مجله البيان (صفحة 5182)

حكم التداوي بالمحرمات

أ. د. عبد الفتاح محمود إدريس

التداوي من الأمراض قد يكون بأدوية مباحة، وقد يكون بأدوية محرمة. ومن الأدوية المحرمة: التداوي بالمواد المسكرة، أو المخدرة، أو التداوي بالذهب أو الفضة في حق الرجال، أو بلبس الحرير في حقهم كذلك، أو اتخاذ الأدوية النجسة أو الخبيثة، أو التداوي بسماع الغناء والمعازف، أو بالسم أو ما اشتمل عليه، أو نحو ذلك.

وفي البداية أقرر اتفاق الفقهاء على حرمة التداوي بالمحرم مطلقاً، إذا لم تَدْعُ الضرورة إليه، بأن وجد البديل المباح الذي يغني عنه، أما إذا دعت إليه الضرورة فقد اختلف الفقهاء في حكم التداوي به على مذهبين:

- المذهب الأول: يرى أصحابه جواز التداوي بالمحرم، على تفصيل بينهم في ذلك.

إلى هذا ذهب بعض الحنفية؛ إذ يرون جواز الاستشفاء بالحرام إذا أخبر طبيب مسلم أن فيه شفاء للمريض، ولم يوجد دواء مباح يقوم مقامه في التداوي به من المرض، وما عليه مذهب الشافعية وقطع به جمهورهم هو جواز التداوي بالمحرمات بسبب النجاسة ـ غير المسكر ـ إذا لم يوجد طاهر يقوم مقامها في التداوي، وكان المتداوي عارفاً بالطب، يعرف أنه لا يقوم غير النجس مقامه في المداواة، أو كان يعرف ذلك من تجربة سابقة له مع المرض، أو أخبره طبيب مسلم بذلك، وأما الطاهرات المحرمة كالحرير ونحوه فيجوز التداوي به في أظهر قولين في المذهب، بالقيود السابقة في التداوي بالنجس، ومذهب الظاهرية جواز التداوي بالمحرم مطلقاً، إلا لحوم بني آدم، وما يقتل من تناوله، فلا يحل التداوي به وإن دعت إليه الضرورة (?) .

- المذهب الثاني: يرى من ذهب إليه أنه لا يجوز التداوي بالمحرم.

إلى هذا ذهب جمهور الحنفية، وهو مذهب المالكية، ووجه في مذهب الشافعية، وإليه ذهب الحنابلة (?) .

أدلة المذهبين:

استدل أصحاب المذهب الأول على جواز التداوي بالمحرم بشرطه بما يلي:

أولاً: الكتاب الكريم: قال ـ تعالى ـ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 119] .

وجه الدلالة من الآية: أسقط الحق ـ سبحانه ـ تحريم ما فصل تحريمه عند الضرورة إليه؛ فكل محرم هو عند الضرورة حلال، والتداوي بمنزلة الضرورة، فيباح فيه تناول هذه المحرمات للتداوي بها استناداً إلى هذه الآية.

ثانياً: السنة النبوية المطهرة: روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «إن رهطاً من عرينة أتوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: إنا اجتوينا المدينة، وعظمت بطوننا، وارتهست أعضادنا، فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يلحقوا براعي الإبل، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فلحقوا براعي الإبل، فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صلحت بطونهم وأبدانهم، ثم قتلوا الراعي وساقوا الإبل، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبعث في طلبهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وأُلقُوا في الحرة يستسقون فلا يُسقَوْن» (?) .

وجه الدلالة منه:

رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء القوم بشرب أبوال الإبل على سبيل التداوي مما أصابهم من مرض، وقد صحت أبدانهم بعد شربه، والتداوي ـ كما قال ابن حزم ـ بمنزلة الضرورة التي ترخص في تناول المحرم، ولا يعد تناوله في هذه الحالة محرماً؛ فإن ما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المأكل والمشرب (?) .

اعتُرض على الاستدالال به بما يلي:

أ - قال العيني والمرغيناني: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خص العرنيين بذلك، لما عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ولا يوجد مثله في زماننا، فلا يحل تناوله لعدم تيقن الشفاء فيه، فلا يعرض على الحرمة، وهو كما خص الزبير بن العوام بلبس الحرير لحكة كانت به أو للقمل (?) ، أو لأنهم كانوا كفاراً في علم الله تعالى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الردة، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر بالنجس (?) .

أجيب عن هذا الاعتراض:

قال ابن المنذر: من زعم أن هذا خاص بأولئك الأقوام فلم يصب؛ إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل، ويؤيد هذا تقرير أهل العلم استعمال الناس أبوال الإبل في أدويتهم قديماً وحديثاً، وعدم إنكارهم ذلك (?) .

رد هذا الجواب:

قال ابن حجر: إن المختلف فيه لا يجب إنكاره، فلا يدل ترك إنكاره على جوازه (?) .

ب - قال السرخسي: حديث أنس رواه قتادة عنه، وفيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص للعرنيين في شرب ألبان الإبل ولم يذكر الأبوال، وإنما ذكر هذا في رواية حميد الطويل عنه، والحديث حكاية حال، فإذا دار بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة، فإنه يسقط الاحتجاج به (?) .

ج - افترض العيني اعتراضاً حيث قال: إن أبوال الإبل كانت محرمة الشرب، فلا يجوز التداوي به (?) ؛ لِمَا روي عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله ـ تعالى ـ لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» (?) ، وما روي عن أبي الدرداء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله ـ عز وجل ـ أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام» (?) .

أجيب عن هذا الاعتراض بما يلي:

1- قال البيهقي: هذان الحديثان ـ إن قيل بصحتهما ـ يُحمَلان على النهي عن التداوي بالمسكر، أو على التداوي بكل محرم في غير حال الضرورة إلى التداوي به، جمعاً بينهما وبين حديث العرنيين (?) .

2- قال ابن حزم: إن الحديث الذي روي عن أم سلمة باطل؛ لأن في سنده سليمان الشيباني، وهو مجهول، وقد جاء اليقين بإباحة الميتة والخنزير عند خوف الهلاك من الجوع؛ فقد جعل الله ـ تعالى ـ شفاءنا من الجوع المهلك فيما حرم علينا في غير تلك الحال.

ونقول: نعم إن الشيء ما دام حراماً علينا فلا شفاء لنا فيه، فإذا اضطررنا إليه فلا يحرم علينا حينئذ، بل هو حلال، فهو لنا حينئذ شفاء، وهذا ظاهر الخبر (?) .

3 - قال بعض العلماء: إن حديث أم سلمة وقع جواباً لمن سأل عن التداوي بالخمر وغيره من سائر المسكرات، فلا يجوز إلحاق غير المسكر به؛ لأن شرب المسكر يجر إلى مفاسد كثيرة، ولأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن في الخمر شفاء، فجاء الشرع بخلاف ذلك (?) .

رد جواب هؤلاء بما يلي:

1- قال العيني: حديث أم سلمة أخرجه ابن حبان في صحيحه وصححه، وسليمان الشيباني أحد الثقات، وقول من يدعي خصوصية هذا بالخمر قول مردود؛ لأن دعوى الخصوصية لا تسمع إلا بدليل، والجواب القاطع عن هذا: أن حرمة التداوي بالمحرم محمول على حال الاختيار، وأما في حال الاضطرار فلا يكون حراماً، كتناول الميتة في المخمصة، والخمر عند العطش وإساغة اللقمة (?) .

2 - قال الشوكاني: إن قصر النهي عن التداوي بالمحرم على الخمر فقط، قصر للعام على السبب بدون موجب، والمعتبر عموم اللفظ لا خصوص السبب، وأما النهي عن التداوي بالمحرم فهو محمول على التداوي به حال الاختيار، وأما في حال الضرورة فلا يكون حراماً، كإباحة تناول الميتة للمضطر؛ فالنهي عن التداوي بالحرام باعتبار الحالة التي لا ضرورة فيها، والإذن بالتداوي بأبوال الإبل باعتبار حالة الضرورة وإن كان حراماً، ولو سلم بهذا فالتداوي إنما وقع بأبوال الإبل خاصة، فلا يجوز إلحاق غيره به، لما ثبت من حديث ابن عباس مرفوعاً: «إن في أبوال الإبل شفاء للذربة بطونهم» (?) ، ولا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه (?) .

استدل أصحاب المذهب الثاني على حرمة التداوي بالمحرم بما يلي:

أولاً: الكتاب الكريم:

قال ـ تعالى ـ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] .

وجه الدلالة من الآية:

أفادت هذه الآية أن الشارع حرم تناول كل خبيث، ولو كان هذا لأجل التداوي به، سواء كان خبثه لنجاسته أو لغيرها.

ثانياً: السنة النبوية المطهرة:

1 - روي عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» .

2 - روي عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام» .

وجه الدلالة منهما:

بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أم سلمة، أن الله ـ تعالى ـ لم يجعل فيما حرمه على هذه الأمة شفاء مما يصيبها من الأدواء، فدل على عدم جواز التداوي بالمحرم؛ لأنه لا أثر له في الشفاء من الأمراض، ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي الدرداء عن التداوي بالمحرم، والنهي يفيد التحريم عند الإطلاق؛ لأنه حقيقته، فأفاد كسابقه حرمة التداوي بالمحرم، سواء كانت حرمته بسبب نجاسته أو استقذاره أو غير ذلك.

اعترض على الاستدلال بهما بما سبق أن اعترض به عليهما، وأجيب عن هذه الاعتراضات بما أجيب به عليها من قبل (?) .

وقد تأول بعض العلماء هذين الحديثين بما يلي:

أ - قال النووي: إن النهي عن التداوي بالمحرم في حديثيْ أم سلمة وأبي الدرداء، محمول على حال عدم الحاجة إلى التداوي به، بأن يكون هناك من الأدوية المباحة ما يقوم مقام المحرم في التداوي به (?) .

ب - قال البيهقي: إن هذين الحديثين إن صحا فإنهما يحملان على النهي عن التداوي بالمسكر، أو التداوي بكل محرم في غير حال الضرورة، ليكون جمعاً بينهما وبين حديث العرنيين (?) .

تعقب الشوكاني قوله هذا:

قال: لا يخفى ما في هذا الجمع من التعسف؛ فإن أبوال الإبل يمنع الخصم اتصافها بكونها حراماً أو نجساً، وعلى فرض التسليم بذلك فالواجب الجمع بين العام، وهو تحريم التداوي بالحرام، وبين الخاص وهو الإذن بالتداوي بأبوال الإبل، بأن يقال: يحرم التداوي بكل حرام إلا أبوال الإبل، هذا هو القانون الأصولي (?) .

ج - قال العيني: «الجواب القاطع أن الحكم الذي جاء به حديث أم سلمة (وفي حكمه حديث أبي الدرداء) من حرمة التداوي بالمحرم، محمول على حالة الاختيار، وأما حالة الاضطرار فلا يكون حراماً، كتناول الميتة في المخمصة، والخمر عند العطش وإساغة اللقمة، وقال ابن رسلان والشوكاني بمثل ذلك» (?) .

د - قال ابن البزار: إن حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ فيه نفي الحرمة عن الدواء المحرم، إذا علم أن فيه شفاء، ولم يوجد ما يقوم مقامه من الأدوية المباحة، ومعنى هذا الحديث وفقاً لذلك: إن الله أذن لكم بالتداوي، وجعل لكل داء دواء؛ فإذا كان في ذلك الدواء شيئاً محرماً، وعلمتم به الشفاء، فقد زالت حرمة استعماله؛ لأنه ـ تعالى ـ لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» (?) .

هـ - قال ابن عابدين: «إن معنى «لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» : يحتمل أن يكون هذا القول قد قيل في داء عرف له دواء غير المحرم؛ لأنه حينئذ يستغنى بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تتكشف الحرمة عند الحاجة، فلا يكون الشفاء بالحرام، وإنما يكون بالحلال» (?) .

3 - روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الدواء الخبيث» (?) .

وجه الدلالة منه:

أفاد هذا الحديث حرمة التداوي بالدواء الخبيث، وقد اختلف العلماء في المراد بالدواء الخبيث، فقال الحاكم: هو الخمر بعينه بلا شك، وقال الترمذي وابن ماجة: هو السم، وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون هو الدواء المكروه الذي تنفر النفس عنه، لما فيه من المشقة، والعوض عنه موجود. ويحتمل أن يريد به ما يجمع الضار والنافع كالترياق، ويحتمل أن يريد به الخمر، ويحتمل أن يريد به ما تستعمله العامة من الأدوية المجهولة، مما تسقيه أو تكتب فيه، توهم الناس أنه علم وهو سخافة وتلاعب، أو مما يعلقونه: كالخرز والودع، وقال الخطابي: قد يكون خبث الدواء من وجهين: أحدهما خبث النجاسة، وهو أن يدخله المحرم كالخمر ونحوها من لحوم الحيوانات غير المأكولة اللحم، وقد يصف الأطباء بعض الأبوال وعذرة بعض الناس لبعض العلل، وهي كلها خبيثة نجسة، وتناولها محرم، إلا ما خصته السنة من أبوال الإبل، وسبيل السنن أن يقر كل شيء منها في موضعه، وألا يضرب بعضها ببعض، الوجه الثاني: أن خبث الدواء قد يكون من جهة الطعم والمذاق، ولا ينكر أن يكون قد كره ذلك لما فيه من المشقة على الطباع، ولتكره النفوس إياه، والغالب أن طعوم الأدوية كريهة ولكن بعضها أيسر احتمالاً وأقل كراهة من بعض (?) ، فإذا كان المراد بالدواء الخبيث هو المحرم أو المشتمل عليه، فإن هذا الحديث دليل على حرمة التداوي بالمحرم.

تأول بعض العلماء هذا الحديث:

أ - قال النووي: «إن النهي عن التداوي بالدواء الخبيث محمول على الحال التي لا تكون فيها ضرورة إليه، بأن يكون هناك دواء غير خبيث يغني عنه ويقوم مقامه» (?) .

ب - قال البيهقي: «إن هذا الحديث إن قيل بصحته، محمول على النهي عن التداوي بالمسكر، أو على التداوي بكل محرم في غير حال الضرورة، ليكون جمعاً بينه وبين حديث العرنيين (?) .

تعقب الشوكاني قوله هذا بما تعقب به هذا القول من قبل» (?) .

ثالثاً: قول الصحابي:

1 - روي عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «إن الله ـ تعالى ـ لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» (?) .

وجه الدلالة منه:

نفي هذا الخبر أن يكون فيما حرم الله ـ سبحانه ـ على هذه الأمة شفاء، فدل هذا على عدم جواز التداوي بالمحرم.

تأول بعض العلماء هذا الخبر:

قال ابن عابدين والبابرتي: قول ابن مسعود هذا يحتمل أن يكون قد صدر عنه في داء عرف له دواء غير المحرم؛ لأنه حينئذ يستغنى بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تنكشف الحرمة عند الحاجة، فلا يكون الشفاء بالحرام، وإنما يكون بالحلال (?) .

2- روي عن نافع مولى ابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ قال: «كان ابن عمر إذا دعا طبيباً يعالج بعض أهله اشترط عليه أن لا يداوي بشيء مما حرم الله عز وجل» (?) .

وجه الدلالة:

أفاد هذا الأثر أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان لا يرى جواز التداوي بالمحرم، ومثل هذا لا يكون منه إلا عن توقيف؛ لأنه لا مدخل للرأي فيه.

رابعاً: المعقول:

1- إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ إنما حرم ما حرمه على هذه الأمة لخبثه، حماية وصيانة لها عن تناوله؛ فلا يناسب هذا أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل؛ فإنه إن أثر في إزالتها أعقب سقماً أعظم منها في القلب، بقوة الخبث الذي فيه؛ فمن يتداوى به يكون قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب (?) .

2 - إن مقتضى تحريم شيء تجنبه والبعد عنه، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته، وهذا يخالف مقصود الشارع (?) .

3 - إن الدواء المحرم خبيث، ويكسب نفس المتداوي به صفة الخبث؛ لأن النفس تتأثر بكيفية الدواء تأثراً بيناً؛ فإذا كانت كيفيته خبيثة اكتسبت النفس منه خبثاً (?) .

4 - إن في إباحة التداوي بالمحرم ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها، مزيل لأسقامها، وكانت تميل إليه؛ فهذا أحب شيء لها، وقد سد الشارع الذريعة إلى تناوله بكل ممكن، وثمة تعارض وتناقض بين سد الذريعة إلى تناوله وفتحها (?) .

المناقشة والترجيح:

إن الذي تركن النفس إليه من هذين المذهبين ـ بعد الوقوف على أدلتهما، وما اعترض به على بعضها، وما أجيب به عن بعض هذه الاعتراضات ـ هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول، من جواز التداوي بالمحرم في الجملة، إذا ثبت أن فيه دواء لداء معين، ولم يوجد دواء مباح يقوم مقامه في التداوي به من هذا الداء، ووصف الدواء المحرم طبيب مسلم عدل ثقة حاذق بالطب، أو كان المريض يعلم أنه لا ينفع في مرضه إلا هذا المحرم، لمعرفته بالطب، أو لتجربة سابقة له مع هذا المرض، ولم يكن في التداوي به ـ والحال هذه ـ اعتداء على حياة محقون الدم أو صحته، وكان الغالب من استعمال هذا الدواء السلامة لمن استعمله، وذلك لما استدل به أصحاب المذهب الأول من الكتاب الكريم والسنة المطهرة.

وأما ما استدل به أصحاب المذهب الثاني على حرمة التداوي بالمحرم فإنها محمولة على التداوي به في غير حال الضرورة إليه، كما قال ابن عابدين والبابرتي والعيني والبيهقي والنووي وغيرهم، أو أن الحرمة تزول عند الحاجة إلى استعمال الدواء المحرم، فلا يكون التداوي في هذه الحالة بمحرم، وإنما يكون بالحلال كما قال ابن البزاز وابن حزم وغيرهما، وحل التداوي به في هذه الحالة لا يقتضي الترغيب فيه وملابسته كما يقول أصحاب هذا المذهب؛ وذلك لأنه لا يتداوى به إلا عند الضرورة إليه، وهي حال نادرة التحقق، وإذا تحققت فلا تقتضي دوام ملابسته، للاقتصار منه على ما تندفع به الضرورة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015