أ. د. ناصر بن سليمان العمر
تحدث فضيلة الكاتب في العدد السابق عن طبيعة الاختلاف في العمل الإسلامي: الأسباب والآثار؛ فذكر أقسام الاختلاف باعتباراته المختلفة (حقيقة المسائل المختلفة فيها ـ مدحهم أصحابه وذمهم) ، ثم بين مسألة الاختلاف هل هو خير ورحمة أم عذاب وشر؟ وهل عمل أهل العلم على الخروج من الخلاف؟ ثم بين حكم الاختلاف في العمل الإسلامي، وأخيراً ذكر من أسباب الافتراق: (تفاوت الناس في الطباع ـ وفي العلم والمعرفة) وفي هذا العدد يتابع فضيلته بيان أسباب الافتراق وآثاره. ـ البيان ـ
- ثالثاً: ومن أسباب الاختلاف اتباع الشهوات أو الشبهات:
فالأهواء والشهوات تدفع إلى ظلم الغير في سبيل تحصيل الشهوة، فيقع الخلاف، وينشأ الافتراق؛ «فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيس للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع «الذات» في كفة، والحق في كفة؛ وترجيح الذات على الحق ابتداءً!.. ومن ثم جاء هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة.. إنه من عمليات «الضبط» التي لا بد منها في المعركة.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45 - 46] .
وأما الشبهات والتأولات الفاسدة فتبعد الناس عن الحق إلى أقوال وآراء متباينة، ومن أظهر ذلك الافتراق الذي وقع في الأمة بانحراف ثنتين وسبعين فرقة عن الجادة.
كما أن اتباع الشهوات والشبهات سبب لعدد من الآفات الكفيلة بتمزيق الصف وتفريق الأمة، ولعل من أهما ما يلي:
(أولاً) : البغي:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ (?) وهو صاحب تجربة واسعة مع المخالفين: «وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المُسْتَنَّة في محنة الصفات والقرآن محنة أحمد وغيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على عليٍّ وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبِّهة على المنزِّهة، وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به وهو الإسراف المذكور في قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] » .
(ثانياً) : الغرور بالنفس:
فالغرور بالنفس يولد الإعجاب بالرأي، والكبر على الخلق، فيصر الإنسان على رأيه، ولو كان خطأ، ويستخف بأقوال الآخرين، ولو كانت صواباً؛ فالصواب ما قاله هو، والخطأ ما قاله غيره، ولو ارعوى قليلاً، واتهم نفسه، وعلم أنها أمارة بالسوء لدفع كثيراً من الخلاف والشقاق، ولكان له أسوة بنبينا -صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله - تعالى - له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] ، وإذا كانت صفة التواضع ولين الجانب من أوائل صفات المؤمنين فإنها في حق من انتصب للعلم والدعوة والفتوى والتعليم أوجب وأكثر ضرورة وإلحاحاً (?) .
(ثالثاً) : سوء الظن بالآخرين:
فهو ينظر لجميع الناس بالمنظار الأسود؛ فأفهامهم سقيمة، ومقاصدهم سيئة، وأعمالهم خاطئة، ومواقفهم مريبة، كلما سمع من إنسان خيراً كذّبه أو أوَّله، وكلما ذُكر أحد بفضل طعنه وجرحه، اشتغل بالحكم على النيات والمقاصد، فضلاً عن الأعمال والظواهر، والمصادرة للآخَر قبل معرفة رأيه، أو سماع حجته (?) ، ثم هو لا يتوقف عند هذا الحد، بل لسان طليق في أعراض إخوانه، بسبهم، واتهامهم، وتجريحهم، وتتبع عثراتهم، فإن تورع عن الكلام في أعراض غيره من الفضلاء سلك طريق الجرح بالإشارة، أو الحركة؛ بما يكون أخبث وأكثر إقذاعاً، مثل: تحريك الرأس، وتعويج الفم، وصرفه، والتفاته، وتحميض الوجه، وتجعيد الجبين، وتكليح الوجه، والتغير، والتضجر (?) ، «وأنت ترى هؤلاء الجُراح القُصاب، كلما مر على ملأ من الدعاة اختار منهم (ذبيحاً) فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة، تمرق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإنه من شعب الإيمان!» (?) .
(رابعاً) : حب الظهور بالجدل والمماراة:
ويكون دافع ذلك في الغالب هوى مطاعاً، وقد يكون قلة الفقه أو الفراغ وترك الاشتغال بما ينفع.
وقد روى الإمام أحمد (?) وغيره عن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» ، ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
[الزخرف: 58] .
قال الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة ـ رحمهما الله: «الخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة، لو كانت فضلاً لسبق إليها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأتباعهم؛ فهم كانوا عليها أقوى ولها أبصر، وقال الله ـ تعالى ـ: {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20] ، ولم يأمره بالجدل، ولو شاء لأنزل حججاً، وقال له: قل كذا وكذا» (?) .
وقال ابن قتيبة ـ رحمه الله ـ يصف الحال في أيام السلف ـ عليهم الرحمة والرضوان ـ: «كان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح، وفيما ينوب الناس فينفع الله به القائل والسامع؛ فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لا يقع وفيما قد انقرض.. وصار الغرض فيه إخراج لطيفة، وغوصاً على غريبة، ورداً على متقدم.
وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى؛ فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر؛ فهم دائبون يخبطون في العشوات، قد تشعبت بهم الطرق، قادهم الهوى بزمام الردى..» (?) .
فلما وقع الناس في الجدل تفرقت بهم الأهواء، قال عمرو بن قيس (?) : قلت للحكم بن عتبة (?) : ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات (?) .
وقد روي عن أبي قلابة - وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ: لا تجالسوا أصحاب الخصومات؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون (?) .
قال معن بن عيسى: «انصرف مالك بن أنس ـ رضي الله عنه ـ يوماً من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الحورية، كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا عبد الله! اسمع مني شيئاً أكلمك به، وأحاجك وأخبرك برأي.
قال: فإن غلبتني!
قال: إن غلبتك اتبعني!
قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟
قال: نتبعه!
فقال مالك ـ رحمه الله ـ: يا عبد الله! بعث الله ـ عز وجل ـ محمداً -صلى الله عليه وسلم- بدين واحد، وأراك تنتقل من دين إلى دين» .
وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل.
وجاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد! تعالَ حتى أخاصمك في الدين! فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني؛ فإن كنت أضللت دينك فالتمسه (?) !
وإذا كان الجدل والمراء والخصومة في الدين مذمومة على كل حال فإنها تتأكد في حق المقلدة والجهال.
ويتأكد ترك المراء والجدل في كل ما لا طائل من ورائه كملح العلوم والنوادر، وما لا يثمر عملاً غير السفسطة والتلاسن.
تنبيه: هذا السبب من أعظم أسباب الاختلاف المذموم، بل لا يكاد ينجم عنه اختلاف يحمد، ولعله عامل رئيس في إذكاء نار الفرقة والفتنة بين المسلمين، ولا سيما أن التنظير العلمي مستقر عند كثيرين؛ ولكن على الرغم من ذلك يقع الافتراق لوقوع الخلل في هذا الجانب، والله المستعان.
- رابعاً: ومن عوامل الاختلاف والتفرق: التعصب:
سواء كان سياسياً أو مذهبياً أو حزبياً أو لأفراد ورموز، وسواء كان لفرط حب أو فرط بغض.
إن التعصب إذا ران على القلب والعقل وطغى فإنه يحجبهما، ومهما عرضت على المتعصب من الحجج والبراهين فلن يراها.
يقول الماوردي ـ رحمه الله ـ: «ولقد رأيت من هذه الطبقة رجلاً يناظر في مجلس حفل، وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة؛ فكان جوابه عنها أن قال: إن هذه دلالة فاسدة؛ وجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه؛ فأمسك عنه المستدل تعجباً؛ ولأن شيخه كان محتشماً. وقد حضرت طائفة يرون فيه مثل ما رأى هذا الجاهل، ثم أقبل المستدل عليَّ، وقال لي: والله لقد أفحمني بجهله! وصار سائر الناس المبرئين من هذه الجهالة ما بين مستهزئ ومتعجب، ومستعيذ بالله من جهل مغرب» (?) .
وما أقبح هذا الجهل يوم يسري إلى طوائف تعد نفسها في عداد العاملين للإسلام الذائدين عن حياضه! ويزداد هذا القبح يوم يزعم أصحابها أنهم أهل الفكر المستنير والعقول غير المنغلقة، ويتضاعف القبح يوم ينتسبون إلى السلف أو السنة، والسلف والسنة من هذا التعصب المقيت براء.
يقول العلَم الإمام ابن تيمية ممتدحاً الأئمة الأعلام: «ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين: كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما؛ فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم-. فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك، أو الشافعي، أو أبي حنيفة، أو أحمد، أو غيرهم. ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلاً بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين؛ فيكون جاهلاً ظالماً، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم» (?) .
وقال مشيراً لآفة التعصب للحزب أو الجماعة: «وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً؛ فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل؛ فهذا من التفرق الذي ذمه الله ـ تعالى ـ ورسوله؛ فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان» (?) .
- خامساً: عوامل خارجية قادت إلى تفاقم الاختلاف:
وتتلخص في الحضارات والديانات التي ناصبت الإسلام العداء في القديم أو الحديث، وحتى لا يتشعب الحديث أتناول بالبيان العامل النصراني كمثال، فأقول:
لقد جاء الإسلام فألف بين أشتات العرب، بل ألف بين أهل الخير من العالمين؛ فبلال ـ رضي الله عنه ـ حبشي، وصهيب ـ رضي الله عنه ـ رومي، وسلمان ـ رضي الله عنه ـ فارسي، ومحمد بن إسماعيل شيخ المحدثين بخاري، وصلاح الدين الأيوبي بطل الحروب الصليبية كردي، ومحمد بن إسحاق أول من دوَّن السيرة النبوية فارسي، والطبري شيخ المؤرخين والمفسرين تركي، وإذا نظرت في سير تراجم أعلام الإسلام ومبدعيه وجدتهم من أقطار الأرض وأطرافها.
ومع ائتلاف هذه الخبرات المتنوعة وانسجامها ازدهرت حضارة الإسلام وقويت شوكة أهله.
وكان لهذا الائتلاف أثر في صد الغزو الصليبي عن بلاد المسلمين على مر التاريخ. وباسترجاع سير أولئك الذين وقفوا في وجه المد الصليبي تتضح هذه الحقيقة بجلاء، ولعل أشهر نموذج هو صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله.
وقد أدرك أعداء الإسلام من النصارى واليهود هذه الحقيقة، فكانت الخطوة الأولى التي قاموا بها من أجل السيطرة على بلاد الإسلام وجعلها تابعة ذليلة هي العمل على تفكيك وحدتهم عملاً بمشورة القساوسة ووصيتهم للساسة، ومن بعض أقوالهم في ذلك ما يلي (?) :
1 - يقول القس سيمون:
إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد على التملص من السيطرة الأوروبية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة من أجل ذلك يجب أن نحوّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية.
2 - ويقول المبشر لورنس براون:
إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنةً على العالم وخطراً، أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير.
ويكمل حديثه:
يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين؛ ليبقوا بلا قوة ولا تأثير.
3 - ويقول أرنولد توينبي في كتابه «الإسلام والغرب والمستقبل» :
إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ.
4 - وقد فرح (غابرائيل هانوتو) وزير خارجية فرنسا حينما انحل رباط تونس الشديد بالبلاد الإسلامية، وتفلتت روابطه مع مكة، ومع ماضيه الإسلامي، حين فرض عليه الفرنسيون فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية.
5 - من أخطر ما نذكره من أخبار حول هذه النقطة هو ما يلي:
في سنة 1907م عقد مؤتمر أوروبي كبير، ضم أضخم نخبة من المفكرين والسياسيين الأوروبيين برئاسة وزير خارجية بريطانيا الذي قال في خطاب الافتتاح:
إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء، والواجب يقضي علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار حضارتنا.
واستمر المؤتمر شهراً من الدراسة والنقاش.
واستعرض المؤتمرون الأخطار الخارجية التي يمكن أن تقضي على الحضارة الغربية الآفلة؛ فوجدوا أن المسلمين هم أعظم خطر يهدد أوروبا.
فقرر المؤتمرون وضع خطة تقضي ببذل جهودهم كلها لمنع إيجاد أي اتحاد أو اتفاق بين دول الشرق الأوسط؛ لأن الشرق الأوسط المسلم المتحد يشكل الخطر الوحيد على مستقبل أوروبا.
وأخيراً قرروا إنشاء قومية غربية معادية للعرب والمسلمين شرقي قناة السويس؛ ليبقى العرب متفرقين.
وبذا أرست بريطانيا أسس التعاون والتحالف مع الصهيونية العالمية التي كانت تدعو إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين» .
وقد ترجم المنصِّرون وأتباعهم تلك التصورات إلى حركات ونعرات عنصرية أو قومية، نجحت في التأليب على دولة الخلافة الإسلامية، وفي تفكيك عرى الأخوة بين المؤمنين عرباً وتركاً.
وإذا تأملت رواد حركة القومية العربية وجدت «كثرة كبيرة من رجال الرعيل الأول في هذه الحركة وفي هذا البعث من مسيحيي لبنان، مثل: البستاني، واليازجي، والشدياق، وأديب إسحاق، ونقاش، وشميّل، وتقلا، ومشاقة، وزيدان، ونمر، وصروف، وأغلبهم ممن اتصلوا بالإرساليات الإنجيلية الأمريكية التي بدأت تتوارد على بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لنشر مذهبهم البروتستانتي. وأكثرهم في الوقت نفسه قد رُموا بالماسونية؛ فإبراهيم اليازجي (1847 - 1906م) ، وأبوه ناصيف اليازجي (1800 - 1871م) كانا على صلة حسنة بالإرساليات الأمريكية الإنجيلية، وكانا يترددان على مطبعتهم في بيروت التي كان يشرف عليها وقتذاك الدكتور فانديك، وقد علَّم اليازجي الكبير في مدارسهم، وأعان ابنه في ترجمتهم التوراة إلى العربية، ثم قدم بعد ذلك إلى مصر ومات بها، واحتفلت المحافل الماسونية في القاهرة والإسكندرية بتأبينه، وهو صاحب قصيدتين مشهورتين في استنهاض همم العرب ودعوتهم إلى إحياء أمجاد آبائهم، ورفض التجبر والاستبداد، وفيهما دعا قومه من العرب إلى الثورة على الأتراك، وختم قصيدته مهدداً الترك بقوله:
صبراً هيا أمة الترك التي ظلمت دهراً فعما قليلٍ تُرفع الحجبُ
لنطلبن بحد السيف مأربنا فلن يخيب لنا في جنبه أَرَبُ
ونتركن علوج الترك تندب ما قد قدمته أياديها فتنتحبُ
ومن يعش يرَ والأيام مقبلة يلوح للمرء في أحداثها العجبُ
ومن مؤسسي هذه الدعوة أيضاً بطرس البستاني (1819 - 1883م) ، وقد كان أيضاً على صلة بدعاة المذهب الإنجيلي والبروتستانت من الأمريكان، وتولى منصب الترجمة في قنصلية أمريكا ببيروت. وأعان الدكتور (سميث) المبشر الأمريكي، ثم الدكتور (فانديك) من بعده في الترجمة البروتستانتية للتوراة التي تمت في سنة 1864م، ثم طبعت في أمريكا سنة 1866م، وأعان الدكتور (فانديك) أيضاً في إنشاء مدرسة عبية الأمريكية، وهي مدرسة عليا ترجع أهميتها إلى أنها كانت تقوم بتدريس العلوم الحديثة من جغرافيا وطبيعة وكيمياء ورياضة باللغة العربية. وقد وضعت لذلك كتباً خاصة قامت بطبعها؛ فشاركت بذلك في حركة الإحياء العربية..، ومن الذين شاركوا في هذه الدعوة أيضاً من مسيحيي لبنان (فارس الشدياق 1801م - 1887م) الذي تسمى بعد إسلامه بـ (أحمد) وكان قد اتبع المذهب الإنجيلي على يد المرسلين الأمريكان، فتولوا حمايته من بطش رجال الإكليروس الذين حبسوا أخاه، وعذبوه حتى مات في سجنهم بسبب تغييره مذهبه. حضر على نفقتهم إلى مصر في أيام محمد علي، ثم طوَّف كثيراً بين دول أوروبا والآستانة وتونس ومصر، ووصف كثيراً من هذه الأسفار في صحيفته (الجوائب) التي أصدرها سنة 1277هـ. وقد استدعته جمعية ترجمة التوراة البروتستانتية في لندن سنة 1848م، فأعان في ترجمتها إلى العربية، وله كتب كثيرة تغلب عليها النزعة اللغوية..، ومن دعائم هذه الدعوة أيضاً (سليم تقلا) مؤسس صحيفة (الأهرام) المصرية (1849 - 1892م) . تلقى علومه في مدرسة (عبية) التي أنشأها المبشر الأمريكي الدكتور (فانديك) أحد مؤسسي الجامعة الأمريكية التي بدأت سنة 1866م باسم (الكلية السورية الإنجيلية) .
ومنهم (جرجي زيدان 1861 - 1914م) الذي كان على صلة بالمبعوثين الأمريكان، وكان يدعى إلى احتفالات الخريجين بكليتهم، ثم التحق بالجامعة الأمريكية سنة 1881 لدراسة الطب، وغادرها دون أن يتم دراسته في العام التالي، وهو صاحب المباحث المعروفة في اللغة العربية وآدابها. ومؤلف سلسلة من القصص التاريخية العربية..، ومنذ ذلك الوقت نشأت التفرقة بين العروبة والإسلام على يد هذه الطائفة من المفكرين والكتاب من نصارى الشام» (?) .
ولهذا لم يكن مستغرباً أن ينقلب الشاعر العراقي معروف الرصافي على دعاة الجامعة العربية حين عقدوا مؤتمرهم في باريس سنة 1913م بعد أن كان مؤيداً لهم بشد أزر دعوتهم بشعره، وذلك في قصيدته (ما هكذا) التي بدأها بقوله:
أصبحت أوسعهم لوماً وتثريباً
لما امتطوا غارب الإفراط مركوباً
وفيها يقول:
إني لأُبصر في (بيروت) قَائِبَةً للشَّرِ موشِكةً أنْ تُخرِج القُوبَا (?)
لو كان في غير (باريزٍ) تألُّبُهم ما كنت أحسبهم قوماً مناكيبا
لكن (باريزَ) ما زالت مطامِعُها ترنو إلى الشام تصعيداً وتصويبا
ولم تزل كلَّ يوم في سياستها تلقي العراقيلَ فيها والعراقيبا
هل يأمن القوم أن يحتل ساحتهم جيش يَدكُّ من الشام الأهاضيبا
وما قاله تحقق، فما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى غدت الشام وغيرها من بلاد الإسلام موزعة بحسب القسمة التي تنبأ بها شكيب أرسلان في خطابه الموجه إلى الشريف حسين، حين بلغه عزمه على غزو سوريا مع جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى؛ فأرسل ينهاه عن المضي فيما هو فيه من دعوة زعماء السوريين للخروج على الدولة العثمانية، والالتحاق بالجيش الحسيني العربي، ويحذره عاقبة هذه الغارات التي يضرب فيها العرب بالعرب؛ فيقول له فيما يقول: «أتقاتل العرب بالعرب أيها الأمير، حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سورية، واليهود على فلسطين» ثم يخاطب القائمين بالدعوة قائلاً: «قل لهؤلاء القائمين بالدعوة العربية، الناهضين لحفظ حقوقها وأخذ ثاراتها: ماذا إلى اليوم أمنوا من حقوق العرب بقيامهم؟
ليقولوا لنا: ماذا أقاموا للعرب من الملك حتى نشكرهم، ونقر بفضلهم؟ إننا عرب نحب كل من أحب العرب، ونبغض كل من أبغض العرب، ولا نبالي بالقيل والقال أمام الحقائق» (?) .
وحتى لا نستغرق في الاستطراد نرجع فنؤكد على التأثير النصراني في تفرقة المسلمين، وننبه إلى أنه لم يكن وليد العصر الحديث، ولكنه اشتد ونجح في القرون الأخيرة فأتى أُكُلَه وثماره المريرة، ولا يعني ذلك بحال عدم وجود محاولات قديمة من النصارى لتفريق صف المسلمين، بل كانت لهم صولات وجولات كان لها أثرها الفعال في شق صف أمة الإسلام.
فـ «المراجع القديمة تثبت لنا أن «القدرية» أخذوا أقوالهم في القدر عن النصرانية، وتذكر لنا اسمين ارتبط بهما شيوع ذلك الاتجاه ونقله إلى المسلمين، وهما: معبد الجهني، وغيلان الدمشقي. قال ابن قتيبة ـ رحمه الله ـ عن غيلان: كان قبطياً قدرياً، لم يتكلم أحد في القدر قبله، ودعا إليه معبد الجهني.. ونحو مما ذكره ابن قتيبة نُقل عن الأوزاعي وابن نباتة والمقريزي وغيرهم» (?) .
فأثر النصارى في اختلاف المسلمين قديم، وأما أثر اليهود فهو أظهر وأخطر في القديم والحديث، ولعله لا يتسع المقام لبسطه، وقد ركزت على الأثر النصراني لخفائه عن بعض الناس.
- آثار الافتراق المذموم:
لن يتناول الحديث آثار الافتراق المحمود والذي مضت الإشارة إليه؛ فالغالب أن آثاره حميدة، ومنها التنوع في أساليب عرض الخير، وتعدد التخصصات الدعوية والإسلامية، وغير ذلك.
ولكني سأتناول الآثار السلبية للافتراق المذموم، ولن أطيل في تفصيلها وخاصة أن الواقع يحكيها، ويلقي دروساً مفصلة فيها، ويشرحها شرحاً مسهباً، ولعل من أهمها ما يلي:
أولاً: الضعف والعجز:
والنتيجة الطبيعية لذلك تخلف النصر والأمة وعجزها. قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] .
قال ابن سعدي: « {وَلا تَنَازَعُوا} تنازعاً يوجب تشتت القلوب وتفرقها؛ {فَتَفْشَلُوا} أي: تجبنوا {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: تنحل عزائمكم، وتفرق قوتكم، ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة الله ورسوله» (?) .
وفي الآية السابقة «عوامل النصر الحقيقية» : الثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله بالذكر، والطاعة لله والرسول، وتجنب النزاع والشقاق، والصبر على تكاليف المعركة، والحذر من البطر والرئاء والبغي..» (?) .
وقد علم العقلاء أن الاجتماع سبب قوة ومنعة..
كونوا جميعاً يا بَنِيَّ إذا اعترى خطبٌ ولا تتفرقوا أفرادا
تأبى الرماحُ إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا
ثانياً: هلاك الأمة:
صح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» (?) .
قال في تحفة الأحوذي: «واختلافهم عطف على الكثرة لا على السؤال؛ لأن نفس الاختلاف موجب للهلاك بغير الكثرة» (?) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هلاك الأمم من قبلنا إنما كان باختلافهم على أنبيائهم، وقال: أبو الدرداء، وأنس، وواثلة بن الأسقع: «خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن نتنازع في شيء من الدين، فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله، قال: ثم انتهرنا، قال: يا أمة محمد! لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار، ثم قال: أبهذا أُمرتم؟ أوَ ليس عن هذا نُهيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا» . وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص أنهما قالا: «جلسنا مجلساً في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأنه أشد اغتباطاً، فإذا رجال عند حجرة عائشة يتراجعون في القدر، فلما رأيناهم اعتزلناهم، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلف الحجرة يسمع كلامهم، فخرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مغضباً يعرف في وجهه الغضب، حتى وقف عليهم، وقال: يا قوم! بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به، ثم التفت فرآني أنا وأخي جالسين؛ فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم، قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن عبد الله، والحميدي، وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقال أحمد ابن صالح: أجمع آل عبد الله على أنها صحيفة عبد الله» (?) .
ثالثاً: العقوبات المعنوية:
روى البخاري وغيره عن عبادة بن الصامت: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرُفعت» (?) الحديث.
قال النووي: «وفيه أن المخاصمة والمنازعة مذمومة، وأنها سبب للعقوبة المعنوية» (?) ، وقال ابن حجر: «قوله: (فتلاحى) بفتح الحاء المهملة، مشتق من التلاحي بكسرها، وهو التنازع والمخاصمة ... قال القاضي عياض: فيه دليل على أن المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية أي الحرمان» (?) .
رابعاً: الجهل بالحق والبعد عنه:
فإذا رأى طالب الحق أن أهله مختلفين فيه على أقوال عديدة، وكل طرف منهم شط فيما اختار؛ التبس الأمر عليه، وربما نفر من الحق وأهله جراء اختلافهم.
ونتيجة هذا أن يعيش أهل الحق غربة بين الناس:
وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تَحَكَّمُ
خامساً: براءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المفترقين:
قال الله ـ عز وجل ـ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] ، يقول القرطبي ـ رحمه الله ـ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} هم أهل البدع والشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة، {شِيَعًا} فرقاً وأحزاباً، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض؛ فهم شيع {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} ؛ فأوجب براءته منهم» (?) .
سادساً: اسوداد وجوه طوائف من المفترقين يوم القيامة:
كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 105 - 107] .
هذا والله نسأل أن يلم شعث الأمة، وأن يوحد صفها، وأن يجعل الدائرة لها، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.