عبد العزيز الدغيثر
للترويح آثار إيجابية كثيرة منها: إشباع الحاجات الجسمية والاجتماعية والعلمية والعقلية؛ إضافة إلى دوره في اكتشاف الأخلاق، كما أنه يمكن أن يكون وسيلة استثمار عالية العوائد. كما أن الترويح يزيد الترابط بين المشاركين في النشاط الترويحي. ومما هو معلوم لدى كل إنسان أن الأنشطة الترويحية تجعل الإنسان يعود إلى عمله بنشاط أكثر ورغبة أقوى وإنتاجية أعلى (?) .
والنشاط الترويحي ضروري للبدن؛ لذا جاء في قصة حنظلة قال: لقيني أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالنار والجنة، حتى وكأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر الصديق، حتى دخلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. فقال -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده! أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ـ ثلاث مرات» (?) .
ولما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- من عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ زيادة في التعبد على حساب حاجات أخرى أمره بالتوازن؛ فقال: «صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً» (?) .
وقد جاءت الآثار عن الصحابة للتأكيد على هذا المفهوم؛ فقال علي ـ رضي الله عنه ـ: أَجِمُّوا هذه القلوبَ، والتمسوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تملّ كما تمل الأبدان» . وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: أريحوا القلوب؛ فإن القلب إذا أُكره عمي (?) .
إلا أن هذا لا يعني أن يغلب الترفيهُ الجِدَّ في حياة المسلم، بل الغالب على المسلم أن يكون جاداً منتجاً والترفيه طارئ. كما أن الترفيه له أهداف رئيسة وأهداف جانبية؛ فمن أهداف الترفيه:
- الهدف الأول: تجديد النشاط، وتقوية الإرادة:
للترويح أثر ملاحظ على النفس بتجديد نشاطها، وفي هذا يقول أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: «إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق» .
ولذا يجد المتأمل في حكمة التشريع الإسلامي أن عيد الفطر يأتي بعد وقت جد وعبادة، بالصيام، والقيام، وغيرها من النوافل، وعيد الأضحى يأتي بعد يوم عرفة، وهو يوم عبادة، ودعاء، وتضرع، وصيام لغير الحاج. والعيد هو البهجة والسعادة التي تجدد للقلب حياته وحيويته، وحتى يكون الفرح عبادة يؤجر عليها العبد ارتبط العيد بشعيرتين إسلاميتين، هما: صوم رمضان، وأداء مناسك الحج والأضاحي. وسمي العيد عيداً؛ لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد.
وليس للمسلم في السنة إلا عيدان؛ فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «قدمت عليكم، ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم النحر، ويوم الفطر» (?) . والعيدان المذكوران هما: يوم النيروز، ويوم المهرجان (عون المعبود 3/485) . وفي حديث الجاريتين أنهما كانتا تغنيان، وتضربان بالدف عند عائشة ـ رضي الله عنها ـ في العيد من أيام منى (?) .
وللترفيه أثر في إزالة ما يعتري النفس من تعب وجوع وعطش، وقد استخدم الصحابة الترفيه لتصبير أطفالهم على الصوم؛ فقد روى البخاري ومسلم عن الربيع بنت معوذ قالت: «أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتمّ بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن؛ فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك، حتى يكون عند الإفطار» (?) .
والتغيير بالسفر أمر لا بد منه، ولا يعارضه الشرع؛ لأن فيه مصلحة واضحة جلية، قال الشافعي:
ما في المقام لذي عقل وذي أدبِ
من راحة فدعِ الأوطان واغتربِ
سافر تجد عوضاً عمَّن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النصَبِ
إني رأيت وقوف الماء يفسده
إن سال طاب وإن لم يجر لم يطبِ
الأُسْدُ لولا فراق الغاب ما قنصت
والسهم لولا فراق القوس لم يُصبِ
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة
لملها الناس من عجم ومن عربِ
والبدر لولا أفول منه ما نظرت
إليه في كل حين عين مرتقبِ
والتبر كالترب ملقى في أماكنه
والعود في أرضه نوع من الحطبِ
فإن تغرَّب هذا عز مطلبه
وإن أقام فلا يعلو على رتبِ
وقال:
الكحل نوع من الأحجار منطرحاً
في أرضه كالثرى يُذرى على الطرق
لما تغرَّب نال العز أجمعه
فصار يُحمل بين الجفن والحَدَقِ
ولكن العاقل من يتعظ بسفره، ويجعل سياحته تقربه لربه، وتزيد من إيمانه ومعرفته وثقافته. ولما أراد أعداء ابن تيمية طرده من بلاده، قال ـ يرحمه الله ـ: «ما ينقم مني أعدائي. أنا جنتي في صدري. قتلي شهادة، وتسفيري سياحة، وسجني خلوة» .
- الهدف الثاني: إظهار سماحة الإسلام:
قد يظن ظان أن الترفيه يعارض الدين الإسلامي، وقد أعلنها رسول البشرية -صلى الله عليه وسلم- حين قال لبعض الغلاة: «لا رهبانية في الإسلام» ؛ ولذا فإن إظهار الترفيه المباح لإعلام الآخرين بسماحة الدين وواقعيته أمر مطلوب ومشروع، ودليل ذلك ما ثبت في المسند من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أذن لعائشة باللعب بالبنات مع صواحبها، قال: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بُعثت بحنيفية سمحة» (?) . وقد فهم السلف من الصحابة ومن تبعهم هذا المقصد؛ فقد قال أحد السلف لأصحابه ليبين لهم هذه السماحة: «كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبادحون بالبطيخ؛ فإذا كانت الحقائق كانوا هُمُ الرجال» (?) .
- الهدف الثالث: إسعاد الصغار:
إسعاد الصغار أمر مطلوب حيث كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحراه ويقصده؛ لأن الصغار هُمْ بهجة الدنيا وإسعادهم يملأ الأجواء سعادة وفرحاً. ومما يدل على الحرص على هذا الأمر ما ثبت عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أتى الثمر أُتي به فيقول: (اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي مدنا، وفي صاعنا بركة مع بركة) ، ثم يعطيه أصغر من بحضرته من الولدان (?) . وهذه الهدية الصغيرة لها أثر عميق في نفس الصغير لا ينساه ما عاش.
ومن ذلك إردافهم على الدابة؛ فقد قال عبد الله بن جعفر ـ رضي الله عنه ـ: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بالصبيان من أهل بيته. قال: وإنه قدم مرة من سفره فسيق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابنيْ فاطمة؛ إما حسن، وإما حسين فأردفه خلفه، قال: فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة» (?) . وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب فحمل واحداً بين يديه، وآخر خلفه (?) .
ومن إسعاد الصغار تفريحهم بالمال؛ فقد مَرّ ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في طريق فرأى صبياناً يلعبون فأعطاهم درهمين (?) .
ومما يفرح الصبي حمله والإنشاد له؛ فعن عقبة بن الحارث قال: رأيت أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ يحمل الحسن بن علي، ويقول:
بأبي شبيه بالنبي
ليس شبيهاً بعلي
وعلي معه يتبسم (?) . قال الحافظ في الفتح: وكان عمر الحسن إذ ذاك سبع سنين (?) .
وعن عروة بن الزبير قال: كان أبي ينقزني ويقول:
أبيض من آل عتيقِ
مبارك من ولد الصديقِ
ألذه كما ألذ ريقي (?)
وكان العباس ـ رضي الله عنه ـ يرقص قثم، ويقول:
يا قثم يا قثم
يا ذا الأنف الأشم
يا شبه ذي الكرم (?)
وكانت أم الفضل بن عباس ترقصه وتقول:
ثكلت نفسي وثكلت بكري
إن لم يسد قهراً أو عين قهري
بالحسب العز وبذل الوفر (?)
وقال الشعبي: كانت قريش تحب عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ حتى إن المرأة كانت ترقص ابنها وتقول:
أحبك والرحمن
حب قريش عثمان (?)
- الهدف الرابع: التنمية العضلية:
من أفضل الوسائل الترفيهية ما يفيد البدن وينشطه؛ لأنه ثبت في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ... » (?) .
والصغير كثير الحركة واللهو، والمطلوب من الكبار أن يتنزلوا لهم ليسعدوا؛ ولأن في حركتهم تنمية لقواهم العضلية؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «أنه صلى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء؛ فأخذ الحسن والحسين يركبان على ظهره؛ فلما جلس وضع واحداً على فخذه، والآخر على فخذه الأخرى ... » (?) ، وفي حديث شداد بن الهاد ـ رضي الله عنه ـ أنه رأى الحسن أو الحسين على ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ساجد فأطال السجود؛ فلما قضيت الصلاة قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطلتها؛ فظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك، قال: «فكل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني؛ فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته» (?) ، وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي والحسن والحسين يثبان على ظهره، فيأخذهما الناس فقال: دعوهما بأبي هما وأمي! من أحبني فليحب هذين!» (?) .
فهذه الوقائع تدل على أن الإنسان في حال تعامله الجادّ يختلف عن حاله وقت الترفيه؛ فليس التجهّم من الإسلام في شيء، وقد ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان من أفكه الناس مع صبي (?) .
ونقل ابن مفلح عن ابن عقيل أنه قال: «والعاقل إن خلا بأطفاله خرج بصورة طفل، ويهجر الجد في ذلك الوقت» (?) .
وقد عزل عمر والياً؛ لأنه لا يلاعب أطفاله (?) .
والصغار يحبون المنافسة كثيراً، وقد استخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- الترفيه للصغار عن طريق إجراء السباق بينهم؛ فقد ثبت عن عبد الله بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ قال: كان -صلى الله عليه وسلم- يصفُّ عبدَ الله وعبيدَ الله ـ من بني العباس ـ ثم يقول: من سبق إلى كذا فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم (?) .
والزوجة تحتاج إلى أن تأخذ حظها من الترفيه؛ فقد سابق النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة مرة فسبقته، ثم سابقها بعد أن حملت اللحم فسبقها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «هذه بتلك» (?) .
وورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تلعب بالأرجوحة مع صاحباتها قبل دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- بها (?) .
وقد وردت عدة وسائل في النصوص الشرعية؛ مما يحصل به الجمع بين الترفيه والتنمية العضلية والاستعداد العسكري للمجتمع المسلم؛ فمن ذلك:
- أولاً: السبق بالأقدام:
تعتبر المسابقة بالأقدام من أقدم أنواع المسابقات وأسهلها وأقلها كلفة، وقد وردت في قصة يوسف أن إخوته قالوا: {إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17] ، قال ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: نستبق إما على الأقدام، أو بالرمي والنضال.
كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استخدم هذا الأسلوب الترفيهي كما في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر فسابقته على رجلها فسبقته، قالت: فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: «هذه بتلك» (?) .
وبعد غزوة (ذي قرد) سابق سلمة بن الأكوع رجلاً من الأنصار إلى المدينة بإذن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسبقه سلمة (?) .
وعندما قفل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من غزوة تبوك قالت الأنصار: السباق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن شئتم (?) .
وسابق ابن الزبير عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ فسبق ابن الزبير؛ فقال: سبقتك ورب الكعبة، قال عبد الله: ثم سبقني فقال: وسبقتك ورب الكعبة (?) .
- ثانياً: المصارعة:
وهذه رياضة نبيلة، لكنها تطلق الآن على رياضة عنيفة لا يقرها دين ولا عقل، وقد ورد في المصارعة أن سمرة بن جندب ورافع بن خديج ـ رضي الله عنهما ـ تصارعاً بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد (?) . ليتبين الأقوى فينال شرف الجهاد.
وحديث ركانة بن عبد يزيد قال: كنت أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- في غُنَيْمة لأبي طالب نرعاها في أول ما رأى؛ إذ قال لي ذات يوم: هل لك أن تصارعني؟ قلت له: أنت؟ قال: أنا، فقلت: على ماذا؟ قال: على شاة من الغنم، فصارعته فصرعني» (?) . وقد أفادت هذه المصارعة إسلام ركانة؛ لأنه علم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مُعان من الله تعالى. وردَّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- غُنيمته.
- ثالثاً: الغطس:
وهذه الوسيلة الترفيهية رياضة جماعية، وفيها فائدة تمرين الصدر والرئتين على الحصول على كمية أكبر من الهواء مع التكرار والصبر؛ ولذا نلاحظ أن الغواص المحترف يمكث تحت الماء مدة أطول من غيره لتمرّن رئتيه على ذلك، وقد ورد في هذا النوع من المسابقات أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مَرّ بساحل البحر وهو محرم، فقال لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: تعالَ أباقيك في الماء أينا أطول نَفَساً؟ قال ابن عباس: ونحن محرمون. وجاء عن ابن عمر أن عاصم بن عمر وعبد الرحمن بن زيد وقعا في البحر يتمالقان (يتغاطسان) يغيِّب أحدهما رأس صاحبه وعمر ينظر إليهما، فلم ينكر ذلك عليهما (?) .
- رابعاً: السباحة:
وهي من أفضل وسائل الترفيه وأنفعها للبدن والنفس، وقد جاءت النصوص النبوية بمدح هذه الوسيلة، واستحباب تعلمها وتعليمها؛ لأنها قد تكون وسيلة لإنقاذ النفس، ومن طريف ما يُذكر أن نحوياً صعد سفينة فسمع ربانها يصيح بأعلى صوته: ارفعوا الشراعُ يا أيها البحارة! فقال النحوي للربان: ألا تعرف النحو؟ قال: لا، فقال النحوي: فاتك نصف عمرك! فهبَّت عاصفة هزت السفينة حتى ارتفعت الأمواج وتلاطمت؛ فقال الربان للنحوي: أتعرف السباحة؟ قال: لا؛ فقال الربان: فَاتَك عمرك كله!
ومما ورد في فضل السباحة ممارسة وتعلماً وتعليماً حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو أو سهو غير أربع خصال: تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بين الغرضين، وتعليم السباحة» (?) .
وكتب عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ «أن علموا غلمانكم العوم ومقاتلتكم الرمي» (?) ، وليعلم أن معرفة السباحة غاية في الأهمية؛ ولذا أوصى الحجاج مؤدب بنيه بقوله: «علمهم السباحة قبل الكتابة؛ فإنهم يجدون من يكتب عنهم ولا يجدون من يسبح عنهم» (?) .
- خامساً: الفروسية:
وهي رياضة النبلاء والقادة؛ لأنها تدل على شجاعة وثبات ورباطة جأش وقوة عزيمة، ولقد حث الشرع على أن يكون الترفيه البدني معيناً على الاستعداد العسكري للجهاد، وأجاز بذل العوض فيه، والأصل في ذلك حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا سَبْقَ إلا في خف أو حافر أو نصل» (?) . وحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «سبَّق بين الخيل وراهن» وفي لفظ: «سبق بين الخيل وأعطى السابق» (?) . وأصل الحديث في مسلم بلفظ: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سابق بالخيل ... » (?) . دون ذكر الرهن. وتعليم الفرس وتأديبها من وسائل ذلك لحديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو أو سهو غير أربع خصال: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بين الغرضين، وتعليم السباحة» (?) .
- سادساً: السباق على الإبل:
من وسائل الترفيه عند العرب السباق على الإبل التي هي سفينتهم التي يعبرون بها الفيافي والقفار، وقد كان أغنياء العرب يتنافسون في اقتناء الإبل الأصيلة السريعة الصبورة، وإجراء المسابقات بين الإبل أمر شائع في العهد النبوي، ففي البخاري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ناقة تسمى العضباء لا تُسبق ... » (?) . وكان الصحابة يسابقون على الخيل والركاب وعلى أقدامهم (?) .
- سابعاً: الرمي:
من أجمل وأمتع وسائل الترفيه الرمي بالسلاح للتمرين على الإصابة والدقة؛ فقد ثبت في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» (?) . وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- على قوم مِن أسلم يتناضلون بالسوق فقال: «ارموا بني إسماعيل! فإن أباكم كان رامياً..» (?) .
بل حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من نسيان الرمي؛ حيث قال: «من تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا» (?) .
ولذا حرصوا على هذا الأمر، حيث كانوا يتواصون به، فكتب عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ «أن علموا غلمانكم العوم ومقاتِلَتَكم الرمي» (?) .
وقال سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: «عليكم بالرمي؛ فإنه خير لَهْوِكُم» (?) .
وفي مجمع الزوائد أن أنساً ـ رضي الله عنه ـ كان يجلس ويُطرح له فراش ويجلس عليه ويرمي ولده بين يديه، فخرج يوماً وهم يرمون فقال: يا بنيَّ! بئس ما ترمون، ثم أخذ القوس فرمى؛ فما أخطأ القرطاس» (?) .
- ثامثاً: اللعب بالسلاح:
واللعب بالسلاح يشبه إلى حد كبير رقصة الحرب، ووقتها في العادة قبل المعارك وفي الأعياد ونحوها، ومشاهدة هذا اللعب وممارسته أمر مباح، ودليل ذلك حديث عائشة، في إذن النبي -صلى الله عليه وسلم- لها برؤية الحبشة وهم يلعبون بالحراب في المسجد (?) .
- الهدف الخامس: التهيئة النفسية وإزالة التوتر:
من حكمة الشارع أنه شرع للإنسان في حال توتره وخوفه بعض الوسائل الترفيهية لإزالة ذلك، ومن أصعب المواقف ليلة زفة العروس إلى زوجها؛ إذ كل طرف يصيبه توجس وقلق من الموقف، وقد يصيبه خوف من الإخفاق؛ فشرع الضرب بالدف، وذكر الأناشيد التي تؤدي الغرض. ومثل ذلك وقت الحرب والختان ونحوها. كما ورد في السنة النشيد وقت العمل الشاق، كمثل ما حدث في حفر الخندق، وفي السفر، ونحو ذلك.
- جواز الغناء واستعمال الدف في وليمة العرس:
ورد في السنة جواز ذلك:
أولاً: حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها زفت امرأةً إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عائشة! ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو» (?) .
ثانياً: حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن يتيمة تزوجت رجلاً من الأنصار، وكانت عائشة فيمن أهداها إلى زوجها، قالت: فسلمنا ودعونا بالبركة، ثم انصرفنا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: إن الأنصار قوم فيهم غزل، ألا قلتم يا عائشة: أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم» (?) .
وفيه دليل على جواز الغزل غير الفاحش عند زفاف المرأة إلى زوجها. والحكمة في ذلك إعلان النكاح.
ثالثاً: حديث عامر البجلي قال: دخلت على قرظة بن كعب، وأبي مسعود ـ قال الراوي عنه: وذكر ثالثاً ذهب عليَّ ـ وجوارٍ يضربن بالدف ويغنين، فقلت: تقرون على هذا وأنتم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: إنه قد رخص لنا في العرسات، وفي البكاء على الميت من غير نياحة» (?) .
- حكم الدف والغناء في العرس:
قال أحمد: يستحب أن يُظهر النكاح، ويُضرب عليه بالدف، حتى يشتهر ويُعرف. وقال أيضاً: لا بأس بالغزل في العرس كقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار: «أتيناكم أتيناكم..» (?) .
وأما الدف للرجال فقد قال المرداوي: ظاهر قوله ـ أي صاحب المقنع ـ والضرب عليه بالدف، أنه سواء كان الضارب رجلاً أو امرأة، قال في الفروع وظاهر نصوصه، وكلام الأصحاب التسوية (?) .
وقال صاحب الشرح: وإنما يستحب الضرب بالدف للنساء. ذكره شيخنا ـ رحمه الله ـ وأما الطبل فقال أحمد: وأكره الطبل، وهو المنكر، وهو: الكوبة التي نهى عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- (?) .
- الهدف السادس: التشجيع:
إقامة الحفلات الترفيهية المباحة سبيل إلى تشجيع المحسن، سواء أكان كبيراً أم صغيراً، وقد ورد مثل هذه الحفلات عن بعض من سلف؛ فمن الأساليب التي تحبب العلم إلى الصغار الاحتفال بهم، بوضع حفلة ترفيهية مفرحة. قال أبو خبيب الكرابيسي: كان معنا ابن لأيوب السختياني في الكُتَّاب فحذق الصبي، فأتينا منزلهم فوُضِع له منبر، فخطب عليه، ونهبوا علينا الجوز، وأيوب قائم على الباب، يقول لنا: ادخلوا، وهو خاص لنا (?) .
- الهدف السابع: تنمية الروح الابتكارية والتخيلية:
من أهداف الترفيه: التعليم والابتكار، وقد توالت الدعوات في الدراسات التربوية الحديثة إلى توسيع أسلوب التعليم بالترفيه. وقد كان من العادات التي أقرها الشرع استعمال الدمى للصغيرات؛ فقد ورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه كان لها فرس، له جناحان (?) . وفي الصحيحين عنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: «كنت ألعب بالبنات عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل ينقمعن منه فيُسَرِّبُهن إليَّ فيلعبن معي» (?) . قال النووي: قال القاضي: فيه جواز اللعب بهن، وهن مخصوصات من الصور المنهي عنها لهذا الحديث، ولما فيه من تدريب النساء في صغرهن لأمر أنفسهن وبيوتهن وأولادهن، وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن ... ثم قال: ومذهب جمهور العلماء جواز اللعب بهن. وقال ابن حجر نحو هذا الكلام وأضاف: جزم القاضي عياض بتخصيص لعب البنات من عموم النهي، ونقله عن الجمهور (?) .
وقال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ: «إن كانت لعب الأطفال المجسمة كخلق الإنسان فاجتنابها أوْلى، ولكن لا أقطع بالتحريم؛ لأن الصغار يرخص لهم ما لا يرخص للكبار في مثل هذه الأمور؛ فإن الصغير مجبول على اللعب والتسلي وليس مكلفاً بشيء من العبادات حتى نقول: إن وقته يضيع عليه لهواً وعبثاً ... » (?) .
ومن الأساليب الترفيهية التي تنمي الروح الابتكارية لعب الصغار بالتراب النظيف، وذكر البيهقي باباً فيما ورد من لعب الصبيان بالتراب (?) .
ومن الترفيه المحبب إلى نفوس الصغار اقتناء الحيوانات والطيور الأليفة وملاعبتها بما لا يؤذيها. فقد ذكر العلماء أنه يجوز لعب الأطفال ببعض الحيوانات والطيور؛ إذ لم يكن فيه أذى لها؛ ففي الصحيحين عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأخ لأنس ـ رضي الله عنه ـ: «يا أبا عمير! ما فعل النغير؟» (?) . وقد ذكر العلماء في فوائده: جواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح له اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ما دام يطعمه ويسقيه، وأشار بعض أهل العلم إلى جواز قص جناح الطير حتى لا يطير (?) . وقد جاء عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه كني بهرة كان يحملها معه ويلاعبها.
ومما يقود إلى التعلم بأسلوب ترويحي وترفيهي استعمال المسابقات العلمية؛ وذلك بطرح المسألة على الحاضرين ليعرف الأحذق والأعلم فيجيب، والأصل في جوازه حديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن من الشجر شجرة لا يعضد شوكها ولا يتحات ورقها، وإنها مثل المؤمن فخاض الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة ... » (?) .