التحرير
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إن من أبرز المقومات الأساسية للعلماء الراسخين والدعاة المصلحين: قطعَ جُلّ أوقاتهم في التعبد لله ـ تعالى ـ والتقرب إليه والاشتغال بذكره، ودعائه وإظهار الافتقار إليه سبحانه، لا يصدهم عن ذلك علم أو دعوة، فضلاً عن زوج أو مال أو ولد أو غفلة.
واستعراض سِيَر المرسلين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وحياة المجددين والأفذاذ الربانيين الذين صنعوا مجد أمة التوحيد عبر عمر البشرية الطويل، رافعين لواء الإصلاح، قائدين عمليةَ البناء والتغيير.. خير برهان وأعظم شاهد؛ فهذا ربنا ومولانا القدير ـ بعد أن ساق لنا شيئاً من نبأ المرسلين ـ يقول ـ جل شأنه ـ: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] .
وفي موضع آخر يقول ـ عز وجل ـ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73] ، ويقول ـ سبحانه ـ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] .
وهذا سيد المصلحين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي كان أتقى الناس وأعلمهم بالله ـ تعالى ـ دفعته معرفته بمولاه، وإجلاله له ومخافته منه ـ مع عظم واجب البيان والتبليغ والحِمل الأسري والاجتماعي الضخم الملقى على عاتقه ـ إلى أن يقوم من الليل يصلي حتى تتورم قدماه، ويصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام، ويصلي ولِصَدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء، ويتصدق وينفق في سبيل الله، حتى يقول القائل: يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، ويتغنى بالقرآن حتى لا يحجبه عن قراءته شيء إلا الجنابة، ويكثر من الذكر والاستغفار، حتى إنه ليستغفر الله ويتوب إليه في اليوم مائة مرة، ويعدّ له العادّ من أصحابه في المجلس الواحد مائة مرة، يقول: «رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم» .
ذلك زادُه على الدوام، وذلك زادُه في الأحوال المتقلبة، منذ التعبد في غار حراء قبل البعثة، ثم الابتهال وقت الأزمات، يدعو في بدر، حتى يسقط رداؤه فيشفق عليه الصدِّيق، ويتضرع يوم الأحزاب ويصلي.. ويبقى الدعاء والتضرع والتعبد سلاحه على أعدائه في كل حين.
وحياة أئمة الهدى من الصحابة، والتابعين، والمقتفين أثرهم بإحسان زاخرة بذلك الجانب؛ فهذا محدِّث الأمة وحافظها أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ كان هو وخادمه وامرأته يعتقبون الليل أثلاثاً؛ أي: يصلي كل واحد منهم ثلثه (?) ، وهذا الحِبْر محمد بن سيرين كان يصوم يوماً ويفطر يوماً (?) ، وهذا سيد التابعين سعيد بن المسيب حج أربعين حجة ولم تفته صلاة في الجماعة أربعين سنة، عشرون منها لم ينظر أقفية الناس (?) .
وهذا الإمام الثوري ما كان لسانه يكاد يفتُر في خروجه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (?) ، وهذا فقيه الشام الأوزاعي كان يثبت في مصلاه عقب الفجر حتى تطلع الشمس، ويخبر عن السلف بأن ذلك كان هديهم (?) ، وهذا الإمام الشافعي كان من أسخى الناس على الطعام والدينار والدرهم (?) .
وهذا إمام الزهد وشيخ الورع أحمد بن حنبل صبر على الفقر سبعين سنة، وكان يختم القرآن في كل سبعة أيام بلياليهن ختمتين، سوى صلاة النهار، وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو (?) ، وهذا الحافظ البزّار يصف تعبد شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه قلّ أن يسمع بمثله؛ لأنه قد قطع جُلّ زمانه فيه: قراءة وصلاة وتفكراً وذكراً (?) ، وهذا من غيض من فيض من حياة المصلحين.
نماذج ناطقة بحقيقة راسخة، هي أن العناية بالتعبد والخشوع هدي ثابت، ومَعْلَمٌ كبير شامخ في حياة دعاة الإصلاح، عبر تاريخ الإسلام كله، على عمقه وطول امتداده منذ القديم.
سرّ للنجاح يدركه المتأمل للعلاقة الوطيدة بين تعبد هؤلاء الرواد ونجاحهم. إنها العبادة، زاد الصابر، وحلية الظافر.
هي ضرورة يفتقر إليها الصابر، بدلالة إيجاب صلاة الليل على الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عاماً كاملاً إبّان اشتداد البلاء وتسلط الأعداء، حتى صارت ديدنهم وهِجِّيراهم، وبشهادة آيات الذكر الحكيم الجامعة بين الأمر بالصبر وبين الأمر بالعبادة، {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130] ، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] .
كما لا يستغني عنها الظافر، {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3] .
هكذا يجب أن تكون العبادة حلية المصلحين الصابرين اليوم، وبخاصة في ظل احتدام الخطوب، وتداعي الأعداء، وقلة الناصر، وضعف الأسباب المادية.
غير أن المتأمل اليوم في حياة بعضنا يلحظ بوضوح ـ وبخاصة في العقدين الأخيرين ـ خللاً تربوياً بارزاً يتمثل في ضعف التوازن بين الممارسة الدعوية والعمل لهذا الدين، وبين إشغال القلب وإلزام الجوارح بالخضوع والإخبات لرب العالمين، وكأن هذا الأخير ربما أضحى لدى بعضهم مجرد تاريخ يُروى من سير الأولين.
وغاية الخطورة أن الأمر أحياناً لا يقف عند حدّ ضعف التزود العبادي، استكثاراً من النوافل والمستحبات ونأياً عن المكروهات، وإنما يتجاوزه إلى ما وراء ذلك، من إقامة الواجبات واجتناب المحظورات، ما يمكن التعبير عنه بضعف الاستقامة والتدين، ولو جزئياً.
وحيث وجد ذلك وجدت الآفات الضخمة الحائلة دون النصر والتمكين الذي كتبه الله ـ سبحانه ـ للمتقين، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} . [القصص: 83]
إن المشتغلين بالدعوة هم أول مخاطب برعاية هذه القضية، والتحرز غاية التحرز مما قد يطيل الطريق، ويؤخر النصر، ويفتن الناس عن الدين، من التفريط في الواجبات الظاهرة كإقامة الصلاة على وجهها، والقلبية كتحقيق المحبة لله، والخوف والرجاء، والإخلاص والتوكل والتدبر للقرآن، والخشوع في العبادات، والتلذذ بها وإدراك أسرارها.
كما ينبغي الحذر من الاستهانة بالمعاصي، وآفات النفوس الخفية وأمراض القلوب كالعجب والغرور والرياء، وشهوة الجاه، وضعف الإنكار، والتعلق بالدنيا وملذاتها، وطول الأمل، وقلة تذكر الموت والبِلى، وضعف الصدق والنصح والإخلاص.
ناهيك عما قد تبتلى به بعض الدعوات من ضعف التعبد بالدعوة المعبّر عنه بالفتور الدعوي، ومن الحركة في ظل قصور علمي وإيماني، وقلة القدوات أو ضعفها، وضعف الاهتمام بنوافل القربات، والإغراق في المباحات، وسطحية الاهتمامات أحياناً، والمشاحّة في الحقوق مع الآخرين أكثر من أداء الواجب لهم، مما لا يميِّز بعض هؤلاء أحياناً عن عامة الناس في التسامي والتعلق بما عند الله والدار الآخرة.
إلى نحو ذلك من المظاهر التي تدل على ما وراءها، وتتطلب دراسات تقويمية ومراجعات عميقة، للمناهج العلمية والتربوية المفعّلة في أوساط صحوتنا المباركة، بأطيافها المختلفة، إضافة إلى تضافر الجهود من المعنيين كافة بشأن إتقان صناعة جيل قادر على حمل لواء الحق، ومقارعة الباطل وأهله، وهو ما نرجو بأن يكون قريباً بإذن الله تعالى، حتى لا يتأصّل الانفصام بين الدعوة والتعبّد، وحتى نبلغ الغايات بأقصر الطرق.
فالغايات إنما تُبلَغ بجياد مُضمَّرة، لا خيل مُسَمَّنة.
والإصلاح والتغيير المنشود لا يبلغه إلا عبّاد خاشعون.
اللهم اجعلنا منهم، واهدنا وسددنا، واحفظ علينا علماءنا ودعاتنا وشبابنا وصحوتنا، وارزقنا شرف معرفتك، وتعلُّمَ أمرك، والعمل بمرضاتك، واستعملنا في طاعتك، إنك بَرٌّ رحيم، وصلى الله وسلم على النبي المختار، وآله وأصحابه السادة الأطهار.