عدنان عبد القادر كزّارة
رأيته بأم عيني ـ السيف العربي المعقوف ـ مضرجاً بالكريم (CRصلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلمM) كان منظره مهيباً؛ فقد انتهى لتوه من الفتك بقالب من (الكيك) بعد أن انهال عليه بضربات لا ترحم، حملته يد عربية ولوحت به في الفضاء كما يفعل الفرسان، ثم هوت به على القالب تمزق أحشاءه، وتقطع فيه طولاً وعرضاً، ثم سلمت السيف المضرج بالدم الأبيض إلى الفراش ينظفه وينشفه ويعطره، ثم يعيده إلى مكانه اللائق معلقاً على الجدار، مزداناً بحليته التراثية، استسلم ليد الفراش بخنوع، كان الفراش أعجمياً ومع هذا لم ينبس بكلمة، خوَّف به الأطفال الصغار، وعندما وضعه تحت الصنبور، وانهمر فوقه صنبور الماء بكى واختلط دمعه بالماء فلم يشعر به أحد. لقد تذكر نساء قومه وهن يتلقينه بلطف وحنان من أيدي الرجال العائدين من المعركة، ثم يمسحن الدم المتجمد على شفرته بأعراف الخيل فيبرق تحت الشمس مزهواً كعريس في الزفة. أنهى الفرَّاش غسله، وراح يجففه بالقماش وهو أسلس ما يكون قياداً. ثم أغمده في جفنه النحاسي المزركش، وتوجه به إلى قاعة السلاح في متحف الآثار الإسلامية ليُعلق منسياً حتى مناسبة أخرى. نظر بأسى إلى الرماح والتروس والخوذ والدروع، فتلقته عيون الرفاق بالدهشة والاستغراب، وتساءلوا عن سبب عودته مبكراً بعد أن ودعوه بالأمس، قالوا بلهفة:
- هل انتهت المعركة؟
- عن أي معركة تتحدثون؟
- إذاً، أين كنت، ولِمَ غادرتنا؟
- واخيبتاه! لقد جهزت نفسي ليوم طالما حلمت به، ولكن لم أدر أنهم كانوا يريدونني ليوم المطعمة لا ليوم الملحمة.
- يوم المطعمة؟
- نعم! واسمعوا مني الحكاية.
حملتني سيارة فارهة ـ أيها الرفاق ـ وسارت عبر شوارع جميلة لا رمل فيها إلى مكان بعيد، وصلته بأسرع من الخيل الأصيلة، كان المكان بناءً شاهقاً يطاول عنان السماء، ارتقى من يحملني طوابقه العديدة بخطفة البرق، وهو يضغط أزراراً فتفتح أبواب، ويضغط أزراراً فتوصد أبواب إلى أن دخل بي قاعة فسيحة مزدانة باللوحات والصور تغص بقوم من أجناس شتى، بعضهم يلبس زي آبائي وأجدادي، وبعضهم يلبس أزياء غريبة لا أكتمكم الأمر أني شعرت بنفور غريب منها.
تحلق القوم ـ يا أصدقائي ـ حول شيء كبير مسجّى على المائدة ذي ألوان زاهية قيل إنه (الكيك) ووقف وسط الحلقة رجل وقور عربي القسمات تلحظه العيون، وتتسابق إليه الأيدي بالتحية، قيل إنه (المدير) كان الجميع بانتظاري وكلهم متلهف لرؤيتي؛ فما أن أطللت بطلعتي حتى تسابقت الأيدي لحملي إلى أن أوصلوني للمدير، وحين أمسك بي راح يقلبني بإعجاب كما كان يفعل أجداده الميامين، وعلق أحد المحاضرين: (OH! itصs Original) لم أفهم لغته بالطبع، لكنني فهمت أنه معجب بي، هز المدير رأسه موافقاً وصار يهزني بطريقة أدخلت الغرور إلى نفسي، فجاشت عواطفي ورأيتني في ساح المعارك أخطِر يميناً ويساراً، مرهف القد، رقيق الظُّبة (?) ، أهفو إلى عناق الرؤوس واختراق الأجساد. لم يدم حلمي طويلاً؛ فسرعان ما أيقظتني يد المدير من أخذة الخيال؛ إذ جردني من غمدي، وهوى بي على قالب (الكيك) فغصت في خضم لزج كثيف، ثم سحبني في ثقل ليهوي بي في مكان آخر، ثم في مكان ثالث بين تهليل وتصفيق وكأنه يطعن بي نحور الأعداء وقلوبهم.
لم أحس حرارة الدماء تفرش وجهي، ولا طراوة اللحم ينشق بسرعة عن ساعدي، ولا صلابة العظام تتحطم تحت شفرتي، بل كان هناك شيء مختلف تماماً، لم أعهده في حياتي، ولم يعرفه تاريخ السيوف قبلي، جسد متماسك من الدقيق والسكر والزبد و (الكريم) أحاط بي من كل جانب حتى كدت أختنق، وما أن سحبت منه حتى كان (الكريم) اللزج يغشي وجهي كله كأنه وصمات عار. صدقوني يا إخوتي! إنني أحسست طعم الهزيمة لأول مرة في حياتي مع أني لم أقاتل، كنت أنزف داخلاً، وكان (الكريم) يشمت بي.
نعم! لا أنكر أن القوم بعد المعركة اعتنوا بي أيما اعتناء، فأسلموني إلى الفراش يغسلني ثم ينشفني ثم يعيدني إلى غمدي بكل رفق. لكن لا أعرف لماذا انتابني شعور بأنه يغسلني ويكفنني ويعدني للدفن، وحين عدت إليكم يا أصحابي! لم أصدق نفسي، كان فرحي عظيماً، صحيح أنني سأعلق على الجدار من جديد، ويعلوني الغبار، وربما صدئ حديدي، وصار حدي مفلولاً لكن هذا خير ألف مرة من تلك المعركة القاسية؛ حسبي أنني بين ظهرانيكم مرة أخرى.
تفرس الرفاق في وجوه بعضهم، وغمغموا بكلمات غامضة ضاعت في قاموس التاريخ المجيد، ثم استسلموا لنوم طويل.
قال الفراش العجوز المكلف بخدمة قاعة السلاح في متحف الآثار الإسلامية إنه سمع في الليل أصواتاً لصليل سيوف يشبه أنات بشرية، وفي الصباح حين تفقد القاعة كعادته كل يوم وجد السيف الذي استُعير لحفلة (الكيك) مطروحاً على الأرض وقد انشطر إلى نصفين