ياسر الزعاترة
حين نتحدث عن الهرولة العربية نحو تل أبيب، أو التطبيع العربي الرسمي مع الدولة العبرية فسنكون إزاء ثلاث مراحل يجدر التوقف عندها: أولاها: المرحلة الممتدة ما بين الاحتلال الثاني عام 1967م وصولاً إلى مؤتمر مدريد عام 1991م، وثانيها: مرحلة ما بعد المؤتمر المذكور، وبشكل أكثر تحديداً مرحلة (أوسلو) وصولاً إلى قمة كامب ديفيد (صيف عام 2000م) . أما الثالثة: فهي المرحلة الحالية، وهي مرحلة يمكن وصفها بمرحلة ما بعد احتلال العراق، أو مرحلة ما بعد انتفاضة الأقصى. وتفصيل ذلك على النحو التالي:
المرحلة الأولى: ما بين عامي 1967 ـ 1991م:
كنا إزاء نوعين من التطبيع؛ يتمثل الأول في قدر من التواصل السياسي الذي يتحرك عبر الاتصالات السرية بين بعض الدول العربية والدولة العبرية، وفي هذا الصدد تبرز تلك العلاقات التي كانت قائمة بين المغرب، وموريتانيا، والأردن وبين الدولة العبرية.
ينطوي هذا البعد على صلات خاصة من لون الوضع المغربي، وأخرى تقوم على اجتهاد سياسي يحافظ على الوجود كما هو حال الاتصالات الأردنية، فيما يبدو التطبيع العربي العام من اللون الثاني القائم على الحفاظ على وتيرة الصراع ضمن حدود معقولة لا تفجّر المنطقة، بحسب رأي أصحاب هذه الرؤية.
برز هذا اللون من التطبيع منذ الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، حزيران 1967م، وذلك إثر توافق النظام العربي الرسمي بعد اعتراف مصر، ومن ثم سوريا بالقرار الدولي رقم 242 المتضمن أن الدولة العبرية قد وجدت لتبقى، وأنه ما من سبيل إلى إزالتها، لكن هذا التوجّه بدا أكثر وضوحاً بعد عام 1974م عندما انضمت منظمة التحرير الفلسطينية إلى السرب العربي، واعترفت بالقرار المذكور، بل بدأت مشاريع اتصالات سرية مع الدولة العبرية من خلال ما عُرف بالاتصالات مع التقدميين الإسرائيليين، أو اليسار الإسرائيلي.
في العموم: كانت جميع الاتصالات مع الدولة العبرية تقوم على هذا الأساس، أي الحفاظ على وتيرة الصراع ضمن دائرة محدودة، مع محاولة اختراق المنظومة الإسرائيلية ذاتها، لا سيما بعد أن توفرت الشرعية لذلك السلوك من خلال الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، كما اعترف به في مؤتمر الرباط عام 1974م، ولم يكن خافياً بالطبع ذلك الترابط بين اعتراف المنظمة بالقرار الدولي وبين الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني.
ضمن هذه الوجهة، جاء التطبيع المصري الإسرائيلي بعد كامب ديفيد عام 1979م، وهو موقف لم يغير في واقع الحال كثيراً، اللهم إلا بفتحه أبواب أكبر عاصمة عربية للعلم الإسرائيلي، لكن السياق العام بقي على حاله؛ أي الحفاظ على الصراع ضمن الدوائر السياسية، وحين يكون ثمة فعل عسكري فإن الأصل هو أن يبقى ضمن حدود معقولة لا تغير في آلياته، بدليل التوافق على عدم فتح الجبهة الأردنية مع الدولة العبرية.
في هذه المرحلة جرت كما أشرنا عشرات اللقاءات والاتصالات التي ظلت ضمن الأفعال المحرمة في الأوساط الشعبية، وحتى بعض الرسمية تبعاً للموقف السياسي لكل دولة على حدة، لكن عجلة التطبيع كانت ماضية، وأقلّه ـ باعتراف الوضع العربي الرسمي ـ أنه ما من شيء يمكن أن يزحزح الدولة العبرية عن الأراضي التي احتلتها عام 1948م.
المرحلة الثانية: مرحلة أوسلو.. الهرولة السريعة:
جاءت مرحلة مدريد ثم أوسلو لتطلق حصان التطبيع العربي الإسرائيلي من عقاله؛ فما هي سوى عشرة شهور، وتحديداً في شهر تموز/ يوليو 1994م، حتى كان الأردن يوقع اتفاقية (وادي عربة) تبعاً للمخاوف التي انتابت الملك حسين على الكيان الأردني، وما أن حدث ذلك حتى انطلق مسلسل سريع من الهرولة العربية صوب تل أبيب؛ من موريتانيا التي كانت الأكثر هرولة على الدوام، إلى المغرب صاحب العلاقات التاريخية مع تل أبيب، إلى تونس، وقطر، والبحرين، ولتكر المسبحة بعد ذلك، ولم يبق في واقع الحال إلا قلة من الدول العربية لم تبدأ شكلاً من أشكال الاتصالات أو العلاقات مع الدولة العبرية، ومن بينها السعودية، والسودان، وليبيا وسوريا، وإن دخلت هذه الأخيرة مسلسلاً تفاوضياً على ملف الجولان.
أدركت الدول العربية المحورية، وعلى رأسها مصر، والسعودية، وسوريا أن موجة الهرولة العربية صوب تل أبيب تؤذن بإنجاح مشروع (شيمون بيريز) الشرق أوسطي القائم على فكرة التمدد السياسي والاقتصادي الإسرائيلي في المنطقة، ومن ثم سرقة دور مصر العربي والإقليمي.
في هذه الأجواء جاء مؤتمر الإسكندرية مطلع عام 1995م ليدشن مرحلة مقاومة رسمية للتطبيع والهرولة تجاه الدولة العبرية، وبدأت موجة من الضغوط على الدول العربية الأخرى كي تكبح جماح التطبيع، وتحشره في أضيق نطاق، وهو ما استجابت إليه معظم الدول في واقع الحال؛ إذ بقيت العلاقات الدبلوماسية في حدها الأدنى في غالب الأحيان.
ما من شك أن التحالف المصري السعودي السوري قد أسهم مساهمة فعّالة في كبح جماح التطبيع في هذه المرحلة، لكن ما ينبغي قوله أيضاً: هو أن الشارع العربي قد قدم مساهمات جيدة على هذا الصعيد جعلت من التطبيع الرسمي من أي مستوى كان مع الدولة العبرية شكلاً من أشكال الرذائل السياسية التي تتردد الأنظمة في مقارفتها.
غير أن الأهم من ذلك كله هو ما يتعلق بسير المفاوضات؛ فقد استخدمت الدول الثلاث حجة مهمة تقول: إن مسيرة التطبيع يجب أن تتزامن مع سير المفاوضات؛ إذ من دون الوصول إلى تسوية حقيقية لا يمكن الحديث عن تطبيع مع الدولة العبرية، وقد جاءت مسيرة المفاوضات الأولية من خلال جملة الاتفاقات التي تلت (أوسلو) لتؤكد أن نوايا الدولة العبرية بالتسوية لا تنسجم مع ما يعرف بقرارات الشرعية الدولية، وهو ما تأكد بعد ذلك في قمة كامب ديفيد، صيف عام 2000م، وهي القمة التي أكدت استحالة التسوية مع مطالب إسرائيلية لا يقبل بها أحد في الساحة الفلسطينية والعربية.
جاءت انتفاضة الأقصى بعد ثلاثة شهور من القمة المشار إليها لتهيل التراب في زمن قياسي على جهود التطبيع التي بذلت طوال سبع سنوات أو تسع إذا بدأنا من مدريد، ولتبدأ مرحلة جديدة في الخطاب الرسمي العربي والإسلامي حيال الدولة العبرية، حتى أن الدولتين المرتبطتين باتفاقيات سلام مع الدولة العبرية، ولهما علاقات دبلوماسية معها قد اضطرتا إلى سحب سفيريهما من تل أبيب تحت وطأة الضغوط الشعبية.
المرحلة الثالثة: مرحلة ما بعد انتفاضة الأقصى:
يمكن التأريخ لهذه المرحلة منذ مقتل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات نهاية عام 2004م، وتوافق حركة فتح على تعيين (محمود عباس) خلفاً له، وبالطبع في ضوء ما هو معروف عن أن هذا الأخير كان له موقفه المناهض لبرنامج المقاومة الذي تبنته حركة حماس، لكن بالإمكان أيضاً التأريخ لها باحتلال العراق، على اعتبار أن ذلك الحدث هو الذي مهّد لمرحلة الرعب بالنسبة للنظام العربي الرسمي الذي شكّل وقوفه خلف (محمود عباس) سبباً أساسياً في إنهاء مرحلة انتفاضة الأقصى، وإعلان التعامل مع التسوية بلغة جديدة، على رغم عدم توفر أي أفق حقيقي لها في المنطقة بوجود شارون والمحافظين الجدد على رأس السلطة في الدولة العبرية والولايات المتحدة.
من الممكن القول: إن الهرولة نحو الدولة العبرية قد بدأت في المرحلة الجديدة، سواء أكان بإعادة السفيرين المصري والأردني إلى تل أبيب، أم بدعوة شارون إلى تونس، أم بجملة اللقاءات المعلنة وغير المعلنة حتى الآن؛ حيث توقع وزير الخارجية الإسرائيلي (سلفان شالوم) أن تتحرك عشر دول عربية صوب شكل من أشكال العلاقة مع الدولة العبرية خلال الشهور القادمة.
ما ينبغي أن يشار إليه هنا: هو أن خريطة الطريق التي وافقت عليها السلطة، والدول العربية عموماً تنص في أحد بنودها في المرحلة الثانية، أي مرحلة الدولة الفلسطينية المؤقتة على أن تستعيد الدول العربية مع إسرائيل ما كان لها من روابط قبل الانتفاضة (المكاتب التجارية ... إلخ) .
ü القوم لماذا يهرولون؟
تحدثنا في السياق السابق عن منطق التطبيع الذي كان سائداً في المراحل الأولى، وهو ما يبدو مختلفاً إلى حد ما مع منطق الهرولة الجديدة ممثلاً في الاعتقاد بأن مفتاح الرضا بالنسبة للولايات المتحدة لا زال موجوداً بيد قادة الدولة العبرية، وهو اعتقاد لا يبدو خاطئاً في واقع الحال، وأقله في هذه المرحلة التي يتحكم المحافظين الجدد خلالها بالقرار السياسي في واشنطن من دون أن يعني ذلك تأييداً لمنطق اللّعبة ولا لرؤيتها السياسية.
صحيح أن مرحلة (كلينتون) كانت عبرية اللغة والهوى أيضاً، لكن المرحلة الجديدة تبدو أكثر تطرفاً في التعاطي مع الهواجس الإسرائيلية، في الوقت ذاته تبدو فيه واشنطن أكثر سطوة على الوضع الدولي، وهو ما يمنح المسوغ للمهرولين كي يكونوا أكثر حماساً في هرولتهم، سواء أكان رغباً أم رهباً.
هناك بالتأكيد تلك اللُّعبة التي تمارس من قِبَل الأمريكان والصهاينة في سياق اللعب على التناقضات العربية العربية، وتحديداً فيما بين الدول الكبيرة والصغيرة؛ وحيث يستخدم هذا الملف في سياق مناكفة بعضها لبعض.
ثمة بُعدٌ على درجة من الأهمية في هذه المرحلة يتمثل في اكتشاف الولايات المتحدة ومحافظيها الجدد لوصفة ناجعة في ترهيب الأنظمة العربية وابتزازها، وتتمثل تلك الوصفة في الضغوط من أجل إصلاح الأوضاع السياسية ودمقرطة الواقع المحلي، وهنا كان على الأنظمة التي تريد الفرار من الإصلاح أن تدفع من جيب القضية الفلسطينية، وتتقرب من الدولة العبرية، وتتراجع في القضية العراقية.
على هذا الإيقاع سنشهد مرحلة تطبيع ساخنة يمكن القول: إنها ستعتمد في مسارها وتوقيتها على إيقاع المفاوضات بين الطرف الفلسطيني والطرف الصهيوني، ومن ثم تطورات الوضع العراقي، فيما يمكن القول: إن الابتزاز الصهيوني سيسهم بدوره في طبيعة التسوية ومسارها أيضاً، والسقف الذي يمكن أن يقبل به الفلسطينيون. ونتذكر على هذا الصعيد أن ياسر عرفات عندما حُشِرَ في الزاوية في قمة (كامب ديفيد) قد طالب بموافقة عربية (مصرية سعودية على وجه التحديد) كي يقبل بما هو معروض بشأن المسجد الأقصى، وهو ما لم يحصل عليه كما هو معروف.
خلاصة القول هي: أن المرحلة الجديدة ستعتمد على تطورات عملية التسوية؛ فإذا بلغت الجدار المسدود، وعاد الفلسطينيون إلى انتفاضتهم المسلحة من جديد كما فعلوا من قبل، فسينتهي كل شيء كما انتهى في المرة الماضية، أما إذا تواصلت اللعبة فستمضي عملية التطبيع قُدُماً إلى الأمام، وسيعتمد ذلك كله على الموقف العربي، ومدى تقدمه وتراجعه أمام سطوة الولايات المتحدة. ويبقى أن سطوة هذه الأخيرة، ومن ثم ردود الفعل العربية ستعتمد بدروها على تطورات الوضع العراقي، ومن ثم علاقاتها مع الشركاء الدوليين.
وما يمكن أن يقال أخيراً هو: أن التقدم والتراجع العربي أمام الولايات المتحدة هو الذي يحكم لعبة التطبيع، بل إنه هو الذي يحكم العلاقة مع الدولة العبرية من الأساس، وإذا كان ثمة جوانب أخرى بالنسبة لبعض، فهي هامشية، كما هو حال موريتانيا التي يتحرك نظامها مقابل بعض الرشاوى الاقتصادية، إضافة إلى المساعدات الأمنية لنظام (ولد الطايع) .
ما من شك أن لبعض الرموز في الدول العربية دوراً في مسيرة التطبيع مع الدول العربية، لكن هؤلاء لا يبرزون إلا عندما تكون الأجواء مواتية، أي أنهم يتقدمون عند الحاجة، ومن الصعب القول إنهم يجرُّون الأنظمة جراً إلى التطبيع، وإن كان لبعضهم دور في تزيين المنكر. وحسبنا الله ونعم الوكيل.