محمد علي البدوي
جلس الشيخ وحيداً على تلة قريبة مشرفة على القرية، أخذ يراقب المشهد باهتمام بالغ، كانت الشمس تتهيأ للغروب، والشفق الأحمر يسد واجهة الكون، عندما بدأ الطريق يموج بأعداد غفيرة من الشباب وطلاب يؤمون الجامع الكبير في خشوع.
ندت دمعة ساخنة من عيني الشيخ، مسحها بيديه، ثم عاد يرمق الجموع التي انثالت على المسجد، ويرفع بصره إلى السماء ويتمتم:
ـ الحمد لله.. الحمد لله.
السماء ملبدة بالغيوم، والظلام الموحش يلتهم القرية في صمت موجع، وأرتال السيارات تحاصر القرية كاليعاسيب الكريهة، عشرات الجنود يدلفون إلى البيوت بلا استئذان، إنهم يقتادون الرجال والشباب وسط صراخ النساء، وعويل الأطفال الذي أخذ يقطّع سكون الليل الرهيب.
في المخفر بدت له الحقيقة واضحة كرائعة النهار؛ فالنظام بات يخشى من هذه التجمعات التي انتشرت وأخذت في الظهور. قال له الضابط وهو يداعب شاربه الكث المقزز:
يا أوغاد!!.. تعلمون الشباب الخلطة والعزلة.. وتدربونهم على إمامة الناس! الظلام الحالك يخنق المكان والعتمة الشديدة، لم تفتح شهيته للنوم بعد، كان إلى جانبه الشيخ حسان ـ إمام المسجد ـ بابتسامته الصافية المشرقة التي لم تبددها بقع الدم الحمراء وعلامات التعذيب التي أخذت تغطي وجهه.
ـ لقد أوقفوا كل شيء ... كل شيء.
ـ لا تحزن يا بني إن الله معنا.. وكفى.
ـ لقد أغلقوا المساجد.. ومنعوا المحاضرات.. وسجنوا العلماء والدعاء.
ـ المساكين! إنهم يحاربون الله.
ـ لقد انتهى كل شيء.. كل شيء.
ربت الشيخ على كتفه في حنان بالغ، وافتر ثغره عن ابتسامة مشرقة، تحامل على نفسه، ووقف منتصباً، ثم قال في عزم واثق وعينه ترنو إلى الأفق البعيد:
ـ هذا الدين يا بني لا يموت.. وستشرق شمسه من جديد.. وسيعود أقوى مما كان.
كان أذان المغرب قد انطلق جلياً ندياً، وعمّ الكون خشوع عجيب، والشيخ وسط هذه الجموع المؤمنة ينتظر إقامة الصلاة.