أ. د. عبد الكريم بكار
- خطوات العيش الهنيء:
تحدثت في المقال السابق عن ملاحظتين حول السعادة والعيش الهانئ.
واليوم أذكر بقية الملاحظات:
3 ـ إن في إمكان (العقيدة) أن تشكل المصدر الأساس للإثراء الروحي والسرور القلبي؛ وذلك من خلال ما توفره من أسس للاستعلاء على حاجات الجسد، وما توفره من طاقة لمقاومة صعوبات الحياة. والعقيدة في الوقت نفسه ترسم الفضاء النظري لعلاقة العبد بربه سبحانه وتعالى. إن العقيدة تشرح للإنسان المسلم عظمة الخالق ـ جل وعلا ـ وبره ولطفه، ورحمته بعباده، واطلاعه على أحوالهم، كما تشرح له ذلك السيل المتدفق من الإمداد المستمر بالعطايا والهدايا، والحفظ والرعاية بعد أن كانت قد شرحت له مِنَّة الخلق والإيجاد، وحقوق الخالق الجليل المفضال. من هذا وذاك تتكون مشاعر العبودية والامتنان، ومشاعر الحاجة والافتقار، وتضحى مناجاة الله ـ تعالى ـ وذكره والثناء عليه والتذلل بين يديه، وبسط الحاجات على أعتاب فضله وكرمه ـ أعظم مورد لمسرات الروح وطمأنينة النفس. وحين يقع المسلم في شدة أو أزمة يشعر أن في إمكانه في أي لحظة أن يلجأ إلى ركن شديد.
إن جلسة تستمر ساعة من زمان في الثناء على الله ـ تعالى ـ وتملُّقِه (?) والتودد إليه ... كافية لإضاءة كل الحجرات المظلمة في أرواحنا، وكافية لجعلنا نتربع على قمة من الانشراح والسكينة والارتياح. هذه الوضعية الروحية المتألقة هي ما عبر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حين قال: جنتي في صدري. وحين قال: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة (?) .
وقد سلك الرسل الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مسلك المناجاة في أبهى تجلياتها؛ ليعلِّموا أممهم كيف يَرِدُون هذا المورد العذب الجميل، وكيف يكون الاغتناء الداخلي مع قلة ما في اليد؛ ويكفيك أن تستعرض دعاء النبي # ومناجاته حين صدّه أهل الطائف ورموه بالحجارة.
4 ـ الأنشطة الدعوية والأدبية والاجتماعية والخيرية مصدر كبير لتنشيط الروح وإثراء الداخل. إن قانون المال هو الجمع والاستحواذ، وفيه دائماً ما يشير إلى الاهتمام بالذات والمصلحة الخاصة. أما قانون العمل فهو العطاء والإيثار، وفيه دائماً ما يشير إلى النمو، وما يعزز عالم المعنى. إن مجتمعاتنا فقيرة بهذه الألوان من العمل؛ بسبب التخلف والتفكك والخوف المسيطر من التقاء الإنسان بالإنسان. وهذا جعل موارد تحقيق الذات وتعميق المعاني الإنسانية ما يدفع الناس نحو التفاعل على المال بوصفه المورد الوحيد للتميز على الأقران، والمورد الوحيد للشعور بالفوز والنجاح. إن الأعمال التطوعية تجعلنا نشعر بالتأنق الداخلي والرفاهية الروحية؛ وهذا ما نحن في أمسّ الحاجة إليه اليوم.
5 ـ الأخوة والصداقة وما تشتملان عليه من معاني الأنس والوفاء والتضحية والتباذل والاهتمام المتبادل والتعاون والتكاتف ... من أعظم ما يغني مشاعرنا، ويضفي على نفوسنا الابتهاج. إن ثقافة الغني ظلت على مدار التاريخ صفوة ونخبة. أما ثقافة الفقر فهي ثقافة عموم الناس الذين يتواصلون بشكل أسهل، وتكون الحواجز بينهم أقل، كما أن علاقاتهم الاجتماعية لا تكون في العادة مكلفة. ونحن في حاجة اليوم إلى أن نبدع في الأطر والوسائل التي لا تجعل منازلنا الضخمة عبارة عن سجون مرفهة تعزلنا عن بعضنا، فنحرم من ثم من نغمة التناغم الروحي الذي نجده حين نلقي ونتبادل عواطف الأخوة والصداقة.
6 ـ لنجعل من الخيال أداة للتمتع بما ننتظره من النعيم الذي أعده الله لعباده الصالحين، ولنجعل من الذاكرة أداة لاسترجاع الذكريات الجميلة التي نحتفظ بها صوراً نقية عن أجمل الأحداث التي مرت بنا، ولنجعل من إدارة الإدراك وتوجيه الوعي أداة لرؤية العالم بطريقة جديدة؛ وبذلك نكسر جمود الرتابة، ونذيب صقيع القلوب الذي بدد حرارتها، وزادها قسوة. إن شيئاً من كل هذا سوف يحدث إذا اعتقدنا أن كثيراً من شقاء الإنسان كان ـ