د. شاكر بن عبد الرحمن السروي
لم نعد في حاجة في أيامنا هذه إلى تأكيد قوة وانتشار العمل الإسلامي، ولم يعد ضرورياً البرهنة على تنامي الصحوة الإسلامية في شتى المجالات؛ فالعصر الحاضر وتداعياته وأحداثه تبرهن أن العملاق بدأ يتململ، وأن النصر قادم بإذن الله، تصديقاً لموعود رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام، بعز عزيز وذل ذليل: إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، أو يذلهم فيدينون لها، قلت: فيكون الدين كله لله» صححه الألباني ـ مشكاة المصابيح.
وليس أدل على ظهور الإسلام وتناميه من أن ملل ودول الكفر قاطبة قد تمالأت على حرب الإسلام وأهله بشتى الوسائل، ومن لم يستطع منهم ذلك صراحة سعى إلى ركوب موجة الإسلام، والسعي لتجييره لمصالحه، بالدعوة إلى مفهوم مسخ للإسلام بفتاوى غربية أو شرقية يصدرها أساطين الكفر هنا أو هناك.
والسؤال المطروح الآن: هل دعاة الإسلام وأبناؤه على مستوى الحدث؟
وهل هم على استعداد للمواجهة؟
لا شك أن الإجابة عن هذا التساؤل لا يمكن أن تُختزل في جانب واحد، فضلاً عن أن تكون في مقالة مختصرة.
لكني أستأذن القارئ الكريم لأجل هذا التساؤل للتأكيد على أهمية العمل المؤسسي في الدعوة إلى الله.
وبرغم اتفاق غالب الإسلاميين على ضرورة العمل المؤسسي، وسعيهم إلى عدم تسييسه إلى صالح جهات أو أحزاب أو دول بما يضر بأصل العمل ومنهج الدعوة، إلا أن واقع العمل الإسلامي يعاني من نوع آخر من التسييس، ألا وهو التسييس لصالح أفراد من داخل العمل نفسه، وهو الأمر الذي يعود بالعمل المؤسسي من اسمه البرَّاق إلى واقع محكوم بالفردية، يصبح فيه القرار ـ فضلاً عن العمل المباشر والتخطيط ـ بيد فرد ما، يصبح هو الكل في كل شيء، يأمر هنا وينهى هناك، يخطط لهذا الأمر، ويباشر ذاك العمل، يتجاوز كل مجموعة ويتخطى كل فريق عمل.
يعمل كل ذلك وفي الوقت نفسه هو القائد والمتحدث الرسمي، وهو المموّل المالي وأمين السر.
وباختصار شديد: فإن أي عمل لا بد أن يرتبط به ابتداءً أو انتهاءً أو فيما بين ذلك.
إنّ مثل هذه النوعية من أفراد العمل الإسلامي نوعية ـ ولا شك ـ معطاءة، وتملك من أسباب القوة الشخصية والعملية وعوامل الجذب والإقناع والاستعداد للبذل والتضحية ما يجعلها ـ بحق ـ من الأفذاذ.
لكنّ مكمن الخلل هنا في أنه يصبح هو الجماعة وهو المؤسسة وهو العمل كله، وفجأةً تنتهي المؤسسة الدعوية أو الجماعة أو الحزب إلى أن تكون هي ذلك الفرد.
وهو من خلال ذلك في محاكاة قريبة جداً لبعض الأنظمة الشمولية في العصر الحديث.
إن خطورة هذا المسلك ينعكس على الفرد المعني ذاته، وعلى من يعمل معه، ثم على العمل بشكل عام؛ وهو الأمر الذي يستوجب من أصحاب الغيرة وأهل الدعوة التنبه له، والسعي في علاجه قبل أن يصبح مرضاً مزمناً يصعب علاجه.
وإليكم ثلاثيات من مخاطر هذا المسلك على محاور ثلاثة:
أولاً: خطورته على الشخص نفسه:
1 ـ أنه يستهلك جميع وقته وكل جهده، ومن طبيعة البشر العجز والقصور، وعلى هذا فقد تجد الشخص نفسه يقع في خلل بيّن في جوانب شخصية أو أسرية، أو عبادية أو اجتماعية قد تنتهي به إلى النكوص والفتور، والله ـ جلّ وعلا ـ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
2 ـ إنّ تراكم الأعمال عليه، وتزاحم المهمات لديه تجعله غير قادر على التخطيط السليم، فضلاً عن المتابعة الدقيقة والتقويم. والمحصّلة النهائية هي أنه صاحب مشاريع بلا نهايات، وصاحب أعمال لا تدوم، وإنما الأمر بدايات تبدأ فقط لتنتهي بعد فترة من انشغاله عنها بغيرها.
3 ـ هذا الشخص لا تؤمَن عليه الفتنة ودواعي الغرور وحظوظ النفس، كيف لا، وهو يرى نفسه الوحيد في الميدان، وهو وحده الفاعل المؤثر وغيره نكرات لا دور لهم؟
قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي» رواه مسلم.
ثانياً: خطورته على العاملين معه:
1 ـ هذا المسلك يكرس في الأفراد المحيطين الاتّكالية، ويهمش أدوارهم، وينشر العجز عن النقاش، فضلاً عن التفكير والإبداع.
2 ـ كما أن المسلك نفسه يجعل فئات من المحيطين القادرين على الإبداع والتفكير والقيادة؛ ينفضُّون عن العمل، ويفضلون الابتعاد لشعورهم بعدم الرضا، ولما يظهر لمثلهم من الأخطاء، ويتضح لديهم من عيوب العمل نتيجة الفردية والمركزية.
3 ـ ربط الأفراد بأشخاص بذواتهم بعيداً عن المنهج السليم والعمل المؤسسي؛ مما قد ينحرف بهم ـ أو ببعضهم ـ عن النية الصحيحة وحسن القصد، وينتج عن ذلك أن يكون إقبالهم أو إدبارهم مرتبطاً بشخص ما لا بمنهج واضح، وفي هذا من الخلل والخطل ما لا تُجهل عواقبه، ولا تُحمد مآلاته.
ثالثاً: الخطورة على العمل الدعوي:
1 ـ غياب العمل المؤسسي، ومن ثم سهولة توقف العمل أو إيقافه، فضلاً عن الكثير من الأخطاء التي تنتج عن طبيعة الأعمال الفردية.
2 ـ سهولة اختراق العمل وكشف أسراره ومتابعة أطرافه؛ باعتبار ذلك نتيجة طبيعية (لوضع البيض في سلة واحدة) .
3 ـ مخرجات العمل (وخصوصاً من الأفراد) تتسم بالنمطية والرتابة، وأحادية النظرة بعيداً عن التجديد والإبداع.