منبر الشباب
عبد الفتاح سعد
تحت النفس شهوات وحظوظ شتى لو نظر البصير إليها لأنكر نفسه التي بين
جوانحه. وما إنكار المرء لنفسه إلا وليد فترات المحاسبة والمراجعة للنفس وميولها. ومما جبلت عليه النفس حبها وولعها بثناء الآخرين وتقريظهم.
لذا تجد من الناس ناساً قد أجهدوا أنفسهم في الأعمال والطاعات الظاهرة بغية
الثناء والمديح يحسبون أنهم على شيء، وما فطنوا أنهم لا خلاق لهم.
وفئة أخرى ليست بأحسن حالاً من السابقة فهي ما تفتأ تتكلم عن إخلاصها
وأنها تحب التخفي في أعمالها وطاعاتها وتذكر لذلك شواهد وقصص، وتحذر من
مغبة الوقوع في الرياء فيحصل لها الثناء والمديح لما يرى ويسمع عن إخلاصها في
إخفاء أعمالها وتحذيرها من الرياء، وهذه الفئة تخطئ إذ تذكر ذلك بل تنسى أن
(من ظن في إخلاصه إخلاصاً احتاج إخلاصه إلى إخلاص) .
ومن الناس ناس يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا لذا تراهم ينتحلون أعمال
الآخرين ويسرقون جهود المبدعين حتى يتحول الثناء إليهم من بعد ذلك ...
وعلى شاكلة هؤلاء من يدلسون من حيث يدرون أو لا يدرون فهم إن وجدوا
نثراُ رائعاً أو نظماً جيداً أو حكمة بليغة من مصدر أصلي في كتاب ما ذكروا
المصدر الأصلي وتجاهلوا أو ذهلوا عن وجادتهم من ذلك الكتاب وكأنهم بالفعل قد
رجعوا إلى المصدر الأصلي، وهؤلاء لا يختلفون عن السابقين إلا قليلاً، لأن
الناظر سيثني على جهودهم في الرجوع إلى ذلك المصدر الأصلي وسيحمدون ولا
ريب بما لم يفعلوا. والنفس في أثناء مرضها بتلك الشهوة لا تفطن إلى أخلاط من
شهوات خفية تتولد لتحقيق تلك الشهوة الكبرى..
فمن ذلك ترى النفس تحب ذم مخالفيها وبخس حقوقهم وإنزالهم في غير
منازلهم وتتجاهل حسناتهم وفضائلهم. فالشهوة الأولى أوقعت النفس في شهوات
أخرى، ولعلك ترى أناساً ينتصرون لأقوالهم وآرائهم عن طريق توهين آراء
الآخرين أو نسبتهم إلى ضحالة في الرأي وسطحية في التفكير، أو ضيق في الأفق
وعدم شموله، إلى آخر تلك الاتهامات وكأنها بذلك تومئ إيماء أنها صاحبة النظرة
الثاقبة والآراء السديدة، فينال رأيها المديح والإطراء.
وقد تعظم علائم المرض، ويتضخم هذا الورم السرطاني، فيصرف صاحبه
عن الأعمال والطاعات الخفية البعيدة عن المحيط الخارجي، فلا قيام لليل ولا صيام
تطوع، ولا صدقة تخفيها يمينه عن شماله. ولعل السبب أن الدافع للعمل لدى تلك
النفس هو المحيط الخارجي وبغية ثنائه وإطرائه، فإذا غاب المحيط الخارجي. فما
الباعث إذن على العمل؟
ولن نبعد عن الشهوة الأولى كثيراً عندما نرى من يدعون علم ما لا يعلمون،
فلعلهم قرءوا مقدمة كتاب وخاتمته وفهرس المحتويات ويزعمون بعد ذلك علماً
بالكتاب وإدراكاً لمضمونه حتى إذا جمعهم مجلس مع الناس ورأى الناس منهم تلك
الادعاءات انبهروا فأثنوا عليهم وأشاروا إليهم بالبنان: هؤلاء هم القراء!
ولا تقف تلك الشهوة عند ذلك الحد، بل تمضي بصاحبها إلى الجدال
والمخاصمة بغية الانتصار لتلك النفس، أو قل: بغية إرضاء تلك الشهوة الخفية..
والذين يقعون في ربقة تلك الشهوة يجهدون أنفسهم تفكيراً في أحسن السبل
وأحسن الأساليب وأحسن الكلمات.. إلخ. ثم يبررون ذلك بقولهم: نريد كسب ثقة
الآخرين وأن نكون عند حسن ظنهم، وهم في الحقيقة يريدون التشبع بثنائهم، ومن
ثم يصلون إلى حظوظ ومناصب.. إلخ.
ألا ترى معي كم من الوقت يمضي؟ وكم من الجهد يضيع من أجل إشباع تلك
الشهوة؟ ولا إخالك عزيزي القارئ تظنها دعوة إلى التكاسل والخمول وعدم إتقان
العمل، وإنما هي دعوة إلى سبر المقاصد والنيات والحذر من أخطار تلك الشهوات. ومتى أصابت تلك الشهوة من النفس مقتلاً؟ ترى صاحبها يحب المادحين
والمثنين، ويبغض أو - على الأقل - لا يلتفت إلى من يمحضه النصح والتوجيه.
فكم من طالب شهرة خر صريعاً قبل الاشتهار مع التحذير والتوجيه من الناصحين.
وكم من طالب رياسة ومجد تحركه تلك الشهوة فتهون عليه المبادئ والقيم، ويتنازل
عن كثير. والله المستعان ...
ولما فقه سلفنا الصالح قوله تعالى [فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى]
[النجم: 32] استشعروا خطر تلك الشهوة فملكوا قياد نفوسهم وأطفأوا نيران تلك
الشهوة قبل الاستفحال، ولما علموا آثار المصطفى -صلى الله عليه وسلم- طبقوها
على أنفسهم فما تأبت عليهم غرائزهم وشهواتهم بل خرجت نفوسهم من حظوظها.
ألا تسمع عمر رضى الله عنه يقول: (رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي) . وكم
من السلف الصالح من جاءته الرياسة والقضاء منقادين فأباهما، بل قال سفيان
الثوري مربياً أتباعه ومن بعدهم: (ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في
الرياسة) [1] .
وما زالت أصداء قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في
وجوههم التراب» [2] يتردد في نفوسهم وتستقيم عليه جوارحهم.