماذا لو أعجب ذلك الوضع الآمن أعداداً متزايدة في كل يوم؟ سيُصبح الحال أشبه بمدرسة يفوق عدد مدرسيها عدد تلامذتها.
وآخرون اعتبروا الاقتراب من الجماهير هو الهدف الأوْلى بالعناية بغضّ النظر عن مطلب التغيير؛ بحيث أصبح الداعية الجماهيري هو الذي يوزع عدداً أكبر من الأشرطة، أو يحضر دروسه أو يتابعها جمهور غفير، بغضّ النظر عن المفاهيم التي يغيرها لدى جماهيره أو يجددها في حياتهم.
وهناك فئة ثالثة تعاملوا مع الجماهير بطريقة نفعية تقلب المعايير؛ فبدلاً من أن تكون الحركة الإسلامية في خدمة الجماهير المسلمة، أصبحت الجماهير في خدمة الحركة، وهذه الوضعية المقلوبة ربما جاءت بنتائج كارثية مع الزمن خاصة وقد بدأت حركات قومية تتسلق من جديد أكتاف الإسلاميين وتطور خطابها ليحتوي مضموناً إسلامياً مدجَّناً يدغدغ مشاعر الجماهير الغافلة.
إن أداء الإسلاميين الجماهيري في الحقبة الأخيرة بات مشوهاً إلى حد كبير، وفقدت الجماهير من يقودها ويوجهها ويدفعها لاتخاذ مواقف إيجابية لنصرة الدين، وقد أدى ذلك إلى تزايد سلبية الشعوب المسلمة، ومع تتابع الضربات أصبحت ردود الأفعال كافية فقط كي نشعر بأن المريض لا يزال على قيد الحياة، وفارق كبير بين صرخة الألم وصيحة النصر. لقد أصبحت الجماهير خارج الخدمة منذ عدة عقود؛ فهل من وسيلة لإعادة الحرارة لهذه الشعوب المظلومة؟